وشرط الأختيّة إذًا، يتطلّب منهنَّ إفساح المجال أمام نظيراتهن، لإيصال خطابهنّ، وفي شموليّة الحركات النسويّة التحررّية، والتضامن السياسي المبني على رفض كافة أشكال الطبقيّة. فلا وجود للأختيّة، إذ لم نفهم تقاطعيّة صراعاتنا.
هل نحن حقّا أخوات؟
سرعان ما يلمع في رأسي هذا السؤال، عندما أجالس أو ألمح مجموعة نسويّات سواء غربيّات، أو مستشرقات. أحمل ملامحي ولغتي الركيكة وأنزوي في أقرب حمام تصله قدماي، وينتابني الشعور بالذعر، الذّعر من أن لا أكون سوى مجرّد أخرى في متتاليّة لا تنتهي من الآخريّة.
وأتساءل إن كانَ عليّ تعلّم لغتهن بينما يرفضن (وإن ضمنيًّا) لغتي؟ ويطبّعن مع مختلف أشكال استعمارنا، مقدّمات خطابات توعويّة، وتمكينيّة، لنا نحن النّساء الهابطات من عالم آخر، ونحتاج لأيادٍ تتلقفنا قبل أن نضلّ الطريق.
أنحن قاسيات لندع دموعهنّ تنهمر حزنًا على أخواتهنّ المسكينات؟
اعتبرت العديد من النسويات أنَّ مصطلح "الأختيّة"، يركّز على مفهوم الهويّة المشتركة، وتماثل الاضطهاد، أو الاضطهاد المشترك ما بين جميع النساء، كونهنّ يشكّلن مجموعة متجانسة بناءً على نوعهنّ الاجتماعي، رآها البعض وسيلة تلاعب عاطفي، تخفي انتهازيّة النساء البرجوازيّات لنساء الطبقات العاملة، للتلاعب بهنّ واستغلال حاجتهنّ للعمل، تحقيقًا لدوافعهنّ الشخصيّة، التي تتحوّل إلى دوافع سياسيّة، بما أنّها تؤبّد العنف الذي يمارسه النظام الرأسمالي في حق النساء العاملات، بمؤازرة من نساء، سواء واعيات للأبعاد السياسيّة والاقتصاديّة، أو غير واعيات لها.
فكيف يمكن بناء حركة تضامن بين النساء إذا ما كان بعضهنّ ينظر بدونيّة إلى الأخريّات، من موقعها وهي تلقي النظر مشفقة ومزدرية من هنّ في الأسفل منها، متموضعة في الدور الذي يناسبها؛ منظّرة، أو متحدّثة باسمهنَّ وباسم معاناتهنَّ التي لا تعلم عنها إلا القليل، وتنتظر منهنّ في المقابل، تقبّلًا وإشادة بإنجازاتها "لأنّ النقد ليس تصرّفًا أختيًّا حسنًا"، وحبًّا غير مشروط يوحي بوهم الوحدة.
فتقدّم النسويّة البيضاء بنموذجها الليبراليّ، مدخلًا لحركة تحرير النساء، لا تخدم إلا أهدافهنَّ، ومصالحهنَّ التي تنحو نحو الفردانيّة أكثر، غير عابئة بمصالح ومطالب النساء، من الأعراق والطبقات والأثينات المختلفة. فتقول بيل هوكس الكاتبة والناقدة الثقافية، التي كتبت وناضلت من أجل حركات نسويّة شاملة: "إنّ إصرار النسويات الليبراليات على لغة "الظلم المشترك" لم يكن بدافع تسييس الحركة، بل بدافع تفريغها من اللغة الراديكاليّة السياسية، وخدمة مصالحهنَّ الطبقيّة. وغياب التّحليل الطبقي والعرقي من النسوية الليبراليّة يقوّض لغة "الظلم المشترك"، بتهميشه للنساء السوداوات والملونات، ونساء الطبقة العاملة اللاتي يتقاطع الظلم الطبقي، والعرقي، والجندري في تشكيل حياتهنَّ اليوميّة. "
كذلك توضح بيل هوكس في كتابها "النظريّة النسويّة من المركز إلى الهامش"، أنَّ خطاب الضحيّة، هو خطاب النسويّة البيضاء، حيث تفترض مسبقًا أنَّ على النساء الأخريات الظهور وهنّ خائفات، وكادحات في المصانع، لتستحقّ تعاطفهنَّ الإنساني. أمّا إذا ما كنّ قويّات -وهو ما يستبعد من أذهانهنّ على الفور- ذلك لعدم تناسبه مع افتراضهنَّ المسبق، بأنّهنَّ ضعيفات ومحتاجات إلى عونهنّ.
ربّما حرّرنا الغضب والرّفض من وهم الرّجل المنقذ، فكيف تُحرّرنا تقاطعيّتنا من وهم المنقذة البيضاء؟
لذا تأخذ النساء البيض الناشطات نسويًّا وسياسيًّا على عاتقهنَّ مهمّة تحرير نساء العالم الأخريات، المقموعات في منازلهنَّ، والمعنّفات، وإيصال أصواتهنَّ في عمليّة لا يمكن لها أن تكون إلّا من خلالهنَّ. هنَّ اللواتي منحنَ حيّزًا أوسع من غيرهنَّ، وامتلكنَ امتياز البياض، مع ما يعنيه هذا الامتياز من تفوّق عرقي، واجتماعي.
بالرّغم من الأدوار الجندريّة التي فرضت على النساء البيض خلال القرن التاسع عشر، إلا أنّ ترحالهنّ إلى المستعمرات سمح لهنّ، بالتمتّع بحيّز أكبر من الحريّة والحقوق والمكانة الاجتماعية، ما دفعهنَّ لاسقاط تجاربهنَّ ونضالاتهنَّ على تلك الخاصّة بنساء المُستعمرات، أو النساء الشرقيّات وغيرهنّ.
مقدّمات نظرياتهن حول الواقع، والمعرفة بحياة النساء، ساكنات الهامش، نظريّات تفتقر إلى تحليل المعطيات التاريخيّة ومساءلتها، ما يعني في المقابل السيطرة على إنتاج المعرفة النسويّة، وندرة الدراسات التي تشارك فيها نساء الهامش تجاربهنّ.
ونجد على سبيل المثال قلّة الإنتاج الفكري النسوي في المنطقة الناطقة باللغة العربيّة، لكوننا خضعنا للاستعمار وللحركة الاستشراقية، المحمّلة بالصور النمطيّة، عن النساء الشرقيّات المسكونات بالغواية والسحر والشعوذة، منتجين العديد من التخيّلات لما هو شرقي، بأنّه محفوف بالغموض والعنف والقسوة، مبرزين حسب تعبير إدوارد سعيد "كيف كان الشرق صورة مرآة عكسية لــ" الآخر"، أي الغرب المتفوّق." أو بصفته متخلّفًا، غير عقلاني وجب السيطرة عليه جنسيًّا، من قبل المُستعمِر الأبيض، الذي بإمكانه ترويضه.
في حين تنتج نسويّة الاستشراق، امرأة العالم الثّالث. وتصوّر النساء في هذه المنطقة، على أنهنّ حبيسات المنازل، خاضعات لأزواجهنّ، ويتأسفن على حالهنّ، في حين أنّهن محظوظات لإيجادهنّ الدافع لإظهار تفوقهنّ، على النقيض من نساء الشرق اللامرئيات وغير المتحضّرات بعد، فلا يمكن أن تتقاطع حيواتهنّ بأي طريقة.
خيانة البياض
في حين تتسع رقعة البياض، وتمتد إلى حياتنا اليوميّة، تتجلّى يومًا بعد يوم كلّ الفروقات والتراتبيات الهرميّة، فنفهم أنّ البياض ليس فئة بيولوجيّة، بل أيديولوجيا، وإرث الاستعمار والعبوديّة التي ورثتها نساء الشعوب البعيدة عن المركز. فالبياض هو الامتياز للهويّات العرقية والثقافيّة المرتبطة بالأوروبيين/ات ذوي/ات البشر الفاتحة، ومصطلح الأشخاص "البيض" و"الملونين " ليس لوصف لون البشرة، بل مصطلحًا سياسيًا، أي من يستفيد بدرجة أكبر من البياض ومن تمّ تهميشهم/ن.
إلا أنّ البياض في النظريّة النسويّة يظهر في الحفاظ على النظام الاجتماعي والسياسي السائد، بتقبّلهن الامتيازات التي يمنحهن إيّاها عرقهنّ الأبيض، على حساب النساء الملونات، ففي حين ادعاءاتهن بالتضامن مع "جميع النساء"، تظهر ممارساتهنَّ عنصريّة واضحة، وتوجّهًا سياسيًا بعيدًا عن النضال الراديكالي، كما تمنحهنَّ امتيازاتهن الاجتماعية الاعتقاد بقدرتهنَّ على قيادة الجماهير النسائيّة، فيظهر أنهنَّ لا يرغبنَ أنّ يكنَّ جزءًا من الحركة النّسويّة بل قائداتها أو مدرّبات لقائداتها، رغم عدم امتلاكهن المعرفة التي تساهم في التنظيم النسوي، لكنّ ثقتهن تظهر الاستحواذ الذي يمارسنه على تشكيل النظريّات، أو التطبيقات العملانيّة، من خلال استبعاد سائر النساء من عمليّة صناعة النظريّات السياسيّة، وطرح التنظير النسوي النخبوي المنفصل عن لغة النساء اليوميّة، ونضالاتهنّ.
فما الذي تتطلّبه خيانة البياض؟
كان الشعار الذي أطلقته جريدة ناكث العرق " خيانة البياض، إخلاص للإنسانيّة "، فمناهضة العنصريّة تتطلّب بالضرورة اعتراف البيض بأنهم بيض، وأنّ خبراتهم ووضعهم الاقتصادي تأثرت عميقًا بكونهم تشكلوا كبيض، وأنّ جانبًا من امتيازاتهم، هو من قدرتهم على تجاهل سبل انتفاعهم من هويتهم العرقية البيضاء، وهو ما ينطبق بهرميّة على النسويات البيض.
فتجادل شولاميث فايرستون (shulamith firestone) الناشطة والكاتبة النسوية الراديكالية، بأنّ النزعة العنصرية بين النساء البيض شكل من أشكال الزيف، والوعي الزائف الذي لا يمثّل مصالحهنَّ الحقيقية، لأنها ستصب لصالح الرجال في نهاية المطاف، بإدامة التراتبيات الهرميّة والسيطرة الأبويّة، وتذكي الانقسامات بين النساء. بينما تعتبر أدريان ريتش (Adrienne Rish) الشاعرة والكاتبة النسوية الأمريكية، أنّ النساء البيض يدفعن نحو التعامي عن الألوان، فهنّ مدفوعات إلى خدمة المؤسسات العنصرية، لتصوّرهن أنهن مستفيدات، وما عنصريتهنَّ إلا تفريغًا للغيظ، لكون لا سلطة لهنَّ، وتظهر نبرتها التعاطفيّة في أنَّ النساء البيض بلا إرادة. وتزيد مارلين فري (Marilyn Frye) الفيلسوفة والمنظرة النسوية الراديكالية، أنَّ النساء البيض لم يتملّصن أبدًا من الامتياز العنصري على الرغم من قسوة التحيّز الجنسي الذي يتعرّض له، إلا أنّ امتيازاهنَّ العرقية والطبقية لهويّتهن، يجعلهن يسمعن ويرين فقط ما يردن أن يرينه ويسمعنه، لا سماع لأي شيء آخر يمكن أن يضر بمصالحهن. وأنهن يعملن لصالح "الأبيضيّة، وهي منزلة مشيّدة اجتماعيًا تمنح الاستحقاقات والسلطة" ، فخيانة البياض لا يمكن أن تكون بالتخلّص من فكرة الحفاظ على "العرق الأبيض" الخالص الذي يقيّد حياة النساء البيض الجنسية وقدراتهن الإنجابيّة.
وشرط الأختيّة إذًا، يتطلّب منهنَّ إفساح المجال أمام نظيراتهن، لإيصال خطابهنّ، وفي شموليّة الحركات النسويّة التحررّية، والتضامن السياسي المبني على رفض كافة أشكال الطبقيّة. فلا وجود للأختيّة، إذ لم نفهم تقاطعيّة صراعاتنا.