صباح صفوري في ستوكهولم

2016-08-19 06:47:10

صباح صفوري في ستوكهولم
لفادي خطاب

هذه المرّة الثانية التي أستيقظ فيها صباحاً على صياح الحاج أبو صالح خلال السنوات الأربع الأخيرة، كانت المرّة الأولى في صباح اليوم الذي خرج فيه الناس من مخيم اليرموك، بعد سريان إشاعة، مفادها أن الأمن السوري أعطى للاجئين الفلسطينيين مدة أقصاها حتى الساعة التاسعة صباحاً للخروج من المخيم، بقصد طرد المعارضة المسلحة.

الحاج أبو صالح يحمل بيده سكيناً ويحاول قطع غصن أخضر من شجرة الزيتون التي طالما كان يتشاجر مع أطفال الحي كي لا يقتربوا منها، وغالباً ما كان يصادر كرات الفتبول من الأطفال عندما كانت تصيب ولو من قريب شجرة الزيتون .

"بديش آخذ شي معي غير هاي الشجرة.. هاي قطفلياها قرايبي من صفوريا وبعثلياها عن طريق الأردن" هكذا كان يصرخ على أولاده الذين كانوا ينتظرون طلوع الضوء لينطلقوا إلى رحلة اللجوء الثانية.

ما زلت أذكر تماماً تلك الصورة، الحاج أبو صالح وهو يرتدي الشماخ الأحمر على رأسه ويقول لأبنائه: "يا عمي وين بدكم تروحو.. خلينا نموت هون.. لك يا ولاد الكلب هذا البيت يا كوادين ربيتوا فيو بعدين ليش ماخدين معكم تلفيزيونات وفرشات؟" أحد أبنائه يرد عليه بعصبية: "يابا كم يوم ومنرجع.. مش مطولة". الحاج أبو صالح الذي خرج من فلسطين ولم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره يصرخ بوجه ولده صالح: "يا ابن الكلب بتحكي زيهم تبعون جيش الإنقاذ.. كم يوم لكان؟ لك يابا خلينا هون والله أحسن! هذا المشهد استمر أكثر من ساعة بين صراخ وعتاب علّ الحاج  أبو صالح يثني أولاده الخمسة عن الخروج من المخيم.

كنت عائداً من جولة لمدة أربعة أيام، أزور فيها بعض الأصدقاء من الذين يقطنون في المدن المجاورة لمدينتي، وانتهت جولتي بحضوري لمؤتمر فلسطينيي أوروبا الذي كان مقاماً في السويد في مدينة مالمو، في صباح اليوم التالي وتحديداً الساعة العاشرة صباحا، الصوت ذاته واللّكنة ذاتها. أنا لا أحلم بالتأكيد، هكذا كنت أحدث نفسي، فليس من المعقول أن يكون لقائي بهذا الكم الهائل من الفلسطينيين في المؤتمر قد نبش في داخلي ذكريات المخيم بكل تفاصيلها، حتّى بدأت أهجس بهم. نظرت من النافذة وكأن المشهد لم يتغير منذ أربع  سنوات، شخص في السبعين من عمره يرتدي الشماخ الأحمر ذاته، يقف ممسكاً بيدٍ شتلة زيتون، وباليد الأخرى يمسك السكين عينها من أجل تقطيع الأسلاك المحيطة بشجرة الزيتون التي كانت تزين باب منزله في المخيم.

طيلة فترة الصيف ونحن نحاول إقناع الحاج أبو صالح بأن شجرة الزيتون الصغيرة سوف تموت عند قدوم الشتاء، إلا أنه لم يقتنع إلا عندما بدأ الشتاء حقاً بالقدوم

الحاج أبو صالح بلحمه وشحمه يتجادل باللغة العربية مع شخصين يرتديان ثياب البوليس وامرأة سويدية أعرفها جيداً تقطن في الطابق الأرضي حيث كانوا يقفون، لا هم يفهمون عليه ولا هو على ما يبدو بحاجة أن يفهمهم، يلوّح بالسكين صوب شتلة الزيتون ويقول: "يا عمي هاي شتلة زيتون من صفوريا وانتوا أرضكم خضرة وبتكبر هون الشجرة".

رجلا البوليس يأخذان خطوة دفاعية إلى الوراء، ويد أحدهم على زناد مسدسه محاولًا أن يقول للحاج أبو صالح باللغة السويدية و تارةً أخرى باللغة الإنكليزية، أن هذه الشتلة، التي تنقلت خلال هذه السنوات الأربع من سوريا إلى لبنان ومن ثم تركيا وبعدها ركبت البحر مع الحاج أبو صالح الصفوري إلى اليونان، لا يمكن أن  تعيش في هذه التربة بسبب البرد. والسبب الآخر أن المرأة السويدية كانت تريد أن تزرع في الحديقة بعض الزهور التي اعتاد السويديون زراعتها بعد أن ينتهي فصل الشتاء، كما فهمت في ما بعد.

كانت هذه الحادثة في صيف 2015 والتي انتهت بغرس الحاج أبو صالح لشجرة الزيتون في الحديقة بجانب البناء رغم كل الاعتراضات من جيرانه.

طيلة فترة الصيف ونحن نحاول إقناع الحاج أبو صالح بأن شجرة الزيتون الصغيرة سوف تموت عند قدوم الشتاء، إلا أنه لم يقتنع إلا عندما بدأ الشتاء حقاً بالقدوم.

"الله يلعن أبوكم على هاي لبلاد.. لك يا ولاد العرص وين جبتوني أموت ببلاد قفره عفره مثل و جهكم ما فيهاش غير شجرتين وبحرة.. لك شو جايبيني على بلاد ما بتخضر غير يومين بالسنة"، كان الحاج أبو صالح يردد ويكرر هذه العبارات وهو ينبش تربة الحديقة، يضع شجرة الزيتون الصغيرة في قدرٍ كبير، يختار لها موقعاً بجانب نافذة منزله الواقع في الطابق الثاني، لعل بعض أشعة الشمس الخجولة والشحيحة لشتاء السويد القارس تضرب أغصانها، أو لعل بعض الضوء الهارب من كآبة جوّ لم يعتد الحاج أبو صالح أن يعيشه، أن يدخل عبر زجاج النافذة، في كل يوم تكبر شتلة الزيتون الصغيرة، حتى أصبحت نافذة أبو صالح  نقطة علّام بالنسبة للفلسطينيين الذين يزورون الحي الذي أعيش فيه.

"ألو… مين؟". "أنا أبو علي وأنا صرت قريب من البيت ولكن لا أعلم بالضبط أين المنزل"، تأتي الإجابة سريعة، انظر إلى النوافذ يا أبو علي وأنت تسير في الحي. سوف تشاهد وراء كل نافذة أضواء تزيّن شجرة عيد ميلاد، إلا نافذة واحدة سوف تشاهد وراءها شجرة زيتون، ضع ظهرك للشجرة وانظر للأمام. منزلي يقع مقابل هذه النافذة مباشرةً.