وهنا جاء الكتاب ليفعل ذلك، القراءة كفعل لمواجهة التوحّش والحفاظ على الكينونة الانسانية من التآكل بين رحى الحرب التي تطحن كل شيء، وأبشع ما تطحنه هو القدرة على الإحساس بالألم كما يجدر بالإنسان يُباد أن يشعر ويعيش.
في الطريق المُطل على البحر بمنطقة مواصي خانيونس، حيثُ ينزح عشرات الآلاف في خيامٍ متزاحمة ومتراصة على جانبي الطريق، كنتُ أسيرُ مُجهداً وسط حشد هائل من المّارة وسيارات النقل التي تنقل الناس عبر شارع الرشيد، أو طريق البحر كما هو دارج تسميتهُ بين الناس في قطاع غزة.
طريقٌ طويلة ومزدحمة أصبحت مركز المدينة، بعد أن اجتاحت الآليات العسكرية الإسرائيلية المدينة حتى أطرافها الغربية بالقرب من منطقة المواصي على شاطئ البحر، وحشرت الناس من سكان خانيونس، ومن سكان المناطق الأُخرى شمال وادي غزة والذين نزحوا إليها في تلك المنطقة، وكان مجرد النظر إلى الناس في هذه الطريق وما يعتلي وجوههم الشاحبة وعيونهم المُصفّرة؛ بسبب عدوى التهاب الكبد الوبائي التي انتشرت بينهم، بالإضافة إلى أجسادهم الهزيلة يثير في النفس الكآبة.
أُناس متعبون في طريقٍ ضيقة على جانبيها عربات بيع صغيرة ووسطها سيارات نقل وعربات تجرها الأحصنة والحمير، فيما الناس تسير في مسافاتٍ ضيقةٍ ومحدودةٍ داخل هذه اللوحة شديدة الكآبة والاختناق، كنتُ أسير وسط هذا المشهد البائس أُمرر عينيّ بلا هدف على عربات بيع كل شيء التي أقامها الناسُ على جانبي الطريق، عرباتٌ لبيع المعلبات التي توزعها الجهات والمنظمات الإعاثية الدولية: علب فول وفاصولياء وبازيلاء وسردين وتونة، علب بأشكالٍ وأحجامٍ ومذاقاتٍ مختلفة، مرصوصة فوق بعضها البعض برتابة وشكلها يُثيرُ الاشمئزاز، عرباتٌ أخرى لبيع المسروقات التي سُرقت من بيوت الناس بعد أن تركوها ونهبها اللصوص: أنابيب غاز الطهي، وبطاريات الشحن، وألواح الطاقة الشمسية، وأواني مطبخ، طناجر وأطباق، جميعها سُرقت من بيوت الناس، عرباتٌ أخرى تبيع أقراص الفلافل المقلية على نار الخشب، وعرباتٌ لبيع المياه الصالحة للشرب وأخرى لببيع الملابس المسروقة كذلك، وبين كل تلك العربات كنت أسير مُمرراً عينيّ بلا هدف، مرور بطيء رتيب ميت لا معنى له، إلى أن وقعت عيناي على طاولة لبيع الكتب، حوّل المشهد عينيّ المريضتين بالكآبة إلى عينين متشنجتين ومستيقذتين كأنما أصابهما تيارٌ كهربائي، أثار مشهد الكتب المُرتبة إلى جوار بعضها البعض بطريقةٍ منظمةٍ على مفرشٍ نظيف فوق طاولة أكثر أناقة من الطاولات جاراتها المصنوعات من خشب "المشاطيح" بطريقةٍ بدائية ومتواضعة، موجة عارمة من مشاعر مختلطة ومتناقضة: نوستولجيا وحنين إلى مكتبتي الخاصة في ببتي والتي قاومت كل محاولات الانجرار للبدء بحرق كتبها، بعد أن انقطع غاز الطهي مع بداية الحرب ونفذت بسبب اعتماد الناس في الطبخ على الورق وقطع الكارتون، كل الأوراق والكراتين المُهملة في الشارع، وكدتُ أنزلق في حفرة حرق الكتب لإشباع جوع الصغار، لولا صاحب البقالة أسفل البناية حيث أسكن والذي قدم لي مجموعة من قطع الكرتون لأستخدامها وقود في "فرن الطينة" وبهذا جعلني أحافظ على وجود الكتب داخلها بحالتها وعددها دون أن ينقص منها كتاباً واحداً إلى أن غادرتُ البيت نازحاً منه إلى مدينة رفح بعد أن اجتاحت الآليات العسكرية خانيونس، وإلى جوار الشعور بالحنين إلى المكتبة الذي أثاره شكل الكتب على الطاولة، شعرتُ بالحزن كون الكتب على الأغلب مسروقة من مكتباتٍ عامة أو خاصة، ولم أكن قادراً على تخيّل أن تُسرق مكتبي التي بذلتُ مجهوداً جسدياً ونفسيا هائلا لتجنب حرقها، بالإضافة إلى الشعور بالدهشة، فمن سيتهم بالكتب الآن في هذه المَقتلة التي أكلت الأخضر واليابس؟ من سيدفع نقوداً لشراء الكتب في الوقت الذي يتضور فيه الناس جوعاً وفقراً وعوز؟ ومشاعر أخرى من الارتباك العام من وجود طاولة لبيع الكتب في مشهد يغرق بالمأساة والألم على ذلك النحو.
أخبار قالتها عربة الكتب عن المدينة
بعد أن تمكّنت من استيعاب المشهد بكل تفاصيله وما تزامنَ معها من مشاعرٍ مختلفة، وقفتُ أنظرُ بتأنٍ نظراتٍ فاحصةٍ إلى الكتب المرصوصة على طاولة الكتب في جانب الطريق، العناوين التي تنام إلى جوار بعضها البعض في حرب الإبادة فيما يسير الناس من جانبها بعيونٍ ميتة وقلوب يأكلها الحزن ووجوه يعتلها الوجوم وترتخي فوقها التعاسة، كانت العناوين في أغلبها لكتبٍ مؤلوفةٍ بالنسبة لي، كتب سبق وأن قرأتها في مكتبةٍ ما، أو حتى اقتنيتها في مكتبي الخاصة في أيامٍ خلت كنتُ فيها أقطعُ مسافاتٍ طويلةٍ لاقتناء كتاب.
"الأم" لمكسيم غوركي و"العمى" لجوزيه ساراماغو، "الحنين إلى كاتالونيا" لجورج أورويل، و"الأيام" لطه حسين، ومجموعة أخرى من الكتب الدينية المهتمة بالتصوّف الرسالة القشيرية وديوان شعر ابن الفارض، كان النظر إلى الكتب على الطاولة يسيرُ ضمن وتيرة عادية ومطمئنة، فالكتب يُمكن أن تكون في أي مكتبة عامة أو حتى متجر كتب، وقد تكون مأخوذة منه، إلى أن وقعت عيني على كتاب "ظهيرة: قصائد في عربة الاسكافي" للصديق نضال الفقعاوي والذي كان موجوداً بينَ الكتب على الطاولة.
للوهلة الأولى شعرتُ بسعادةٍ غامرة لوجود المجموعة الشعرية لنضال بين الكتب الموجودة على الطاولة، فلقد أحببت القصائد وعشت معها سنوات، كنت فيها كلّما مرَّ وقتٌ عدتُ إليها وقرأت فيها، إلى أن هالتني فكرة أن الكتاب ربمّا يكون مأخوذاً من مكتبي الخاصة، وهذا يعني أن شقتي قد تكون تعرضت للسرقة، كانت الدبابات الإسرائيلية قد دخلت بالفعل إلى كل الأماكن في مدينة خانيونس، وكنا نتابع أخبار التقدم الإسرائيلي في مناطق وأحياء مختلفة من المدينة، وكنّا نستدل على مدى توغل الآليات في قلب المدنية ليست فقط بأصوات الانفجارات وأعمدة الدخان التي كانت تبدو لنا حيث كنّا ننزح في منطقة المواصي على الأطراف الغربية من مدينة خانيونس قريبة، ولكن بجحم المسروقات التي كان الناس يرونها معروضةً للبيع في شارع البحر، قلتُ محدثاً نفسي: إن كان هذا الكتاب قد أُخذ من مكتبي بالفعل فهذا يعني أن الدبابات وصلت المنطقة حيث أسكن وأنَّ الجيش ربمّا دخل الشقة، وأنَّ اللصوص دخلوها بعده، وقلت: أن طريقةً واحدةً فقط تجعلني أتأكد من إذا ما كانت نسخة الكتاب هذه الموجودة على الطاولة مأخوذة من مكتبتي أم لا؟ وهي أن أقوم بفتح الصفحة الأولى من الكتاب واقرأ إذا ما كان هناك اهداء خاص بي، فقلد كان نضال قد خط لي اهداءً خاصة في أولى صفحات الكتاب بخطِ يدهُ.
جلستُ القرفصاء واقتربتُ من الكتاب فيما صاحب طاولة الكتب ينظر إليَّ خلسةً فيما أقوم بفتح الكتاب، لاقرأ الاهداء التالي: إلى صديقي حسام شحاتة. تنفست الصعداء وابتسمت كوني تأكدت أن الكتاب لم يؤخذ من المكتبة، أي أن البيت لم يُسرق أو ربما أن الجيش لم يدخله بعد، فيما قلت محدثا نفسي: أحدهم يجب أن يُخبر حسام أن بيتهُ قد سُرق.
هل يقرأ أحدهم في زمن الحرب؟
رفعتُ رأسي موجهاً عينيّ المطمئنتين بعض الشيء بعد التأكد من أن الكتاب على طاولة بيع الكتب لمن يكن مؤخوذاً من بيتي إلى الشاب صاحب الطاولة الذي كان لا يزال ينظر إليَّ خلسةً نظرات يشوبها الشك وتعتريها الأسئلة، وقلت مُحدثاً نفسي: خير وسيلة للدفاع الهجوم، سأقوم أنا بمباغة الشاب وطرح الأسئلة عليه قبل أن يبدأ هو بطرحها عليَّ، بعد أن لاحظت وابل من الأسئلة يكاد يندفع من عينيه وفمه، قلت له: من أين حصلت على هذه الكتب؟ وعلى عكس ما كنت أعتقد أن السؤال سيكون مفاجئاً أو ربما مربكاً له، قال لي بهدوء شديد: بعضها كُتبي الخاصة، وأخرى اشترتها من بعض اللصوص الذين تورطوا بها حين وجدوها داخل الخزانات الخشبية التي سرقوها من بيوت الناس، كانوا على وشك حرقها في أفران الطينة، وقمت بشرائها منهم بثمنٍ زهيد، هل يتهم أحد بشراء الكتب الآن؟ سألته.
قال: الكثيرين، صدقني يأتون يومياً إلى الطاولة، بعضهم يشتري الكتب وأنا أبيعها بأسعارها الاعتيادية وعلى الرغم من ذلك يقومون بدفع المبالغ التي أعرضها ويشترونها، وآخرين يكتفون بتصفح بعض الكتب ويواصلون طريقهم بين العربات المتلاصقة. لكن بعض الكتب مسروقة يا عزيزي، ماذا لو جاء صاحب الكتاب ليشتريه؟
قال: ليس مهماً أناس كًثر قاموا بشراء مقتنيات من بيوتهم، سُرقت منها ووجدوها في سوق المسروقات. ابتسم كلانا وتركته وتابعت المسير.
لم تكن إجابات بائع الكتب في سوق النازحين بمنطقة خانيونس، الإجابات المختصرة والواضحة والصريحة، سوى مدعاة لملاحظة كيف يحاول الناس حماية أنفسهم من وحش الحرب الذي يلتهم بنهمٍ وبشاعةٍ لا مثيل لها أرواحهم، تلك الأرواح التي راكمت عليها بشاعات الحرب أكوام هائلة من الألم والفظاعة.
تشبه الحرب آلة بتروس هائلة وكثيرة كتلك الموجودة في المصانع العملاقة والتي تصهر كل ما يُقذف داخلها من أكوامِ الخردة والحديد، وهكذا تفعل الحرب في أرواح الناس، صهرٌ واستهلاكٌ مرعب ومرير في تفاصيل المعاناة اليومية، خوف وفقد ووقوف لا ينتهي في طوابير النزوح التي تستهلك كل ما هو آدمي، وفي ظل هذا السياق المُتنامي من الخسارات والفقد والهدر للآدمية التي يتعرض إليها النازحون يومياً، يمكن فهم ما يحاولون فعله بشراء الكتب وقراءتها، يُشكِّل الكتاب فرصة لمماسة فعل آدمي يتحدى آلة الحرب اللانسانية، القراءة بهذا المعنى فعلاً مضاداً لحالة التوّحش التي تبني نفسها بصورٍ هرمية ومتسارعة، توّحش يمكن ملاحظته في النمط العام للحياة العدوانية التي يعيشها النازحون في جغرافيا ضيفة، شريط ضيق محدود على شاطئ بحر غزة من رفح جنوباً حتي النصيرات وفي وسط القطاع، والذي حُشر فيه الناس فيما سُكبت عليهم فيه كل أشكال العذاب والألم. ولكي تحمي نفسك من خشونة الحياة المفرطة في هذا المنصهر الضيق عليك أن تحتمي بشئ يحافظ على كونك انساناً مستيقظاً قادراً على التعاطي الانساني الحرّ مع ما يحيط بك من أشكال الألم دونما أن يحوّلك هذا الألم إلى جلمود من الصخر.
وهنا جاء الكتاب ليفعل ذلك، القراءة كفعل لمواجهة التوحّش والحفاظ على الكينونة الانسانية من التآكل بين رحى الحرب التي تطحن كل شيء، وأبشع ما تطحنه هو القدرة على الإحساس بالألم كما يجدر بالإنسان يُباد أن يشعر ويعيش.