إن أفكارنا عن الموت سواءً كانت موضوعية أو متلونة بالعاطفة، فهي تمر من خلال نشاط رمزي، يختلف باختلاف الثقافات والتجارب الذاتية والفردية، ولكن هذا الأمر يحدث في إدراك الموت، ليس من خلال تجربة الموت، "عندما نخشى الموت بشكلٍ مكثف وغير منقطع، فإننا نخشى بدلًا من ذلك بعض أشكال المساواة الرمزية غير المنطقية للموت أحيانًا".
يروي أندريه دوستويفسكي شقيق فيودور دوستويفسكي أن أخاه اعتاد في طفولته، قبل أن يخلد إلى النوم، أن يترك إلى جانبه بعض الأوراق، يحذر فيها من أنه من الممكن أن يسقط في أثناء الليل في حالة من النوم العميق الأشبه بالموت، فكان يطلب أن يؤجل دفنه إلى خمسة أيام، لعله يستفيق قبله.(1)
ما يحدث مع دوستويفسكي في الموت، هو خروج عن الزمان والمكان، هي حالة من الإخلال(disrupting ،(2، باستقرار الزمان والمكان، مستخدمًا جسده الذي يراوح العتبات بين الحياة والموت، مستخدمًا النوم بما هو حالة خطابية وأدائية تتساوى فيها الحياة والموت. وهذه الرحلة بين العالمين في تجربة دوستويفسكي يمكننا التربص بتمثلاتها لدى الأب زوسيما في رواية الإخوة كرامازوف إذ يقول: "أخذ الله بذورًا من عوالم أخرىوبذرها على هذه الأرض... وتوالدت البذرة، ولكن ما ينمو ويعيش ويتمتع بالحيوية خلال إحساسه بالاتصال مع العوالم الغامضة الأخرى فحسب... كثير مما هو على الأرض خفيٌ عنّا، ولكن عوضًا عن ذلك فقد وهبنا سرًا وإحساسًا خفيًا باتصالنا الحي مع عالم آخر".(3)
يتقاطع ديستويفسكي هنا مع مارسيل بروست الذي يقول: "منذ زمان طويل، كنت معتادًا على الذهاب إلى سريري في وقت مبكر، وفي بعض الأحيان عندما أطفئ الشمعة فإن عيناي تغلقان بسرعة بحيث لا يكون لدي وقت يكفي لأقول (سأنام) وبعد نصف ساعة منذ ذلك الحدث توقظني فكرة أن الوقت قد حان للنوم، وأحاول أن أضع جانبًا الكتاب الذي كنت أتخيل أنه ما يزال بيدي، وأن أطفيء الضوء. وقد كنت أفكر طوال الوقت بأنني كنت نائمًا بينما كنت أقرؤه، ولكن أفكاري تكون قد اتخذت مسارًا خاصًا بها حتى أكون أنا نفسي موضع كتابي".(4)
بروست يتأمل الموت من خلال استعادة اللحظات السابقة عليه، فالعالم لديه متغير وثابت في آن، والموت في هذه الحالة هو موقف على أطراف تلك الثنائية لا يتجاوزها إلى ما بعدها، بل هو موقع للتساؤل عنها. بينما الموت لدى دوستويفسكي، أمر مختلف، فلعله الأول من الأدباء العالميين الذين استشكلوا الموت وحوله للحظة تساؤل عن الزمن المفقود بالموت. يصف الأمير متشكين بطل رواية الأبله لحظة فقدان الحياة تلك، التي يحس بها المحكوم عليه بالموت عن طريق المقصلة بقوله: "لو كنت أنا الشخص الذي ينفذ فيه حكم الإعدام لتعمدت أن أنصت، ولسمعت صوت انزلاق الحديد (حديد المقصلة)... قد لا يدوم إلا عشر الثانية... إن الرأس بعد انقطاعه وسقوطه ربما يعلم خلال ثانية أنه انقطع وسقط، وياله من إحساس، ماذا لو دام خمس ثوان".(5)
لعل هذه العلاقة الفريدة لدوستويفسكي مع الموت، هي التي دفعت فرويد إلى تحليل ظاهرة الموت لدى دوستويفسكي، ونوبات التشبه به المذكورة سالفًا، بأنها رغبة موجهة بموت أحدٍ ما، كقيمة عقابية، والذي رجح أن يكون الأب.(6)
لعل تأملات الروائيين أعلاه(7)، وغيرهم في لحظة الموت تدفع بنا لتأمل الموت، بما هو الهدف الأساسي من كتابة هذه السطور كلها، سواءً في موضوعة المادة عن الموت لدى دوستويفسكي، أو عن موته هو شخصيًا، ومرور 100 عام وأكثر على ذلك.
الموت هنا هو بؤرة المعنى ومبتغاه في آن.
قد يكون التأثير الأقوى للموت، وأعلى مراحل ابداعيته، عندما لا يظهر بما هو موت صريح مستحق، أي حينما نحيا وكأن الموت لا معنى له. الموت حينها هو السبب الذي من الممكن من خلال غيابه الحاضر أن يقيم حياة ذات معنى في عالم لا معنى له. ومن هنا تبدأ علاقة الثقافة بالموت. للثقافة في علاقتها بالموت هدفان: فهي من ناحية ذات مسعى هائل ومستمر (وناجح بشكل مذهل) لإعطاء معنى للحياة البشرية، ومن ناحية أخرى لها مسعى عنيد (وأقل نجاحًا إلى حدٍ ما) لقمع الوعي بهشاشة هذا المعنى وثانويته.
لعل التتبع لعلاقة الأدب بالموت من خلال نموذج دوستويفسكي، يدفعنا للتساؤل ماذا لو كان لا يزال حيًا بين ظهرانينا الآن؟ تراه ماذا كان ليرى بعد كل سياساتنا الحداثية تلك التي سعت إلى تدجين الموت وترويضه، وإعادة صوغه وبثه في الخوف اليومي على الصحة والقلق المهووس بشأن العوامل الناقلة للموت، ليصبح الخوف من الموت شكلًا من أشكال الخطاب اليومي عن الحياة؟ وفي المقابل وداخل نفس الثنائيات الحداثية يجري ترويض الموت من خلال إطلاق العنان الوحشي له، فيغرق المئات في قوارب الهجرة غير الشرعية، أو تحت برميل متفجر ألقته خطابات الرئيس الطبيب وهو يعد بحياة ملؤها الممانعة والمقاومة.
لم يعد الموت هاجسًا يحتويه الأدب بكل حفرياته وعمقه الرأسي في الوعي الإنساني، فقد قدمت الثقافات الحديثة صيغًا لنزع فتيل رعب الموت، دون الحاجة لمنطقته كما فعل فرويد، أو لعله كان جزءًا من سياسات الاحتواء. كان ذلك بالأساس من خلال طرح فكرة الخلود الفردي أو الجماعي. وهو ما نبهنا إليه فرويد حين أشار إلى أنه "لا أحد يؤمن بموته"(8)، وأن الوعي لدينا "يتصرف كما لو كان خالدًا".(9)
إن أفكارنا عن الموت سواءً كانت موضوعية أو متلونة بالعاطفة، فهي تمر من خلال نشاط رمزي، يختلف باختلاف الثقافات والتجارب الذاتية والفردية، ولكن هذا الأمر يحدث في إدراك الموت، ليس من خلال تجربة الموت، "عندما نخشى الموت بشكلٍ مكثف وغير منقطع، فإننا نخشى بدلًا من ذلك بعض أشكال المساواة الرمزية غير المنطقية للموت أحيانًا".(10)