كان أزيز الرصاص قد توقف، وهدأت الشوارع من أصوات مشيعي قتلى اليوم عندما بدأتُ التفكير بزيارة صديقتي مريم التي أصيبت بشظايا قذيفة هاون سقطت من خارج المخيم منذ عدة ساعات.
منزلي لا يبعد عن منزلها سوى بضعة أمتار إلا أنّ القناص الموجود عند مدخل المخيم يجعل من تلك المسافة القصيرة رحلةً قد تستغرق ساعة كاملة وأنت تحاول الإنتقال من شارع الفدائية الى شارع راما. بضعة أمتار لا أكثر قد تفقد فيها حياتك.
رائحة البارود ورائحة الدم لاتزال منتشرة في الهواء، ووالدي يصرخ من داخل غرفته: أقفلي النافذة يا فاطمة هناك رائحة كريهة تدخل إلى البيت.
حاولت إقفالها لكني لم أستطع فرائحة الهواء تشدني إلى تلك الأمكنة التي كنت ألعب عندها في الحي الآخر، هناك في شارع راما.
خاطبت والدي أنّي أريد الذهاب لزيارة صديقتي مريم، فنهض كالمجنون من فراشه وصرخ في وجهي، هل تريدين الموت يا ابنتي؟ حتى نحن الكبار لا نستطيع تجاوز هذا الشارع .
لم أقتنع بكلامه وقلت في نفسي إنها بضع أمتار لا أكثر، وبدأت التفكير بكيفية الخروج من المنزل رغم تحذيرات والدي.
بعد الساعة الخامسة مساءً، يلف الهدوء جميع شوارع المخيم هذه الأيام ونادراً ما تجد شخصاً يمر من هذه الحارات على خلاف بقية الشوارع داخل المخيم وخاصة شارع حي العروبة وشارع حي المغاربة إذ لايزال الناس فيهما يجلسون أمام منازلهم في المساء كما كانت تجري العادة قبل الحصار.
أول المخيم كما يقول كبار السنّ هنا، يعتبر منطقة محاور، أي منطقة قتال وفيها تدور غالبية الإشتباكات التي تحدث بين أجهزة الأمن السوري ومقاتلي المعارضة المسلحة، لذلك نادراً ما تجد شخصاً مدنياً يتجول في الحيّ الذي أقطن فيه، ووالدي رفض الخروج من المخيم وحتّى من المنزل رغم كلّ الدعوات التي وجهت إليه للهرب من هذه المنطقة على الأقل إلا أنّه كان يقول دائماً: لن أعيش اللجوء مرّةً أخرى.
المنزل فارغ تماماً من الأثاث ويقال بأنّ مجرمين، تحت حماية بعض مجموعات المعارضة المسلحة، قد نهبت غالبية بيوت المخيم عندما دخلوا إليه بعد مغادرة اللاجئين له، ويقال أيضاً أنّه تم بيع أثاث المنازل المسروقة إلى حواجز النظام المحاصرة للمخيم.
وقفت عند الباب للحظات وأنا أتأمل المنازل المحيطة بمنزلنا. غالبية المنازل مدمرة أو رسم الرصاص على جدرانها لوحة شبيهة بتلك التي كنت أرسمها عندما كان والدي يعلمني كيف أمسك قلم الرصاص.
تكون الصفحة في البداية بيضاء جميلة وما هي إلا لحظات حتى تبدأ خربشات الطفولة وما أن تنتهي حتّى يصنع قلم الرصاص ألف ثقب فيها.
هكذا هو منزل صديقتي زينب التي قُتلت مع والدها منذ عدة أيام نتيجة الإشتباكات. هنا يستطيع الناظر أن يرى ألف ثقب في البناء ويبدو أن قذيفة هاون قد أسقطت جزءاً من الجهة الغربية له فأحدثت فتحة صغيرة استطعت الدخول منها.
في هذه الغرفة كنت ألعب مع زينب. الغرفة صغيرة جداً لا تتعدى الثلاثة أمتار، منذ عامين لم تكن هذه الغرفة موجودة أصلاً. والد زينب اقتطع جزءاً من صالون البيت ورفع جداراً صغيراً لتكون غرفةً للأولاد كما قال. وعندما انتهى من بناء الغرفة سمح لنا بمساعدته في تجهيزها وطلب منّا أن نضع ما نريد داخل الغرفة وأن نرتبها بالطريقة التي نشاء سوى أنه أصرّ على تعليق صورة لأبو عمار على باب الغرفة وعلّق بجانب الصورة علماً صغيراً بأربعة ألوان.
كان كلما دخل علينا إلى الغرفة ونحن نلعب يقول لنا، ما هي ألوان علم فلسطين؟ ونبدأ بالتسابق على الإجابة للحصول على لوح الشوكولاته الذي كان يخبئه خلف ظهره.
تناولت لعبة الأرنب عن الأرض ونفضت عنها الغبار وخرجت من الفتحة مسرعة نحو منزل سمر لأكمل الخطة التي رسمتها لتجاوز قناص شارعنا وزيارة صديقتي مريم.
منزل صديقتي سمر في الزقاق المجانب لمبنى السيرياتيل. هذا المبنى تمّ إحراقه من قبل بعض الشبان الغاضبين، وكما فهمت من حديث والدي مع أصدقائه عندما عادوا إلى المنزل بعد هذه الحادثة، أنّ إسرائيل قتلت 25 شاباً على الحدود مع فلسطين عند قرية مجدل شمس ومقتل هؤلاء الشبان كما كان يقول والدي يتحمله النظام وأحد الفصائل الفلسطينية الموالية له، وكانت آخر جملة قالها والدي لأصدقائه ولاتزال محفورة في رأسي "تاجروا بدمنا يا رجل.. نعم الجميع يتاجر بدمائنا" كان ذلك قبل حصار المخيم بخمسة أشهر إثر إعادة إحياء الذكرى 48 لنكسة حزيران وقد اعتاد أهالي مخيم اليرموك إحياء هذه الذكرى كي لا ينسوا نكبتهم ونكستهم.
خرجت إلى الشارع وظهري يلاصق الجدار كي لا يراني القناص وإذ بشاب مسلح يختبئ في إحدى الأزقة المقابلة، يصرخ علي ويأمرني بالعودة إلا أنّني تجاهلت صراخه في البداية ومع استمرار صراخه وعنادي في الاستمرار للوصول إلى الحي الآخر، طلب مني أخيراً أن أدخل البناء الذي أقف عنده وقال لي أن هناك فتحة داخل البناء الخلفي من جهة حارة الفدائية يمكن أن أصل منه إلى البيت الذي أقصده.
كان المنزل لجارنا أبو أحمد، وهو رجل فقير كان يملك عربة صغيرة يضعها أمام منزله ويبيع الفول النابت وبعض الحلويات لطلاب المدارس أثناء خروجهم. أبو أحمد خرج مع عائلته عندما كان لايزال المخيم في بداية حصاره، عندما كان الأمن السوري لايزال يسمح بخروج الأهالي في أوقات محدده أثناء النهار. قالوا لنا في ما بعد أنه مات بجلطة في دماغه بعد أن وصله خبر مقتل إبنه الكبير تحت التعذيب بعد شهر من إعتقاله من قبل حاجز فرع فلسطين الموجود على أوتستراد المتحلق الجنوبي.
الفتحة التي أحدثها المسلحون داخل منزل أبو أحمد والتي تأخذك من منزل إلى آخر كانت عبر غرفة الأولاد.
الغرفة بسيطة جداً لا يوجد فيها أيّ أثاث يذكر سوى خزانة الثياب، وهي عبارة عن فتحات اسمنتية داخل الجدار، وبعض الفراش على الطريقة العربية ملقى على الأرض، وهناك الكثير من الألعاب التي على ما يبدو صنعت من قبل الأطفال أنفسهم.
تناولت لعبة صغيرة يبدو بأنها صنعت لتشبه لعبة (باباي) وخرجت من الغرفة مسرعةً وأنا أتنقل من فتحة جدار إلى أخرى حتى وصلت إلى منزل صديقتي سمر التي هاجرت مع عائلتها إلى السويد عن طريق البحر.
كان الوصول إلى منزل سمر سهلاً جداً إذ أن جميع بيوت الحي قد فتحت إلى بعضها لتسهيل حركة المسلحين وانتقالهم بين الأزقة هرباً من رصاص القناصين.
المنزل فارغ تماماً من الأثاث ويقال بأنّ مجرمين، تحت حماية بعض مجموعات المعارضة المسلحة، قد نهبت غالبية بيوت المخيم عندما دخلوا إليه بعد مغادرة اللاجئين له، ويقال أيضاً أنّه تم بيع أثاث المنازل المسروقة إلى حواجز النظام المحاصرة للمخيم.
كانت عائلة سمر ميسورة الحال وكان لديها الكثير من الألعاب، لذلك كنا نجتمع عندها أنا وصديقاتي كل يوم بعد عودتنا من المدرسة وكانت والدتها لا تمانع قدومنا، ليس حباً فينا بقدر ما كان ذلك مرتبطاً بقرار والدها.
والدة سمر أنجبت سبع فتيات وكانت سمر آخر العنقود كما يسمون عندنا الطفل الأصغر في العائلة، وكان والدها يخاف عليهنّ كثيراً وما زاد الأمر سوءاً كانت ميوله الدينية الطارئة التي بدأت تظهر على سلوكه في السنوات الأخيرة.
لم نكن نشعر أنا وسمر وبقية الفتيات الصغار بسوء التغير الذي طرأ على سلوك والدها إلا عندما كنّا نسترق السمع على حديث بناته الأخريات في الغرفة المجاورة وتذمرهنّ الدائم من الطبيعة الجديدة لوالدهن.
أخذت من الغرفة خمس دمى وخرجت مسرعة عائدة إلى المنزل.
بسبب الهدوء الحذر كما يسميه والدي وانقطاع أصوات الرصاص، لم يشعر والدي بغيابي عن المنزل، ويبدو أنّ النعاس غالبه.
لذلك كانت الفرصة مواتية كي أخرج لزيارة مريم وأعود قبل أن يستيقظ من نومه.
تناولت ربع كيلوغرام من الأرز، مما تبقى من السلة الغذائية الأخيرة التي استطاع الهلال الأحمر الفلسطيني إدخالها إلى المخيم منذ شهرين، ومن غرفتي تناولت أيضاً سبع دمى ووضعتها مع الألعاب الأخرى وانطلقت باتجاه شارع راما.
يقع منزل مريم خلف مطعم، في زقاق صغير كان ملجأً للعشاق الهاربين من أعين المارة. أمّا منزلي فيقع على الجهة الأخرى لشارع اليرموك عند مدخل حارة الثانوية. المسافة بينهما ليست طويلة وأستطيع الذهاب إلى منزلها من عند ساحة الريجة، إلا أن ساحة الريجة مليئة بالمسلحين والدمار فيها يشبه الدمار الذي شاهدناه في غزة بعد العدوان الإسرائيلي الأخير.
وأنا أساساً لا أحب منظر السلاح ولا من يحملون السلاح لذلك فضلت الإنطلاق إلى شارع نورا من عند خزان الكهرباء الموجود على رأس شارعنا.
قبل أن أبدأ مباشرة الخطة التي رسمتها، عدت لعدّ الألعاب، فقد أكون مخطئة.
12 لعبة، تماماً على عدد رصاصات بندقية القناص. هكذا سمعتهم يقولون منذ عدة أيام عندما اجتمع بعض مسلحي المعارضة في المخيم أمام منزلنا، أنّ عدد رصاصات مخزن القناص 12 رصاصة.
أخرجت اللعبة الأولى ورميتها في الهواء باتجاه منتصف الشارع فأصابها القناص في رأسها، وعندما سقطت اللعبة على الأرض حدث أن أطلقت زخات رصاص متلاحقة ولكن من بندقية أخرى إلا أنها لم تصب اللعبة فعلمت أن هناك قناص واحد لا أكثر أمّا الآخر فكان الأمر بالنسبة له إطلاق نار عشوائي. رميت الثانية، وفعل القناص ما فعل في المرة الأول. رميت الثالثة، والرابعة، والخامسة، حتى وصلت إلى اللعبة الأخيرة.
رميتها بأقصى قوة لدي وانتظرت ثلاث ثواني، ثلاث ثواني لا أكثر. نعم أصبحت الفرصة مواتية لقطع الشارع. إنها 12 رصاصة… أنا متأكدة من ذلك… لم يبق أيّ لعبة في الكيس… رميتها كلّها… عليّ الإنطلاق بأقصى سرعة قبل أن يعيد القناص تذخير سلاحة.
في منتصف شارع اليرموك. تماماً من المنتصف استطاع بعض الشبان في ما بعد سحب 13 جثة وربع كيلو أرز.