جذورٌ مفقودة

2024-06-13 02:00:00

جذورٌ مفقودة
Bashar Alhroub, Silent Garden #5, 2020, acrylic on canvas, 150 x 150 cm

تبدو موضة النباتية في الغرب غريبة عن الأصول الغنوصية-المانوية أو الهندية، فقد قامت على الاحتفاء بالجسد بعد الثورة الجنسية في الستينيات -احتفاء قد يكون مبالغاً به، ويقودها شبابٌ لا يرون العالم معاناة، كما ادّعى بوذا والجانية والمانويون. على العكس تماماً، يبدو النباتيون اليوم أقرب إلى مذاهب اللذة منهم إلى مذاهب الزهد: انقلب العالم رأساً على عقب، فانتشرت مذاهب قديمة بدون جذورها. 

(1)

"... فإذا هو بأسد يفترس من صيران الجنة وحسيلها، فلا تكفيه هُنيدةٌ ولا هندُ، أي مائةٌ ولا مائتان. فيقول في نفسه: "لقد كان الأسد يفترس الشاة العجفاء فيقيم عليها الأيام، لا يطعم سواها شيئًا." فيُلهِم اللهُ الأسدَ أن يتكلم، وقد عرف ما في نفسه، فيقول: "يا عبد الله! أليس أحدكم في الجنة تُقدَّم له الصحفة وفيها البَهَطّ والطِّرْيَم مع النهيدة، فيأكل منها مثل عُمر السموات والأرض، يلتذ بما أصاب، فلا هو مُكْتَفٍ، ولا هي الفانية؟ وكذلك أنا أفترس ما شاء الله، فلا تأذى الفريسة بظفر ولا ناب، ولكن تجد من اللذة كما أجد، بلطف ربها العزيز."

أبو العلاء. رسالة الغفران

(2)

لا أعرف نباتيين في تراثنا. أبو العلاء المعري وصادق هدايت فقط، وفي الحالتين، الرفق بالحيوان كان صادقاً وأصيلاً ورحيماً إلى درجة غريبة، غير مترابط مع إيمان ديني، بل مع عقلانية علمانية عميقة. وقد كتبا في الحيوان بعض أجمل أعمالهما وأقربها إلى القلب. تستقلّ الحيوانات بحيواتها ومشاعرها وهمومها، ولا تعيش فقط كي تخدم بني البشر. ولكن ترافقت الرأفة والرحمة مع تشاؤم عميق، ميتافيزيقي، شامل. يبدو الكون بأكمله مجرّد مسرحية بشعة مؤلمة ظالمة تافهة. أكثر من ذلك، نظرا إلى البشر -على العكس من الحيوان- نظرة سوداوية مُحتقِرة، ولكن مُشفِقة رحيمة، في نفس الوقت. وضرب التشاؤم أعماقهما، فاعتزل المعري الناسَ في سجونه الثلاث، وانتحر هدايت في باريس في سن السادسة والأربعين. 

كذلك، أتباع النبي ماني كانوا نباتيين، ولكنهم لم ينطلقوا من الرأفة والمحبة، بل من قرف واحتقار للجسد: أكل الحيوان يجعلهم يرتبطون أكثر بهذا العالم القذر، منطلقين من نظرية ماورائية في النور (الروح) والظلام (المادة) - سيستعيدها لاحقاً المتصوفة الشيعة، ليحوّروها جذرياً كي تتناسب مع الإسلام. ذلك القرف من الجسد والمادة ساد كل المذاهب الغنوصية (ومنها المانوية) وبعض أشكال المسيحية المبكرة. العالم المادي من صنع الشيطان، والروح وحدها تنتمي إلى الله. على الأغلب، يُعزى فشل المانوية والغنوصية إلى هذه النظرة، بالإضافة إلى إيمانهم بأن قلة من الناس ستنجو، أي المختارين سلفاً. المسيحية، بالمقابل، وسّعت دائرة الخلاص، لتشمل كل المهتدين العاديين. 

اشتُهِر الهنود بأنهم يقدّسون الحيوانات ولا يأكلون اللحوم. وعلى الأغلب، تغلغل مذهب النباتيين في الفكر الهندي من الخارجين على العقيدة الفيدية، أي الجانية والبوذية، الذين انتقدوا التمسك بالشكليات وبالذبائح (كما فعل المسيحيون الأوائل) وربما من أفكار أقدم من حضارة وادي السند المندثرة. اعتبر الهندوس لاحقاً كلاً من الجانية والبوذية هرطقات، ولكن الهندوسية نفسها -ليس كل مدارسها- امتصت أفكاراً رئيسة من الهراطقة، ومنها تحريم اللحم. نجد ذلك القرف من الجسد والمادة أيضاً هنا، ولكن بصورة مختلفة، باعتدال أحياناً وبمبالغة أحياناً أخرى: أكثرهم تطرفاً الجانية، ولكنهم أيضاً الأكثر رأفة بعالم الحيوان، ومحبة ورقةً للإنسان. الكاماسوترا، بالمقابل، تعترف بحقوق الجسد، وهذا ما سيفعله معظم الهندوس. تبدو الهندوسية كلها منشطرة بين النقيضين: بين الاعتناء بالجسد وبين مطالب الروح؛ كما هو حال معظم الأديان في الحقيقة.  البوذية اعتبرت نفسها الطريق الوسطي بين الجانية والهندوسية؛ ولكنها، بالنسبة لنا، نحن أتباع الأديان الإبراهيمية، أقرب إلى نفي العالم سعياً وراء الفناء. 

على العكس تماماً من الغنوصية والمانوية والمسيحية المبكرة، لم يكن الزاردشتيون واليهود والمسلمون معادين للعالم المادي، بل رحبوا به وقبلوه وعاشوا فيه. مارسوا جميعاً شعائر الذبح والتضحية، احتفاء بالآلهة، وبالحياة. كذلك الفلسفات (أو الأديان؟) الصينية احتفت بالعالم، سواء في وجهها الكونفوشي أو الطاوي، بل وحتى البوذية الصينية.

لا يبدو أصل الاختلافات هذه جغرافياً، ولا عرقياً: تتوزع المذاهب على أماكن مختلفة، وأزمان متعددة. وفي الحركات الصوفية، الإسلامية والمسيحية، تعود بعض أفكار الغنوصية للظهور، بأشكال مُقنّعة أو سافرة. بل ستصبح كراهية العالم المادي معضلة في أشكال الدين السائدة: الإمام الغزالي نفر من دراسة العالم ودعا إلى الاكتفاء بالفقه وما يرتبط به، كما فعل فلاسفة العصور الوسطى المسيحيون الكاثوليك. 

مع النهضة الأوروبية، ثم التنوير، طالب الفلاسفة والمفكرون بالاحتفاء بالعالم المادي: إذ، وحده الحقيقي. صعود العلم والديمقراطية ترافق مع هذا الاحتفاء. وفي رسالة شهيرة، شنّ فولتير حملة عنيفة على مواطنه المتشائم باسكال: يرى فولتير في الحياة وفي الجسد وفي الحاضر ما يجب أن نعيش له ومنه وفيه. ومن هذا المبدأ انطلقت الثورة العلمية وما تبعها من تطورات هائلة: من تأمل العالم الواقعي المباشر. على أن النتائج اليوم متناقضة جداً، من استعمار رأسمالي لنصف الكوكب، إلى الاحتباس الحراري، وصولاً إلى الفردانية المطلقة الحزينة وغياب المعنى في دول الشمال الأوروبي. وهذا ما يجعل العودة إلى مذاهب شرقية، مشوّهة شكلاً ومضموناً، رائجاً في الغرب اليوم. 

تبدو موضة النباتية في الغرب غريبة عن الأصول الغنوصية-المانوية أو الهندية، فقد قامت على الاحتفاء بالجسد بعد الثورة الجنسية في الستينيات -احتفاء قد يكون مبالغاً به، ويقودها شبابٌ لا يرون العالم معاناة، كما ادّعى بوذا والجانية والمانويون. على العكس تماماً، يبدو النباتيون اليوم أقرب إلى مذاهب اللذة منهم إلى مذاهب الزهد: انقلب العالم رأساً على عقب، فانتشرت مذاهب قديمة بدون جذورها. 

أفكر كثيراً بأن أصبح نباتياً، لأسباب بيئية، أولاً، إذ نأكل من اللحوم أضعاف ما أكله أجدادنا، وندمّر الكوكب لتأمين مراعي للحيوانات المقتولة. وثانياً، لاقتناعي بالرأفة التي تطفح من كلمات المعري وهدايت، وبأن الثورة الصناعية حوّلت الحيوانات إلى مجرد عنصرٍ جامدٍ يعاني العذاب في ماكينتها الجهنمية، وهذا يختلف كلياً عن الذبح العادي في المسالخ قبلها. لستُ مقتنعاً، بعدُ، بالأخوّة بيننا وبينهم. إذ أعرف أن الإنسان لاحمٌ، وهذا متجذّرٌ في جسدنا وفي طبيعتنا وفي شجرة التطوّر التي ننتمي إليها: لولا أكل اللحم، لم تتطوّر أدمغتنا من أشباه الإنسان إلى الإنسان العاقل في إفريقيا. كما أنني أضعف من أن اتخذ قراراً سيجعل حياتي الصعبة أصعب. بين فشلي المادي والمهني والاجتماعي، والاكتئاب والأرق، وتنقّلي غير المبرر بين بلدان لا تريدني، وهيامي الشرِه باللحوم المشوية على اختلاف أنواعها، يبدو مثل هذا القرار ترفاً أوربياً للشباب البيض الذين يقلّصون الصراعات الكبرى إلى قضايا فردية شخصية صغرى.  

وأصدقائي الأوربيون التقدميون يسألون أحياناً عن ذلك، لأجيبهم بتمتمة غامضة غير مفهومة. خصوصاً صديقَين مقرّبين، من أوروبا الشرقية، ولأنهما نباتيان، في كل مرة يشتريان فيها الفلافل من المطعم الإسرائيلي القريب، يعتذران لي، متذرّعين بقربه الجغرافي. وأنا أسأل نفسي عما يجب أن أقوله لهما: فقيران مغتربان مثلي، يتعاطفان مع فلسطين القصية، مخترعة الفلافل والحمّص، اللتين اجتاحتا أوروبا على يد الإسرائيليين، في لحظة مفصلية تحول فيها التقدميون إلى نباتيين، لإنقاذ الكوكب، متجاهلين الفلسطينيين وحقوقهم، وكل التراث الثوري السياسي، ليقتصر الصراع على سندويشة مسائية، تذكرني بدمشق، وأنا أتابع مشاهد قصف غزة المحاصرة المتكررة كأنها وهمية أو من كابوس لا ينزاح كلكله، أو أخبار سوريا التي تترنّح على حافة المجاعة، صامتاً، حائراً، لا أجيب على السؤال الذي لم يعد له معنى تقريباً: 

هل ستصبح نباتياً، إذن؟