هوامش:

محمود درويش: من العادي إلى العادي

2022-03-23 10:00:00

محمود درويش: من العادي إلى العادي
رام الله، ٢٠٠٧

ولكنني أميل، بشكل قاطع، إلى المرحلة الثانية، لأن المرحلة الأولى جزءٌ من تيار عام، في الأدب وفي الفكر وفي السياسة، اتصف بتغليب القضايا الكبرى على حيوات الناس اليومية. ترافق ذلك مع سيادة المصطلحات المتفزلكة والشعارات الرنانة، لتسحق الهمس الناعم في الشعر والواقعية المتلصصة على الناس في النثر.

كتب محمود درويش أعمالاً عادياً في مواضيع كبرى، في مرحلته الأولى؛ ثم كتب أعمالاً استثنائيةً في مواضيع عادية، في مرحلته الثانية: هذ التحول من العادي إلى العادي، واكتشاف اليومي البسيط في الحياة ليجعله بؤرة الكتابة والمعنى، كان بطولة درويش الأخيرة، والأكثر أهمية على طول مشواره الأدبي. 

يتضح ذلك، بشكل رئيس، في عملين: "سرير الغريبة" و"أثر الفراشة". الديوان الشعري عملٌ خالصٌ في الحب؛ يتسلى فيه درويش كثيراً في الشكل وفي المضمون. بعده بعقد ونصف، يأتي الكتاب النثري، على شكل يوميات متفرقة. احتلّ العمل الأول مكانة مركزية في فهم درويش لنفسه، وفي مجمل مسيرته؛ وبقي الثاني هامشياً، يقرأه البعض للاطلاع على خفايا درويش، خلسةً وبدون تدقيق. 

على أن الفصل بين مرحلة أولى وثانية، متعسف وغير دقيق: يعود درويش إلى مرحلته الأولى كثيراً في أعماله المتأخرة، أي يعود إلى المواضيع الكبرى، ليتناولها إما بطريقته السابقة (أفكار كبرى) أو بطريقته الجديدة (من خلال العادي)؛ كما أن بداية المرحلة الثانية كانت تدريجية، والمرحلة الثانية كلها بقيت تتغير وتتماوج: إحدى ميزات درويش الرئيسة، هي أنه الناقد الصارم اللئيم القاسي على نفسه، وهذا ما يجعله يغير في الشكل وفي المضمون، ويجرب باستمرار. 

بين هذا وذاك، تأتي أعمال السيرة الذاتية، وفيها ينجح درويش في خلط العادي بالقضية الكبرى، كما في أشهر وأفضل أعماله: "الجدارية" شعراً، و"في حضرة الغياب" نثراً. السيرة الذاتية ستعود في أعمال شعرية ونثرية أخرى، بنجاح كبير أحياناً، أو بشكلٍ متقطع مكرر ممل، في أحيان أخرى. 

نجح "سرير الغريبة" في الثورة التي أرادها، بشكل كامل لا مثيل له. لولا الخوف من النقاد، لقلتُ إنه العمل الأهم منذ "اللزوميات". هذا النجاح المكتمل الشامل لم يتكرر، لا في نثر "أثر الفراشة"، ولا في أشعاره اللاحقة. تسلل بعض الضعف والتفكك إلى أعماله، وهذا ما يتوقعه المرء من الرجل الذي لم يكن يريد أن يكرر نفسه: ضريبة النقد الذاتي القاسي ستكون دوماً ضعفاً ينتشر بين ثنايا الأعمال، ضريبة، على الأغلب، كان درويش واعياً لها تماماً. 

بعض أعمق وألطف يوميات درويش في "أثر الفراشة" تمثل هذا الجنوح إلى العادي اليومي البسيط البعيد-القريب: "البعوضة" و"ثلج" و"مديح النبيذ"؛ أو في نصوص قصيرة عن الراحلين: سركون بولص ونجيب محفوظ وأم كلثوم. يحاول درويش في هذه اليوميات أن يبسُط لغته الشاعرية لتستطلع العالم الأصغر والأكبر، العالم كما يتبدى لكل الناس: يسقط أحياناً في رومانسية فجة، والرومانسية سمة ملازمةٌ له منذ مراهقته على ما يبدو؛ رومانسية ينجح في توظيفها عندما يشكمها شيطان الشعر الحازم، ويفشل عندما تتحرر منه؛ ويتعب مرات أخرى في محاولته ملاحقة اليومي في القضية الكبرى، لتبهت صورة الاثنين؛ وينجح مراتٍ في أن يجلو العالم كله لنا في نثر شعري شبه موزون: ذلك النجاح الذي تجده في نصه عن حضرة الغياب. 

وتلك السلسلة من الفشل والنجاح، للأسباب نفسها، ستتكرر بعد "سرير الغريبة"، بأشكال مختلفة. ليترك لنا في النهاية كنزاً من الاكتشافات الصغيرة والكبيرة، لرمز حاول جاهداً في النهاية أن يخرج من رمزيته، بدون نجاح على المستوى الشعبي، وبنجاح يُحسد عليه في كتاباته. 

ولا أريد أن أبخس أعماله في المرحلة الأولى حقها. هذه أيضاً أعمال فيها تجريب وتغيير، ونجاحات متعددة (مديح الظل العالي، الهدهد...) وخيبات متكررة. وهي أعمالٌ استجابت للمرحلة، ولحياته، ولحاجاته الشخصية ولحاجات الناس، للفلسطينيين الذين احتاجوا صوتاً صادقاً موهوباً يكتب لهم وعنهم وفيهم. 

ولكنني أميل، بشكل قاطع، إلى المرحلة الثانية، لأن المرحلة الأولى جزءٌ من تيار عام، في الأدب وفي الفكر وفي السياسة، اتصف بتغليب القضايا الكبرى على حيوات الناس اليومية. ترافق ذلك مع سيادة المصطلحات المتفزلكة والشعارات الرنانة، لتسحق الهمس الناعم في الشعر والواقعية المتلصصة على الناس في النثر. أنظمة قومية قمعية تقابلها أنظمة رجعية همجية. قاد المثقفون حملة على الأنظمة من النوع الثاني، لتنتصر الأنظمة من النوع الأول على شعوبها. قد يبدو هذا بعيداً عن تجربة الفلسطينيين، الذين خاضوا حروباً مع كل تلك الأنظمة، ليخسروا دوماً. سواءٌ أراد المرء أن يلوم درويش، أو أن يكون أكثر دقة ليبحث في الأثر الإيجابي العام لمنظمة التحرير -ودرويش معها- على الإنتاج الثقافي، يبقى أن درويش، في الأعمال الأولى، جزءٌ من ذلك التيار العام، الذي دافع عن القضايا الكبرى بعيداً عن الناس. 

وهنا، بالضبط هنا، تكمن بطولة درويش الفعلية: في المرحلة الثانية، لم يتخلّ درويش عن القضايا الكبرى، ولكنه، بشكل صارم وواضح ومباشر، جعل من العادي اليومي البسيط قضية كبرى. القضايا الكبرى لا تعيش خلف الناس العاديين، بل تموت وتُقتل بدونهم. والأدب، كل الأدب، لا يعيش إلا بين الناس، وحتى الهموم الميتافيزيقية -كالموت الذي اكتسح أعماله في المرحلة الثانية- التي تضفي على الأدب معنى يجلّ عن الوضعي، تتجلى في حيوات الناس وليس في النظريات المتفلسفة والألاعيب اللغوية والخزعبلات الأسلوبية. 

مؤخراً، انقسم الناس بين رابطة "درويش رمزنا وأسطورتنا" ورابطة "هلمّوا يا أبطال نحطم الكاتب الميديوكر محمود درويش". وكما في معظم هذه الحالات، يتحول تحطيم الأيقونات إلى عملية خطرة وظالمة وإيديولوجية، تطابق في آثارها السيئة عملية تقديس الأيقونات. ولكن، وبصراحة، أنا أميل إلى المعسكر الأول عموماً. ليس لأنني أعتقد أن كل، أو حتى معظم، أعماله عظيمة. كلا، على الإطلاق. بل لأنني أعتقد أنه قدّم بعض أفضل ما كُتب باللغة العربية من خلال نقده الصارم لنفسه، ومن خلال التجريب المستمر: جرّب أن يكون صادقاً مع نفسه، وجرّب أن يثور على صورته وعلى نجاحه، وانخرط في الصراع السياسي بدون تردد في المرحلتين، وجرّب أن يصبح عادياً وأن يعلي من شأن العادي في البشر، أي: من شأن ما يستحق فعلاً أن نحارب من أجله في القضايا الكبرى؛ ولأن الكثير من أدبنا اليوم ما زال يتمرجح بين القضايا الكبرى بدون الناس العاديين -بصيغته التقليدية أو الجديدة المفتونة بالفانتازيا- وبين أدب يتجاهل السياسة- ودرويش، بصياغة فاتنة، تجاوز هذه الثنائية الميتة: أدب قضايا كبرى/ أدب بلا سياسة، ليكتب القضايا الكبرى من خلال العادي اليومي البسيط. 

هناك الكثير من القصائد التي قد يستحضرها المرء، عن العادي المكتوب بشكل استثنائي. ولكنني أختار قصيدة تخلط العادي بالموروث بالثوري: "أنا وجميل بثينة" من "سرير الغريبة"، وفيها يقتبس درويش من التراث العربي ليجعله معاصراً حاضراً متجذراً في ماضٍ يعيش معنا، بشكل حسّي جسدي ملموس، متمرّداً على المعنى الموروث، في روح التراث نفسه: 

 

هل هَمَمْتَ بها، يا جميل، على عكس

ما قال عنك الرُواةُ، وهَمَّتْ بكَ؟

 

تزوَّجتُها. وهَزَزْنا السماءَ فسالَتْ

حليباً على خُبْزِنا. كُلَّما جِئتُها فَتَّحَتْ

جَسَدي زهرةً زهرةً، وأَراق غدي

خمرَهُ قطرةً قطرةً في أَباريقها

 

هل خُلِقْتَ لها، يا جميل،

وتبقى لها؟

 

أُمِرْتُ وعُلِّمْتُ. لا شأنَ لي

بوجودي المُراقِ كماءٍ على جلدها

العِنَبيّ. ولا شأنَ لي بالخلود

الذي سوف يتبعُنا ككلاب الرعاة

فما أَنا إلاَّ كما خَلَقَتْني بُثَينَةُ

 

هل تشرَحُ الحُبَّ لي، يا جميلُ،

لأَحفظَهُ فكرةً فكرة؟

 

أَعْرَفُ الناس بالحُبِّ أكثرُهُمْ حَيْرَةً،

فاحترِقْ، لا لتعرف نفسك، لكن

لتُشْعِلَ لَيْلَ بُثَيْنَةَ....