هزائم جديدة في المنفى

2017-01-25 06:10:46

هزائم جديدة في المنفى
وديع حداد خلال زفافه . دمشق . ٩/٤/١٩٦١

تربينا بطريقة مختلفة ونشأنا أيضاً في أمكنةٍ مختلفة عن تلك التي نشأ عليها أبناء جيلنا من الشباب العرب. حملنا ذاكرة وطن لم نسكن فيه، بل سكن فينا، ولأننّا هزمنا مراراً ولم نساكن حواري الوطن وبقينا في غربتنا، انتمينا إلى أوطانٍ صغيرة تسمى المخيمات. تربينا أن نكره الإسرائيلي بعمق، بحقد، بوعي أو بغير وعي، وهذا الموضوع لم يكن ليخضع للنقاش فهو من الأمور التي إذا ناقشت فيها اتُهمت بالخيانة.

كيف لمحمود درويش أن يسافر من فلسطين بجواز سفر إسرائيلي؟ هذا الموضوع أخذ سنوات طويلة من النقاش والعراك بالأيدي بين الكثير من الشباب الفلسطيني في سوريا. هو خائن.. هو مجبر.. هو إسرائيلي.. هو وطني؟ وكيف لمليون ونصف المليون فلسطيني أن يعيشوا مع الإسرائيليين في أراضي 48؟ نشاهدهم عبر التلفاز وهم يتشاجرون ويتحدثون إلى بعضهم البعض، وهناك فلسطينيون أعضاء في الكنيس الإسرائيلي يتشاجرون ويصرخون وكأنهم يمارسون حقهم الطبيعي في المواطنة تحت عباءة الاحتلال. كلّهم خونة.. كلّهم صهاينة باعوا وطنهم للعدو؟ هكذا كنّا ولا يزال الكثيرون منّا يناقشون بنفس الطريقة. كنّا نتربى وربّينا أنفسنا وأولادنا على تلك الأحلام المتعلقة بالقدرة على هزيمة إسرائيل وقتل الإسرائيليين. غالبيتنا العظمى كات تحلم بقتل صهيوني واحد أو أكثر، ولم يكن لأحد أن يتخيل نفسه أنّه يقف أمام يهودي احتل أرضه دون أن يفعل شيئاً. الجميع كان ولا يزال، نحن أبناء مخيمات سوريا وبكل الحقد العميق في دواخلنا  نعتقد أنّنا بمجرد رؤية كائن إسرائيلي سوف نقتله أو بأسوأ الاحتمالات، كانت الإجابة إذا ما سألت ماذا تفعل فتجيب، لا أعلم ماذا أفعل ولكن من المؤكد أنني سوف لن أتركه يذهب هكذا دون أن أفعل شيئاً. وتنتهي الإجابة بعد صفنة قصيرة، ليعود المجيب للحديث: لا أستطيع تخيل الموضوع.

أن ألتقي إسرائيلياً يعني أن أجعله يشعر بكل سنوات اللجوء التي قضيتها في أمكنة لا لون لها أو رائحة. سوف أقتل أي إسرائيلي يصادفني. أساساً أين سألتقي بإسرائلي في غير المعركة. هكذا كنّا نفكر ونعتقد أنّ كمية الحقد التي لدينا سوف تسهل علينا اتخاذ القرارات الدموية في لحظة ما.في مصادفةٍ ما!

راشيل، هو الاسم الذي اختاره ابن أخي لإبنته الأولى. لاجئة فلسطينية لأبوين لاجئين من مخيم اليرموك. اختيار الاسم أثار موجة عاصفة من الاستياء داخل العائلة. وبالأسلوب نفسه وبالطريقة ذاتها اتخذ البعض من العائلة والأصحاب الموقف الذي نعتقد أنه يعبر عن المشهدية الوطنية التي تربينا عليها: أنت يهودي… الاسم يهودي… لك يا زلمة كيف بتسمي راشيل هذا تطبيع مع الإسرائيلين… أنت خاين ما تحكي معي… كيف بدها بنتك ترجع بكرا على سوريا وكيف بدها تعيش بالمخيم؟

الكثير من التعليقات الجارحة التي لم تثن ابن أخي على تغيير الاسم بسبب قناعته أنّ هذا الاسم فلسطيني ويعود إلى راحيل زوجة النبي يعقوب وأم سيدنا يوسف. أمّا بالنسبة لي فقد وجدت سبباً بسيطاً لقبول الاسم وهو حب ابن أخي للصبية الشقراء الأمريكية، راشيل كوري، التي دهستها الدبابة الإسرائيلية منذ عدة سنوات في رفح أثناء محاولتها منع جرافة إسرائيلية من تدمير بيت أحد الفلسطينيين. أقنعت نفسي بهذا السبب وذهبت لزيارته تبعاً للعادة لدينا. 

تُعد يوتوبوري من المدن الجميلة في السويد والتي لا أعرف عنها أي شيء. لذلك بعد أن انتهيت من زيارة ابن أخي أحببت أن أتعرف على المدينة، وأثناء تجوالي في أحد الأسواق الكبيرة شاهدت تجمهر مجموعة من الأشخاص متفاوتي الأعمار، فقررت الاتجاه نحوهم. كانوا يلعبون الشطرنج وأنا من عشاق هذه اللعبة وكنت أقضي ساعات طويلة فيما مضى في دراسة فلسفة هذه اللعبة. وقفت مع المتفرجين أراقب بصمت الحركات التي يقوم بها طفل صغير لا يتجاوز العاشرة يلعب مع عشرة أشخاص في الوقت نفسه. وبين الحين والآخر ألقي بنظرة خاطفة على رقعة الشطرنج الكبيرة المرسومة على الأرض. رئيس النادي، وهو شاب لم يتجاوز من العمر الثلاثين، هو من يلعب على هذه الرقعة الأرضية الكبيرة، ملامحه ليست سويدية، اعتقدت للوهلة الأولى أّنه عراقي أو حتّى سوري. كانت هذه الرقعة الكبيرة خاصة لمن يريد اللعب من الجمهور مع هذا الشاب وبسبب عشقي لهذه اللعبة قررت ترك متعتي بمشاهدة التقنية الجميلة التي كان يلعب بها الطفل الصغير والذهاب لأجرب حظي مع هذا الشاب، خاصة أنّه لم يعد أحد من المتفرجين يريد الّلعب معه.

استمرت اللعبة نصف ساعة تقريباً تخلّلها بعض المزاح والضحك وانتهت بفوزي على هذا الشاب وبتصفيق الجمهور الذي ازداد عدده أضعاف ما كان عليه في بداية الّلعبة. بعدها اتّجه الشاب نحوي ومدّ يديه وصافحني بحرارة ومن ثمّ قام بحضني كتعبير عن الشكر لاستمتاعه بالّلعبة وقال بلغة سويدية ركيكة: أنا إسرائيلي.

كان لا يزال ممسكاً بيدي عندما قلت له: قصدك أنت يهودي؟ محاولاً أن أتجاوز هذا الموقف في ألية دفاعية غبية للتعبير عن تجاوز سطل الماء الذي انسكب علي في تلك اللحظة. جاء رد الشاب سريعاً وكأنه يريد حشري أكثر بالزاوية: لا أنا إسرائيلي من تل أبيب وأعمل هنا في السويد منذ عدة سنوات. حاولت إيجاد طريقة لأستجمع قواي، لأستحضر كل التعبئة التاريخية والتنظيمية والسياسية التي تربيت عليها علّي أستطيع تغيير منحى رد الفعل لدي، فنظرتُ إلى ثلاثة شبان من الضفة وغزة كنت قد تعرفت عليهم سابقاً وكانوا قد لعبوا قبلي مع هذا الشاب لعلهم يمدوني بالقوة أو لعل ملامح وجوههم بعد سماع الشاب قد تخرج غضب السنين الطويلة من اللجوء والغربة، ولكن دون جدوى. ملامحهم كانت باردة وفيها من اللامبالاة ما يجعلني أعود لحضن هذا الإسرائيلي. طبعاً هنا لا أقيم أو أهاجم هؤلاء الشبان ولا أسعى إلى إثارة أي مشاعر اتجاهمم، بل الموضوع كلّه مرتبط بي، مرتبط بهزيمتي الآن، هنا، في لجوئي الثاني، في غربتي ومنفاي.

كان لا يزال ممسكاً بيدي عندما قلت له وأنا فلسطيني. سحب يده ببطء ولكن أبقى على إبتسامة خبيثة وأجاب باللغة الإنكليزية، هذه المرة بصوت عال ومسموع: نحن أولاد عم. اللعبة لم تنته. يبدو أن الجمهور، الذي كان في غالبيته من العرب وبعض السويديين والإسرائيليين الذين كانوا يتشاركون في اللعبة مع هذا الشاب، قد قرروا الاستمروا في التفرج والإنصات.  

لم يكن الوقت مناسباً للانسحاب أو الهروب، ولا أعلم لماذا شعرت أيضاً أنّني لا أستطيع فعل شيء سوى أن أقول له: أنا فلسطيني لاجئ قادم من سوريا. أجاب بصوت أعلى من سابقه: أتنمى أن تعود  تتوقف الحرب بيننا. كأنه أيضاً كان مجبراً على عدم الانسحاب. وللحظة شعرت أنّه يمتلك نفس المشاعر التي انتابتني في تلك اللحظة. أجبته سريعاً وقد كنت اتخذت قرار إنهاء الحديث: ولكن سوف أعود إلى قريتي في قضاء صفد. صمت الشاب للحظة ويبدو أنّه عاد إلى طبيعته مع الحفاظ على ابتسامته الخبيثة وأجاب بصوت خافت: نحن في السويد أخوة وفي إسرائيل نحن في حرب. أجبته سريعاً: نحن في حرب في فلسطين وفي أي مكان في العالم وقبل أن أنهي حديثي وأنسحب سألته سؤالاً أخيراً دون أن أنتظر منه أجابة: ألست يهودياً عربياً؟ كأنّ والداك من يهود العراق؟

وقبل أن يجيب غادرت المكان مضطرباً وخائفاً من الأسئلة التي كانت قد بدأت تتزاحم في عقلي. حاولت أستبعاد نظريات الواقعية السياسية قدر الإمكان وأنا أقود سيارتي باتجاه البلدة التي أقطن فيها. كنت أنظر إلى المرآة التي تعكس وجه ابنتي.

أردت أن أقول لها: بابا كان في شخص إسمو وديع حداد وكان يحكي جملة كتير مشهورة "وراء العدو في كل مكان".  بابا لا تنسي إنك فلسطينية وإنو إسرائيل عدوتنا. بابا لا تثقي بالعمائم السوداء ولا بالعباسيّين ولا بالزهار ولا بمن قرر أنّ وديع حداد خائن، ولا حتى بدول الطوق. بابا لا تكتفي بانتصارات زائفة فوق رقعة شطرنج تكونين فيها مجرد بيدق.

لم أستطع. اكتفيت فقط باستحضار جميع الهزائم التي منينا بها. كان شريط الأحداث طويلاً، طويلاً جداً بحيث أنّ الذاكرة لا تزال تنبش في هذا الخراب دون توقف.