"الإلغاء الثقافي للفلسطينيين"

عن الإلغاء والإلغاء الذاتي... "رمّان" في "برلين السينمائي"

2024-02-06 01:00:00

عن الإلغاء والإلغاء الذاتي...

فلتقوَ المقاطعة الثقافية لكل مدينٍ للفلسطينيين أو داعمٍ لمحتلّهم، في ألمانيا وغيرها، ولكل ملغٍ لحضورهم ومحتفٍ بمحتلّهم. وليقاوم الفلسطينيون محاولات إلغائهم الثقافية، بإعلاء الصوت وتكبير الصورة وإثبات الحضور كيفما استطاعوا، ممثّلين عن بلد لم يتعب أهلها من مقاومة محاولاتِ محوٍ وجوديٍّ لهم، منذ أكثر من قرن.

خلال الشهرين الفائتين، كدتُ بين لحظة وأخرى ألغي الاعتماد الصحافي الذي نالته "رمان" من مهرجان برلين السينمائي لدورته الحالية، وفي ذهني كلماتٌ أرسلُها إلى المهرجان أعبّر فيها عن مقاطعة مجلة لهم، هي من بين الجهات الصحافية العربية القليلة التي تقدّم تعليقات نقدية عن الأفلام من المهرجان مباشرة، والوحيدة المستقلة، كما فعلتْ العام الماضي في "برلين" وغيره، في سعي لمكانة جديدة للمجلة في النشر الثقافي التخصصي والنقدي والجاد، وليس الإخباري المُلاحق لكواليس المهرجانات وثرثراتها.

ثم، في لحظة قلت "له، طوّل بالك". تراكمت الأفكار في رأسي وتفاعلت، وتوافقَ معي عليها من كتّاب المجلة وكاتباتها طمأنتْني استشارتُهم. فلتكن المجلة هناك، إذن، لأسباب ضرورية أصيغها في هذه المقالة، وأجدها فرصة لاستمرارية طرح النقاش حول ما الذي نقاطعه وكيف ولماذا؟

تتالت أخيراً الدعوات لمقاطعة المؤسسات الثقافية الألمانية، مع غباشة في الطرح وجدتُه في "إضراب ألمانيا" الذي تكمن أهميته في الموقّعين عليه، تحديداً الفرنسية آني إرنو (هنا ملفّنا عن الروائية النوبلية المناصرة للفلسطينيين)، أكثر مما هو في نصّه الذي تاه في المنتصف ما بين الإضراب عن التعامل مع جميع المؤسسات الألمانية أو فقط تلك التي مارست قمعاً على الفلسطينيين ومناصريهم. ولم تكن من هذه الدعوات، إلى لحظة نشر هذه المقالة، بيان أو موقف لحركة المقاطعة، BDS، الذي يمكن له أن يكون رأياً استشارياً خبيراً في مسائل كهذه، تعود لاختصاص الحركة في موضوعها ولعمليات البحث الواسعة التي تقوم بها لصياغة بياناتها. لم يكن الموضوع، إذن، ذا أهمية عليا لأصحاب الاختصاص.

رغم أني لا أجد في أي نصٍّ إلا مساحة ومناسَبة للجدال، ولا آخذه بوصفه مكتملاً، إلا أني أشرت إلى البيان الحاضر والآخر الغائب، أعلاه، لأنطلق في تحديد ما أراه، بأن الواقعي والضروري هو مقاطعة المؤسسات والمهرجانات (الألمانية قبل غيرها) التي أدانت أيّ فعل فلسطيني منذ السابع من أكتوبر، والتي مارست إلغاءً ثقافياً تجاه الفلسطينيين أو مناصريهم، والتي فرضت على الفلسطينيين المنتفعين من تمويلاتها اشتراطات سياسية. وليكن ذلك متعلقاً بالمؤسسات الغربية عموماً كونها المعنية، لا محصوراً بأسوأ أمثلتها وهي الألمانية. لكن مقاطعة كل ما هو ألماني يبقى مراهقةً نضالية لا تصيب أهدافاً لم تحدّدها أصلاً.

ما ذكرته أعلاه عن سياسات ثقافية ضد الفلسطينيين، لا ينطبق على مهرجان برلين السينمائي. لماذا؟

لن نطلب، أولاً، من مهرجان دولي في برلين ما نطلبه من مهرجان عربي للسينما مثلاً، فالموقف الأقرب للحيادية في ألمانيا اليوم هو متقدم سياسياً. الحيادية هذه لن نقبلها من مهرجان أو مؤسسة ثقافية عربية (لذلك اعتذرت أخيراً عن عدم الحضور في ندوة عن السينما الفلسطينية تنظّمها هيئةٌ حكومية في بلد أنتقد سياساته تجاه القضية، مبيّناً في رسالة بأن السبب سياسي). فلا تقاس المواقف بمقياس واحد للعربي والأوروبي، بل تؤخذ السياقات والعوامل الذاتية والموضوعية في اعتبارات كل حالة بعينها.

مهرجان برلين السينمائي لم يقدّم حتى اليوم بياناً واحداً، في موقعه أو منصّاته، داعماً لدولة الاحتلال، رغم انفلات المؤسسات والمهرجانات الأوروبية لإدانة "حركة المقاومة الإسلامية" ("إدفا" الهولندي مثلاً، الذي يديره سوريّ)، بل لإدانة أي فعل تضامني مع أهالي غزة وكل فلسطين في ظرف الإبادة الجماعية التي يتعرّضون لها.

بخلاف ذلك، ذكر المهرجان في بيان مقتضب، ١٩ يناير، بأنهم يعبّرون عن "تعاطفهم مع كل ضحايا الأزمات الإنسانية في الشرق الأوسط وكل مكان." يكملون في التعبير عن قلقهم "من انتشار مشاعر وخطاب الكره المعادي للسامية والمعادي للمسلمين في ألمانيا"، وأنه "كمؤسسة ثقافية، سيتخذ موقفاً حازماً تجاه كل أنواع التمييز." وهو ما كرّره بحذر مديراه في المؤتمر الصحافي، ٢٢ يناير، من دون انحياز لدولة احتلال صار الانحياز لها أشبه بالعرف في المجال الثقافي الألماني والفرنسي وعموم الغربي. ففي سؤال المدير الفني للمهرجان كارلو تشاتريان، عن المقاطعة الثقافية لألمانيا، أجاب بأن في المهرجان فيلمين فلسطيني [وثائقي عن تدمير الاحتلال لـ"مسافر يطا" قرب الخليل] وإسرائيلي، وأنهم لا يلغون أي فيلم تبعاً لبلده. وأنهم مهرجان دولي ويعطي مساحة سياسية، وأنّ "الداعين للمقاطعة يفعلون ذلك للفت النظر إلى ما هو مؤلم للجميع في العالم."

للعبارات الموزونة هنا ثقلها في أكبر مهرجان ثقافي ألماني، ومن بين الثلاثة الأكبر سينمائياً في العالم.

وفي وقت ألغيت فيه نقاشات ولقاءات حول فلسطين في أوروبا منذ أكتوبر، بدءاً من معهد العالم العربي في باريس وامتداداً إلى جامعات الولايات المتحدة، سيخصّص المهرجان ما سمّاه "Tiny House" (البيت الصغير) ليكون "مساحة للّقاء من أجل حوار مفتوح عن الحرب في غزة"، يشرف عليها ناشطان ألمانيّان، امرأة من أصل فلسطيني ورجل من أصل يهودي. والنظر في صفحة كل منهما على انستاغرام يوحي بميول كليهما، المرأة تحديداً، نحو إنهاء الحرب وإحلال السلام، وهو ما يُعتبر اليوم فعلاً متقدماً في دولة تعيش مكارثية متطرفة في كل ما خص فلسطين.

هذا ما يجعل المهرجان دولياً مترفّعاً عن زعرنات المؤسسات الوطنية الألمانية التي صارت خط الدفاع الثقافي الأول عن حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة.

حالة الحياد الإنساني التي تموضعَ فيها المهرجان إذن، لم تعطني سبباً لمقاطعته، مع توقّعي المسبق لموقف له متلائم مع أجواء الترهيب الثقافية في ألمانيا، وهو ما ترفّع عنه. لكن للمجلة الفلسطينية أسباب أخرى كي تحضر، لا أكتفي إذن برفض المقاطعة بل بضرورة الحضور.

المقاطعة المنادى بها أخيراً، أتت لجملة أسباب من بينها إلغاء الصوت الفلسطيني. تكون المقاطعة تضامنية من غير الفلسطينيين طالما بقي حضور الفلسطينيين ملغياً. من ذلك وجدتُ ضرورة في أن تكون المجلة هناك، لسببين أولهما تكريس التخصّص الثقافي في المجلة التي ساهمت في توسيع الصحافة الثقافية الفلسطينية وإعلائها، بذلك تحضر في هذا المهرجان (تحديداً) أو ذاك، صحافة ثقافية فلسطينية من خلال "رمّان"، ولا أعتقد أن في سجلات المهرجان جهة صحافية معتمَدة تمثل فلسطين، غيرنا. وفي السنوات الأخيرة صار للصحافة الفلسطينية مكان في مهرجانات "برلين" و"كان" و"سان سيباستيان"، مع أمل أن نتوسّع إلى فضاءات فنّية أخرى.

ثاني السببين لضرورة الحضور هو التحسّب لطارئ مستبعَد لكل ما أوردتُه أعلاه، وهو أن يهطل علينا فجأة برنامج إضافي لسينما إسرائيلية مثلاً، أو خطاب متلفز أو أي إشارة إلى أي نوع من الدعم لإسرائيل في المهرجان، لتكون المجلة حاضرة وأكتب من هناك عن الحاصل من داخله. لذلك احتمالان: أن يكتشفوا انتقادات هذه المجلة التي أعطوها اعتماداً فيلغوه فنصنع فضيحة، وأن يغضّوا الطرف فتكون الفضيحة نقدية على صيغة مقالات. لكن هذا السيناريو لما قد يكون طارئاً مفاجئاً، غير واقعي ولا محتمَل، لالتزام المهرجان ذي الثقل المعنوي والفني، بمؤتمره الصحافي وبياناته السابقة لانطلاقه. ستكون إذن، "رمّان"، هناك، بصفتها المجلة الفلسطينية الوحيدة التي تشقّ طريقها في صحافة تخصّصية ونقدية، لا تبنى تغطياتها على أخبار الوكالات الواصلة إلى المكاتب.

لا سبب للمقاطعة إذن، ولن تقوم المجلة بإلغاء ذاتها، وإنْ ألغاها المهرجان لن تبقى صامتة. تقابله أسباب للحضور، مقاوَمةً لحالة الإلغاء المفترَضة.

موقف مهرجان برلين السينمائي، الوازن، يستحق أن يكون موضع نقاش واعتبار للبناء عليه. مهرجان بهذا الحجم، في ألمانيا، لم يدِن أي فلسطيني منذ أكتوبر ولم يدعم أي إسرائيلي. هو ليس مؤيداً للفلسطينيين طبعاً، لكنه ببساطة ملتزم بمهنيّته السينمائية التي أخرجته عن منطق البلطجة الثقافية الألمانية. المقابل الموضوعي لهذا الموقف في -لنقُل- بلجيكا أو إسبانيا أو النرويج، هو تضامن إنساني صريح مع ضحايا الحرب في قطاع غزة. موقف ألماني كهذا يجب أن يكون حالة دراسة في كيفية استثماره والبناء عليه وتحويل مواقف دونه، تكون أميَل إلى الاحتلال، إليه، في مساحة تمهيدية لتقديم ونشر وتثبيت السردية الفلسطينية لهذه الحرب الإبادية، السردية التي تتسلّح بتبنّي محكمة العدل الدولية لها أخيراً. أما مطالبة المؤسسات الغربية بموقف متطابق مع عواطف أصحاب مطاعم "٧ أكتوبر" في الأردن ولبنان، فهي لا تتخطى حدود النكتة.

فلتكن المقاطعة مستهدِفة لجهات عينيّة، ولأسباب محدَّدة، لا إطاراً عاماً رخواً يتّسع للجميع يسهل الحكم فيه والمزاودة، ويسهل بالتالي تفنيده. فلتكن المقاطعة لغاية كسب الآخر لا عزلنا أكثر عنه. فلتكن المقاطعة موقفاً واعياً لغايته الكبرى، وهو النضال ضد إلغاء الفلسطيني، ضد إسكاته وتغييبه، لا سلوكاً لاواعياً لإلغاء الفلسطيني لذاته. فلتكن المقاطعة منهجاً فكرياً وفعلياً لا شعاراً كلامياً.

فلتقوَ المقاطعة الثقافية لكل مدينٍ للفلسطينيين أو داعمٍ لمحتلّهم، في ألمانيا وغيرها، ولكل ملغٍ لحضورهم ومحتفٍ بمحتلّهم. وليقاوم الفلسطينيون محاولات إلغائهم الثقافية، بإعلاء الصوت وتكبير الصورة وإثبات الحضور كيفما استطاعوا، ممثّلين عن بلد لم يتعب أهلها من مقاومة محاولاتِ محوٍ وجوديٍّ لهم، منذ أكثر من قرن.