أسماء الغول - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/25rommanmag-com مجلة ثقافية فلسطينية مستقلة Sat, 02 Nov 2024 08:43:21 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.6.2 https://rommanmag.com/wp-content/uploads/2024/10/cropped-romman_logo-pink-32x32.png أسماء الغول - مجلة رمان الثقافية https://rommanmag.com/archives/author/25rommanmag-com 32 32 راحت غزة… https://rommanmag.com/archives/21596 Sun, 14 Jul 2024 09:10:53 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b1%d8%a7%d8%ad%d8%aa-%d8%ba%d8%b2%d8%a9/ خرجتُ مضطرة ليلًا، هبّت النسمات رقيقة على وجهي، لم أخرج من البيت ليلًا منذ شهور، أشعر أنّ الحياة تجري حولي، بينما توقف بي الزمن، تجمد كل شيء، كل ما يسير على جانبي يملأه الضباب. مرت الفصول وكبر أطفال الجيران، ولم أشعر بشيء، أشاهد المطر فأتفاجأ هل نحن في الشتاء؟ تضرب الشمس في البلكون، فاحتار متى […]

The post راحت غزة… appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
خرجتُ مضطرة ليلًا، هبّت النسمات رقيقة على وجهي، لم أخرج من البيت ليلًا منذ شهور، أشعر أنّ الحياة تجري حولي، بينما توقف بي الزمن، تجمد كل شيء، كل ما يسير على جانبي يملأه الضباب. مرت الفصول وكبر أطفال الجيران، ولم أشعر بشيء، أشاهد المطر فأتفاجأ هل نحن في الشتاء؟ تضرب الشمس في البلكون، فاحتار متى وصلنا الصيف؟ أبنائي انتهت سنتهم الدراسية ولم أذهب إلى مدرسة أحدهم هذا العام، لقد غاب عني العالم وغبت عنه.

أعيش في مكان وزمان لا ينتميان لواقعي هنا في غربتي بفرنسا. أعيش إبادة وقلق في حياة موازية، أنشغل بكل ما يخصها وبحاجة الناس وألمهم وفقدانهم، وأنا التي قررت قبل عام أن أنسى غزة وأمضي قدمًا في حياتي البعيدة، لكن كل مرة غزة لن تسمح لك بذلك، وإذا فلت منها فلن تفلت من حرب أخيرة تعيد إليك كل الألم وأرواح الشهداء السابقين.

دائمًا كان هناك شعور أنّ لديك مكان ترجع إليه يومًا ما، يخفف كثير من شعور الغربة، خاصة لو أنك ترى المغتربين حولك يسافرون بلادهم في إجازة نصف العام وإجازة ما قبل نصف العام وإجازة نهاية العام، كل ما يحتاجونه تذكرة طائرة لا تتجاوز مائتي دولار، أو حتى يمكنهم العودة بسياراتهم دون أي مشاكل، فتصيبك حسرة كبيرة وألم، وهذا إحساس ينتابك حتى قبل الإبادة، بسبب الحصار والعدوان المتكرر.

والآن أصبحت بلادك المستحيل بذاته، ذكرى في رأسك، ماضي تشتاق له، حكاياتٍ قديمة تحدثها لمن حولك، لم تعد واقع على الإطلاق. أماكنك التي اعتقدت أنها مؤقتة أصبحت دائمة، المدينة التي تعيش بها، غرفتك، سريرك، مخدتك، رقم هاتفك الذي لم تحفظه بعد، كل ما كنت تمني نفسك به أنك يجب أن تتحمله حتى تعود قد أصبح سجنك للأبد.

كما لا يوجد حولك من يشبهك أيضًا ليفهمك، فلا بلاد أبيدت كما يحدث لغزة الآن ولا أحباب قتلوا وتحللوا كما يحدث لأهل غزة الآن، ولا أكارم جاعوا وذلوا كما يعيش الصابرون والصابرات تحت قيظ الشمس في خيام غزة الآن.

راح الوطن، وأماكن ذكرياتك أينما كانت، أبيدت العائلات، توحش الاستعمار ليستحل الأرض والسماء والبحر، ويصنع أمريكا جديدة على حساب السكان الأصليين، ونحن من الأصليين في الخارج نعاني غربة مضاعفة، فلا بلد أصلي ولا بلد مؤقت، تمشي بين الضباب لا أحد يراك وأنت لا ترى سوى الماضي.

وصلني بالبريد من صديقة عزيزة وزوجها؛ قهوة وبزر بطيخ ومكسرات من غزة جميعها صنعت قبل الحرب، شعرت وأنا أتلقى الصندوق كأنها وصلتني رسالة من ميت أرسلها قبل وفاته، فمجرد أن تفتح الظرف يعود إليك الشخص مع كل كلمة، ولكنك لن تستطيع الرد، وأنا مع كل شفة قهوة عادت لي غزة من الموت، ومع كل حبة بزر، رجعت لي مئات الصور من زمن غزة الماضي، وجلساتها الجميلة، فطعم القهوة أمام البحر، ليس هو طعمها في الشتاء حين تشتريها عند “رمزون” السرايا من الكشك الصغير، كما أنه ليس هو طعمها في مقهى مزاج بحي الرمال، كل مرة عالم مختلف، مفتوحًا على الحنين في عقلك.. لتعود الآن كل تلك المذاقات من جميع اللحظات مرة واحدة، كيف يمكن لحاسة التذوق أنْ تصبح هي وطنك البديل، كيف يمكن لطعم المكسرات التي كانت تملأ الساحة في شارع فهمي بيك ويسميها البائع جمبري، أن تنقلك إلى الشارع والساحة والسوق، كأنك دخلت فتحة الزمن، فتلمح تمثال العنقاء، وترى ضحكات المارة، وتتسرب لأنفك رائحة البهارات قادمة من المحال المجاورة.

إلا أنّ موطني ليس طعم ورائحة فقط، إنه العمر والتجربة والناس، والإخلاص للمكان، وفوق كل هذا الحب، كيف لك أن تحب مدينتك التي ظلمت فيها؟، لكن هذا ما يحدث لك مع غزة، بل هي لازمة الأوطان.

أجسادنا تتبدل وأسماؤنا إذا أردنا أيضًا، وقد نصبح غيرنا في الغربة إلا الذاكرة هي هويتنا التي لا يغيرها شيء. واليوم نعرف جميعنا جيدًا أننا لا نستطيع تجديد كل تلك الذكريات فكل شيء اختلف للأبد، وستظل هوياتنا معلقة في الزمن، وقد تقترب منا في كل مرة نبوح عنها لأطفالنا وأحبائنا.

قرأت اسم شهيد “محمد جهاد عابد” شعرت أنني أعرفه، إن قراءة أسماء الشهداء في غزة تشبه لعبة الروليت الروسية، فلا تعرف متى تخرج الطلقة ومن ستصيب؟ تذكرته فجأة، لكني قلت غير معقول إنه يبلغ من العمر 6 سنوات وفي الخبر كتبوا إنه في بداية العشرينات، كيف؟ أنا أتذكر صديقتي إيمان تذاكر له دروسه مع شقيقه منذر! فجأة استوعبت أن هذا كان عمره حين تركت البلاد وأني لم أحسب سنين الغربة من عمره كأنها مرت علي ولم تمر عليه، توقف الزمن في ذاكرتي عند تلك اللحظة، لحظة تركت مدينتي، فبقي فيها كل شيء على حاله. إنني أعيش ثلاثة أزمنة وأمكنة متداخلة؛ زماني بالغربة الآن، وزمن الإبادة بغزة، والزمن الذي خرجت فيه من القطاع.

نعم الشهيد كان طفلًا.. والآن شابًا انتهى من دراسته ثم عمل بالهلال الأحمر الفلسطيني وقد كان خير مغيث للناس في الحرب، إنه ابن جهاد وسمية جيران الطفولة والمراهقة اللذين كنت التقيهما في كل مرة أزور صديقتي، بحثت عن صور الشهيد وجدته جميلًا رقيق الملامح يشبه عمته، صديقتي الأبدية مهما غيرتنا الحياة وهُدرت السنوات دون أن نتقابل.

حين نسافر تبقى البلاد التي نحب والأشخاص الذين نألفهم في عقولنا كما تركناهم، لكنهم في

 الحقيقة يكبرون، ويتغيرون، كل ما في الأمر أنك لم تعد جانبهم كي تلاحظ ذلك. 

كم يخدعنا العقل كي يحمينا من الألم، محمد لم يعد ذاك الطفل الذي يجلس إلى الطبلية مع 

أخيه منذر وتعلمهما إيمان وأنا أضحك عليها وأنتظر بفارغ الصبر أن تنتهي كي نجلس معًا 

ونأكل ما اشتريناه من شيبس وجلي “الحيايا” الملون.

الآن أخذت الحرب محمد ولن أعود أتذكر ضحكة والدته سمية، من سرق ابتساماتنا حتى من الماضي؟ قُصف البيت فوق محمد، بل هدمت الحارة، لم أجرب من قبل.. أن تمسح منك ذاكرة مسحّا تامّا كما يحدث الآن في غزة، كأنك كنت تعيش سرابًا.. بل هو زمن غزة الذي لن يعود.

The post راحت غزة… appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
رامي شعث: نعم غزة تُركت وحيدة والسبب الخيانة (٢/٢) https://rommanmag.com/archives/21581 Sat, 15 Jun 2024 15:36:31 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b1%d8%a7%d9%85%d9%8a-%d8%b4%d8%b9%d8%ab-%d9%86%d8%b9%d9%85-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d8%aa%d9%8f%d8%b1%d9%83%d8%aa-%d9%88%d8%ad%d9%8a%d8%af%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a8%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%ae/ الحديث مع رامي شعث، كأنك دخلت آلة الزمن، ليس لأنه يعقد مقارنات تاريخية طوال الوقت فقط، بل أيضًا بسببه هو نفسه؛ بمبادئه وأفكاره الثابتة وحماسه المتقد للمستقبل، تشعر أنه قادم من وقت آخر، زمن الأمل البعيد، الذي انتهى عند ميادين الربيع العربي، قبل أن يحكم على ذاك الجيل إما بالاغتراب، أو الاعتقال، أو القتل، في […]

The post رامي شعث: نعم غزة تُركت وحيدة والسبب الخيانة (٢/٢) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

الحديث مع رامي شعث، كأنك دخلت آلة الزمن، ليس لأنه يعقد مقارنات تاريخية طوال الوقت فقط، بل أيضًا بسببه هو نفسه؛ بمبادئه وأفكاره الثابتة وحماسه المتقد للمستقبل، تشعر أنه قادم من وقت آخر، زمن الأمل البعيد، الذي انتهى عند ميادين الربيع العربي، قبل أن يحكم على ذاك الجيل إما بالاغتراب، أو الاعتقال، أو القتل، في الجزء الثاني من مقابلة شعث، يطول الحديث عن حماس وخيار المواجهة في 7 أكتوبر. وكيف يندمج اليوم في فرنسا وعقله وقلبه في مدينة أخرى تُباد، ويحارب من أجلها كالعادة، لكن هذه المرة التقاليد الأوروبية في التضامن مع فلسطين، أو كما يحب أن يسميه بالفرنسية Contexte، ولا توجد كلمة متنصلة ومتلونة وأفعوانية كما هذه الكلمة “السياق”. هذا الجزء الثاني من مقابلة جزؤها الأول هنا… 

غزة وحيدة

 

هل تعتقد أن غزة تركت وحيدة الآن؟

نعم والسبب الخيانة. في 2003 بعد استلام أبو مازن تم تطهير المؤسسة من الخط الوطني، أي أحد له رأي وتاريخ وطنيين، وله دور يُقصى على الفور، ثم أغرقونا بشيء قذر اسمه حكومة تكنوقراط، وكل يوم يعودون للتحدث عن حكومة التكنوقراط، وكأنه مشكلة فلسطين مشكلة في الزراعة أو الصناعة أو تركيبة الميزانية المالية، لكن المشكلة كونها معركة تحرير، فالحاجة إلى حكومة سياسية بمشروع تحرر وطني وليست حكومة تكنوقراط لإدارة الصرف الصحي، وعبر نفس هذا النهج صار إضعاف للمؤسسة ومن ثم للمجتمع، خاصة في الضفة الغربية فقد أغرقت بالعاملين بالسلطة ورواتب وقروض يجب دفعها من هذه الرواتب، وذلك بقرار مركزي، وحتى العمال في إسرائيل عرض عليهم قروض بعشرات أضعاف رواتبهم إذا حولوا تلك الرواتب إلى البنك، وطبعا خلال العشر سنين الماضية، أصبح كل شخص في السلطة مديون للبنوك بعد أن اشترى بيتاً أو سيارة.

بل الأسوأ من ذلك أنه حين بدأ وقتها نقاش قرار الاعتراف بدولة فلسطين، ورغم محدودية أهميته على مستوى التنفيذ، لكن له دلالة كبيرة وطنيًا، عرفت وقتها من داخل المؤسسة أنّ المئات ضغطوا على محمود عباس “سيبك من الدولة الفلسطينية” وذلك لأن الأمريكان كانوا يهددون بقطع الرواتب، وكان الخوف الأكبر لديهم الطرد من بيوتهم وسحب سياراتهم وليس الاعتراف بفلسطين من عدمه. فإغراق الناس بالديون كان قرارًا سياسيًا، لاستخدامها في ابتزازهم، وتحويل المناضل لموظف يأخذ راتب وقروض، وبالتالي يبقى خاضع ومبتز.

وهل سير الأحداث بالطريقة هذه أدى اليوم أنه لا يوجد بالضفة من يتحرك من أجل غزة؟

لا. غير صحيح، المدن ممتلئة برموز مقاومة ونقاط مقاومة، كل المدن فيها مقاومة.

أقصد رام الله تحديدًا؟

رام الله ليست هي الضفة الغربية، رام الله هي فقاعة من السلطة والمال المرتبطة بالقرار السياسي، اتركي رام الله، وأنظري إلى الناس بنابلس والخليل وطولكرم وجنين، وليس فقط المقاومين، بل مجتمع كامل يقاوم. والحقيقة أنّ اختصار الضفة بالفقاعة غير الممثلة لفلسطين وهي رام الله التي خلقها الأمريكان وصندوق النقد الدولي، ومعها طبقة من الموظفين الذين لديهم السلطة والأعمال هي فقاعة مصطنعة، لا تعبر عن فلسطين.
 

 

الموقف الأوروبي والفرنسي

 

هل توقعت الموقف الأوروبي الرسمي من الحرب على قطاع غزة؟

بالتأكيد. فإن إسرائيل مشروع غربي قبل أي شي آخر، وقد بدأ فرنسي بريطاني، ثم ورثت الإمبراطورية الأمريكية قيادة العالم الغربي، وبالتالي أصبح مشروعًا أمريكيًا، والمفاجئ كان ليس الموقف، ففي الأخير هذه الدول موقفها عدائي، وداعم لإسرائيل وبقائها وسيطرتها وهيمنتها باعتبار دولة الاحتلال ليست فقط مشروعًا استعماريًا في فلسطين، بل لها دور وظيفي في الهيمنة على الشرق الأوسط، وبالتالي ضمان سيطرة الغرب على البترول والخامات وجميع موارد النمو الحضاري بأشكال مختلفة، لذلك لم أتفاجأ بالدعم الغربي لإسرائيل. المفاجأة حدثت حين أحس هذا الغرب في السابع من أكتوبر أن إسرائيل وقعت، فالحادثة أظهرت فجوة ضخمة جدًا حول صورة إسرائيل وإمكانياتها وقدراتها على الهيمنة والسيطرة، كذلك حول الجيش الإسرائيلي وصورته، وقدرته على السيطرة، وحين وقعت إسرائيل، جاءت هذه العلنية في الانحياز الفاجر، والذي نتج عن مدى خوفهم من انهيار المشروع. وسابقا وفي اللحظات التي كان فيها هذا المشروع الإجرامي يقتل الشعب الفلسطيني، كان ممكن للأوروبيين أخذ خطوة للوراء أو يقولوا لا، لكن حين شعروا أنّ إسرائيل التي يتم ضربها، شحذوا كل الهمم في معركة إخضاع للعالم العربي، وكسره وليس فقط الفلسطيني ومقاومته.

وفرنسا؟

فرنسا فيها شيئين آخرين بالإضافة لما سبق، أولًا لفرنسا تاريخ من العنصرية والإسلاموفوبيا، والمبني منذ الإمبراطور شارلمان على اعتقاد كون الفرنسيين هم من أوقفوا المد الإسلامي وقادوا بعد ذلك الحروب الصليبية والغزو النابليوني إلى العالم العربي، لذلك دائمًا توجد هذه الأحقاد على العالم العربي والإسلامي، واعتقادهم أنه هذا هو المنافس الحضاري وبالتالي يجب السيطرة عليه. والشيء الثاني أن فرنسا في آخر 15 سنة، بدءًا من ساركوزي أصبحت دولة غير مستقلة، وإلى حد ما هي غير مستقلة منذ الحرب العالمية الثانية، لكن فرنسا خلال آخر 15 سنة الأخيرة الماضية، باعت قطاعاتٍ رئيسية عسكرية وبحثية إلى أمريكا ومؤسسات تمويل فيها، وبالتالي أصبح قرارها السيادي والاقتصادي إلى حد كبير تابع للقرار الأميركي. وما بين دعم المشروع الصهيوني والكراهية والصراع الحضاري مع العالم العربي والإسلامي وما بين التبعية للمعلم الأمريكي لم أستغرب ذلك.

لكن الشعوب تختلف أليس كذلك…؟

نعم طبعا. أتحدث عن فرنسا الرسمية اليمينية العنصرية الرأسمالية، كالمؤسسة الحاكمة ومجتمع المصالح والأعمال، وفي النهاية فرنسا مثل كل العالم، فيها شعب متنوع بلا شك، والكثير منه مدرك للحق الفلسطيني. واليوم هناك عشرات الآلاف يتظاهرون في كل مكان بفرنسا ويعبرون عن رأيهم، وللأسف أقل من بريطانيا وأمريكا وهذا بسبب المركزية في فرنسا التي لا تسمح بحرية الرأي والتعبير. ودعيني أقول، مفاجأتي الحقيقية في فرنسا ليس موقفها الإمبريالي من فلسطين وليس دعمها المطلق لمشروع إسرائيل، بل المفاجأة هذا التمدد للفاشية وأنه في اللحظة التي توسعت في دعم الإمبريالية في فلسطين توسعت في قمع شعبها والكذب عليه في إدارة إعلامه، وقمع الناشطين ومنع المظاهرات وتهديد أحزاب بالحل؛ من أجل توقيعهم أو نشرهم بيان يدعم فلسطين، كما اتهمت الناس بدعم الإرهاب، وهي ذاتها تهمة النظام الرسمي المصري بالانضمام لجماعة إرهابية وعلى أساسها تم اعتقال 70 ألف معارض في مصر وقمع حرية الرأي والتعبير، وهناك ناشطون في فرنسا بعد ملاحقات انتهى بهم الأمر في المحاكم وأمام القضاة حيث تم سؤالهم عن آرائهم، وهو الأمر المخالف أصلًا لمبدأ القانون أنك لا تحاكم الناس على رأيها بل بسبب أفعالها.

اليوم المحاكمات في فرنسا تنطبق عليها نظرية محاكم التفتيش العنصرية في قمع الفكر والرأي والإعلام، وخلال سنتي الأولى في فرنسا بعد الخروج من المعتقل عملت على الأقل 200 مقابلة، ومنهم صفحتين في الجرائد الرئيسية، ومنذ السابع من أكتوبر لم تتصل بي أي وسيلة إعلامية فرنسية واحدة، على الرغم من كوني أجري لقاءات الآن في كل العالم، إلا فرنسا. هذه المركزية والتابو لا نراه في أي بلدٍ آخر، وليس موجوداً حتى بالإعلام البريطاني أو الأمريكي، لأنه على الأقل رغم حقارته إلا أنه يعرض كل الآراء، لكن هنا في فرنسا تجدي طاولة نقاش كاملة عن فلسطين، ويجلس حولها خمسة صهاينة، طيب واحد على الأقل خارج السرب كي يسمع المجتمع رأي آخر، يكاد يكون ذلك مستحيلًا.

ألم تفعل وسائل التواصل الاجتماعي الفارق الأكبر هنا، ولم يعد أحد ينظر إلى الإعلام الرسمي؟

صحيح دون شك، ولكني أتحدث عن مفاجأتي في فرنسا من حجم القمع والفاشية، والتعدي على القانون داخلها، وقلت في لقاءٍ قريب معي لا فارق بين مصر السيسي والحكم في فرنسا، هي نفس الطريقة في إرهاب الناس عبر تهديد المؤسسات وقمع المظاهرات ومنع حرية التعبير وتحريم ارتداء الكوفية. وعدم وجود رؤيا واستراتيجية في فرنسا جعلها قابلة للتبعية الكاملة للأمريكان، وعدم إدراك لمصالح فرنسا الرئيسة، ما جعلها اليوم بهذا الضعف. أنا أتذكر فرنسا وقت فترتي رئاسة ميتران وشيراك، إذ كان لديها قدر من الاستقلال السياسي وتميزه رغم وجودها ضمن الميراث الإمبريالي، أما الآن انتهى كل ذلك والآن هي ضعيفة وبلا رؤية وتابعة.

إذن كيف ستكون مآلات التضامن الشعبي الأوروبي؟

“يفضل رامي هنا، تدخين سيجارة سريعًا في جو ربيعي ولسعة برد على باب المقهى، ويعود متذكرًا السؤال بالطبع”.

أنا دائمًا أقول للناس حولي في فعاليات التضامن مع فلسطين، إنّ التضامن مهم ومؤثر، لكن يجب أن ندرك أن هذا غير قادر على وقف المجزرة لأن المؤامرة على ذبح فلسطين أكبر من هذه القدرة. وأرى أيضًا أنه من الجريمة استمرار الناس في المظاهرات والغضب في وقت المذبحة كالعادة ثم تعود إلى بيوتها عندما تقف المجزرة، الأساس أن نقوم بتحويل هذا التضامن إلى عملٍ مؤسسي ومستمر وقادر على تغيير المعادلة على المدى الطويل. معركتنا في فلسطين ليست معركة اليوم وستنتهي غدًا، هي لا تزال معركة مستمرة وطويلة لتحرير كامل التراب الفلسطيني، وهذا التضامن كله من المهم أن يستمر ويتحول إلى مؤسسة قادرة على تغيير الرواية ومن ثم التغيير السياسي. 

الشيء المهم الأخير في هذه النقطة، أنه لم يعد مقبولًا أنّ يكون التضامن مع فلسطين عبارة عن تضامن مع ضحية، مفهوم بالجانب الإنساني وبدون شك إننا ضحية لإسرائيل، لكن يجب أن يكون أيضًا تضامناً مبنياً على دعم المقاومة وتحرير الأرض. وما عاد مقبولًا استمرار أن نقع في شروط ما يسمى بـ السياق الفرنسي، وأنا مصمم دائمًا على كسر السياق الفرنسي وهو الصندوق المحبوسين فيه كرأي وفكر لأننا في فرنسا، لذلك “طز” بشروط هذا السياق، فعلى سبيل المثال لا يجب أن نربط التضامن بتبرئة أنفسنا من اللاسامية أو الوجود اليهودي، أو الاعتراف بالهولوكوست، هذه جرائم أوروبية بحق اليهود، على أوروبا دفع ثمنها ونحن غير مضطرين أن نأخذها بعين الاعتبار وبناءً عليها نبني شرعية مطالبنا. وعن نفسي كنت أرفض المؤتمرات رغم أنّ لي الكثير من الأصدقاء اليهود المعاديين للصهيونية وهم متحالفين معنا في حراك “أورجانس” وأقدرهم جدًا، ولكني أرفض أن يكون لزاما علينا (كما في السياق الفرنسي) في كل مؤتمر وكل ندوة أن يتحدث فيها يهودي كي يقول لنا “احنا مش ضد السامية”. لأن شرعيتنا قادمة من نضال شعبنا، وهذا السياق يجب أن يتغير في فرنسا، وكي يتغير يجب أن يكون هناك عمل منظم ومؤسساتي، وليس فقط غضب هنا ومظاهرة هناك.

أخيرًا هناك 7 مليون عربي ومسلم يسكنون بفرنسا غير مفعلين وتعرضوا لقمع أمني مستمر منذ ساركوزي إلى جانب قوانين إفقار وترهيب، واللعب في ورقهم وقدرتهم على البقاء وتشكيك في هويتهم وجنسيتهم وبالتالي تقوقعوا على نفسهم، إنه من المهم إعادة بناء هذا الإطار الأوسع. ولا ننسى أنّ هناك يسار فرنسي مؤسساتي خدع الناس في فرنسا سنين طويلة بالادّعاء أنه يسار حقيقي وضد الإمبريالية والعنصرية وهو كذب، فاليسار المؤسساتي في هذه البلد كاملة هو جزء من الرؤية الإمبريالية، هو يسار الإمبريالية وليس يسار حقيقي وعلينا الضغط عليه لتغيير روايته وبناء علاقتنا مع قواعده الشعبية، وأعتبر هناك يسار جديد من الشباب الرافض بشكلٍ كامل لإسرائيل ولا يشترط علينا القبول بها كجزء من الحل، وهذا اليسار الجديد عليه أن يكون جزءًا من خطاب اليسار الفرنسي.

 

مستقبل غزة وصورة إسرائيل

 

أول ما بدأنا الحديث قلت لي عبارة “مستقبل غزة سيكون أفضل”، مع إني أرى حاضرها دائمًا أفضل من مستقبلها، والآن حاضرها إبادة لا يمكنني تخيل كيف سيكون مستقبلها، فلماذا ترى أنت العكس؟

لا توجد لحظة أصابني شك بعدالة قضيتنا ولا نهايتها المحتومة بتحرير كامل أرضنا، وهذا ليس فقط تفاؤل ثوري، فأنا لدي خلفية بحثية في العلوم الاستراتيجية، لننظر على سبيل المثال إلى العامل الديمغرافي، فالعالم الذي جرب المستوطنات أو إحلال سكان بدل سكان، تركزت تجربته في ثلاث مناطق أساسية من العالم في الأمريكتين، وأستراليا، وجنوب أفريقيا، وفي الأول والثاني نجح الاستعمار الإحلالي لأنه تم إبادة الشعب الأصلي في أقذر مجازر التاريخ، وفشل في جنوب أفريقيا لأن المجتمع الاستعماري هناك كان يحتاج السود كي يستعبدهم ويشغلهم في مصانعه وشركاته وحقوله، وهذا أبقى أربعين مليون مواطن أصلي أسود في مواجهة 5 مليون عنصري أبيض وبالتالي كانت النتيجة حتمية لانتصار وإعادة السيطرة للسود، أما في فلسطين فشلت إسرائيل عبر قرن من الزمان في تغيير الواقع الديمغرافي على الرغم من كل المجازر والمذابح بفلسطين. ومنذ نوفمبر 2021 تساوت أعداد العرب الفلسطينيين واليهود في فلسطين التاريخية لأول مرة منذ عام 1948، وقد وصل إلى 6,9 ملايين نسمة لكل طرف، فالمستقبل تقرر أنه سيكون فلسطيني، فالأعداد في زيادة سواء بسبب هجرة المحتلين أو زيادة المواليد بين الفلسطينيين.

وماذا بالنسبة إلى الإبادة في قطاع غزة، والعدد المهول للشهداء؟

ما أقوله يفسر الإبادة من هذا المنطلق، فإسرائيل أدركت أنها ذاهبة اتجاه معركة منتهية مهما طالت مدتها وهي تخسر فيها، ومحاولة الإبادة مفهومة في النظرية الصهيونية والتحدي الديمغرافي، واحتلال الأرض أيضًا، لكن دعيني أقول لك بأن هناك أسباب أخرى، فإسرائيل لديها عدة أدوار، أهمها دور رئيسي باعتبارها المهيمنة والأقوى عسكريًا وأمنيًا وتكنولوجيًا واقتصاديًا، وقادرة على فرض الهيمنة لخدمة مصالح الغرب، وهي قطب يجذب له التبعية العربية من حكام يلجؤون إلى إسرائيل للحماية، ولكن قدرة إسرائيل على الحماية وأسطورتها الأمنية انتهت خلال الأشهر الماضية، بعد أن استطاع 1200 مقاتل فلسطيني على رغم من حصار 17 سنة، أن يقضوا على جيش غزة ويعتقلوا الألوية، وجزء رئيسي من إبادة اليوم هي محاولة تغيير الحالة الذهنية للمواطن الفلسطيني والعربي، كي يتذكر أشلاء الأطفال والسيدات والبيوت المهدمة وينسى الجنرال الذي جرّ بلباسه الداخلي، وضابط الشاباك الذي اختبأ تحت السرير، والجنود الذين بكوا مستسلمين. انتهت أسطورة إسرائيل المهيمنة ومعها قدرتها الاستراتيجية على فرض الردع، وهي بداية نهاية المشروع ككل.

لكن إسرائيل لا تريد أن ينسى الناس ما حدث لها في 7 أكتوبر من ضحايا وقتلى؟

دائما لعبت إسرائيل الدورين، دور ضحية النازي والآن “ضحية الإرهاب” لتستخدمها في بناء الرواية وجذب التعاطف والابتزاز السياسي، ولكن أيضا هناك دور القوى والبلطجي والمهيمن لأنه أساس تجمع اليهود في هذا الكيان وأساس دوره الوظيفي في المنطقة. إن الفشل المتراكم عبر الـ8 شهور الماضية في فرض التهجير أو حتى في الانتصار على الأرض وإخراج الاسرى جعل إسرائيل تفقد قدرتها على الحفاظ على الرواية. والآن لا يفرق مع إسرائيل صورتها الإعلامية، تعتقد أن هذا ممكن معالجته بالمال، وبالحماية الأمريكية فقد راحت بعيدًا بالإبادة الجماعية، ولم يعد المال يحل شيئًا، ومن المهم عند إسرائيل أن يعرف العالم بجرائمها وتفجير البيوت والفظائع التي ترتكبها بحق الأطفال والنساء، والتعذيب الممنهج، يريدون القول للعالم نحن بهذه القوة والبشاعة، لأنهم يحاولون أن يرجعوا كرامتهم التي أُهينت ليس فقط في السابع من أكتوبر، بل في 8 شهور من الإبادة في غزة لفرض الاستسلام إلا أن هذا لا يحدث، فهناك مقاومة وصمود، وهناك عساكر صهاينة يقتلون ودبابات تعطب و صواريخ تطلق كل يوم. 

يعني لا تهتم إسرائيل بالعزلة السياسية والدولية التي أصبحت تعيشها؟

بالعكس منذ اللحظة الأولى إسرائيل تريد أن تسترجع الصورة كي تظهر المهيمنة واأضا الضحية، وما هي الصورة إلا وظيفة إسرائيل؛ صورة القوي المهيمن القاتل، والذي يقف أمامها ستذبحه، هذه أداة رئيسية لوجود إسرائيل واستمرار هيمنتها ولعب دورها الوظيفي، ومن المهم جدًا لها إعادة تصدير هذه الصورة، لكن الفشل مرعب لدى إسرائيل ولدى حلفاءها الغربيين سواء في مواجهة غزة أو لبنان أو حتى اليمن وطبعا في المواجهة مع إيران. والاختلال في الصورة يمتد فاحتياجها لأساطيل من الدعم العسكري العالمي لحمايتها، وملايين الأطنان من السلاح الأمريكي والغربي إضافة إلى الدعم الاستخباراتي، والآلاف من المرتزقة للعمل في الجيش الإسرائيلي، ومنهم أربعة آلاف مرتزق فرنسي يخدمون هناك، فإذا كانت إسرائيل بالقوة التي تحاول تصويرها، لماذا تعتمد مائة بالمائة على دعم لا نهائي من الغرب؟!

 

إخوان مصر وإخوان غزة

 

قلت في معرض حديثك بالجزء الأول إنّ حكم الإخوان ضعيف، لكن أليست حماس جزءًا من الإخوان؟

في 2013 وهي الفترة التي حكم فيها مرسي، كان هناك هجوم ضخم في مصر من الأوساط الثقافية والمدنية، على الإخوان وشيوخ الدين بشكل عام واتهامهم بكونهم متخلفين وجاهلين، وكنت اقول لهم لكنْ الاقتصاديين أيضًا في مصر متخلفين، والرياضيين متخلفين، والفنانين متخلفين، واليسار متخلف، والرأسماليين بمصر متخلفين، جميعنا خرجنا من مستنقع الجهل والتبعية، فالنظام الفاشي العسكري التابع للغرب الذي يحكم مصر منذ 5 عقود، يصرف لليوم 2,5% فقط من الدخل القومي على التعليم في وقت متوسط صرف الدول الفقيرة 7%، والمتقدمة 11%.

نحن أقل دولة في العالم تصرف على التعليم، وزاد الطين بله إعلام فاشل وكاذب وموجه، وبالتالي إخوان مصر نفس النتاج الفكري، وهل تتخيلون أن شيوخ مصر سيكونون مختلفين عن هذا الجو العقيم؟، جميعهم من نفس البيئة التي فيها تعليم فقير، إلا قلة قليلة جاءت لها فرصة مختلفة بتشجيع ودعم من داخل البيت أو العائلة وأصرت على التعليم واستطاعت السفر والحصول على منح أو كافحت لإبقاء وعيها. والحقيقة أنّ الإخوان في تونس على سبيل المثال كانوا أذكى بكثير في التعامل مع الوضع التونسي، والمشكلة الأخرى في فهمهم وتطبيقهم للسياسة ولمبدأ السمع والطاعة عبر ثمانين عامًا من تنظيم لم يبنِ أيّ فكرٍ سياسي؛ لأن الأجيال تعاقبت على أن تسمع الكلام.

وهل هذا ينطبق على حماس؟

ليس مائة بالمائة، والفارق حين تكونين في معركة مقاومة وتحرير وسلاح في مواجهة عدو، هذا يفرض وقائع في طريقة التفكير والوعي مختلفة، وثانيًا التعليم في فلسطين أفضل من مصر، ونحن لغاية فترة قريبة كانت فلسطين أعلى نسبة تعليم وحملة شهادات ماجستير ودكتوراه في العالم العربي. الحقيقة أن واقع اشتباكنا مع العدو جعل الوعي والعناد أعلى بكثير، ودائمًا نطلق جملة على سبيل السخرية في فلسطين أننا كلنا قيادات ولا يوجد عناصر، وهذا حقيقي وفخر أنّ المجتمع الفلسطيني يولد ناس لديهم هذا الوعي وهذا التصميم وهذه المواهب القيادية لأننا في معركة تحرر.

أعتبر فترة ضعف حماس الرئيسية، هي الفترة التي قبلت أن تكون كامل تبعيتها للتنظيم في مصر وعملت خلالها أخطاء كارثية من الاشتباك في سوريا، إلى فقدان تحالفها مع محور المقاومة وقد كان على حماس البقاء على نفسها إسلامية كما تريد، ولكن مستقلة بمنابع وطنية فلسطينية، خاصة في فهمها وإدراكها لدورها الفلسطيني، وحين حدث ذلك في عهد قائدها يحيى السنوار، رأينا حماس قوية مقاومة. وهكذا الإخوان بفلسطين يختلفون، وبتركيا تصرفوا بشكلٍ مختلف أيضًا عن الذين بالأردن، فحركة الإخوان في كل بلد يختلف إنتاجها الفكري عن الإخوان في بلد آخر، وهو تنظيم متشابه في الفقه الديني وليس في الأداء السياسي. وأعتبر التيار الإسلامي في العالم العربي هو تيار طبيعي نسبة لمكان كان أنتج فيه الإسلام ألف سنة من الحضارة وتم القضاء عليها وعلى الخلافة بفعل الاستعمار، وبالتالي من الطبيعي أن ينتج في هذا المكان قطاعات في المجتمع ترى في ذلك هو المعون الحضاري، بالتأكيد أختلف معهم في أشياء لكن أتفهمها.

 

7 أكتوبر ليس قرار حماس وحدها
 

والآن كيف ترى حماس…؟

ستبقى دائمًا عندي اختلافات حول رؤيتي السياسية مع حماس، ولكن حماس المقاومة والقسام تمثلني بلا تحفظ. وغباء من بعض الناس الاعتقاد أنّ 7 أكتوبر هو قرار من حماس، وهذا ليس حقيقيًا، ومثل كل قيادة في العالم، بلا شك أنها تتخذ قرار المعركة وتوقيتها بناءً على حساباتها، لكن مستحيل أن تتخذ هذا القرار دون أن يكون قرارًا شعبيًا وشاملًا فلسطينيًا بالأساس، فشعبنا منذ سنوات يدرك أننا باتجاه القضاء علينا وعلى وجودنا، وفي اتجاه تهويد القدس، وأننا نحتاج أن نقاوم. وأن المقاومة المسلحة هي الحل.

لكن الناس في غزة اكتفت من الدمار وفقدان الأحباب، وانتهاء الأمل، بل أصبح صوت لوم حماس ولوم السنوار عاليًا. فلا يمكن لوم الناس على لومها؟

أكيد. مَن يستطيع لوم الناس هناك؟ دائمًا يوجد نقاش بيني وبين ناس في غزة، وأسمعهم في إطار الأدب الشديد والواقعية لأني مدرك ألم الناس ووجعهم، ومدرك أنّ الخطة الإسرائيلية الرئيسية هي ذلك، وهي قتل الناس ومعاقبة الشعب، كوسيلة لكسر مقاومتنا، والحقيقة أنّ الناس أحيانًا لا تدرك ذلك. على سبيل المثال سمعنا إحدى المرات حين صرحت وزارة الخارجية الأميركية أنّ القصف والقتل والتجويع سيتوقف في حال استسلام حماس، بمعنى آخر أنّه لا مانع من استهداف المدنيين والأهالي وقتلهم وتجويعهم لإجبار المجتمع على الاستسلام، إدراكًا أن المقاومة ليست فقط حماس، بل هي الشعب الفلسطيني، والشعب كله في خندق المقاومة، وهناك محاولة لكسر إرادته. وطبعًا العائلات تعيش تحت إرهاب مرعب منذ أكثر من ثمانية شهور من القتل والتجويع والتعذيب والتشويه والدمار واللا مستقبل، بلا شك هناك انهيار مجتمعي بتركيبته وأمانه ووعيه وفي صحته وتشتته، وهناك عائلات أصبحت غير موجودة، هناك أكثر من 22 ألف طفل يتيم، منهم 3500 طفل لم يتبق لهم أحد. الناس لا تدرك حجم ما يحدث. ودائمًا في محاضراتي بفرنسا أعطي الأرقام للناس، ثم أقول لهم انتبهوا، نحن لسنا أرقامًا؛ لأن كل شهيد من هؤلاء الآلاف لديه حكاية وعائلة ووطن.

الناس على الأرض فقدت الأمل وما يحدث أقوى من الاحتمال ويتجاوز الفهم وأقوى من التبرير والتحليل..

أنا لا أستطيع أن أزايد على أيّ أحد وسط المذبحة، حكي شعبنا مقبول وأحترمه، ولكن السؤال، ماذا سنفعل بهذا الكلام؟ هل هذا يعني أنه علينا أن نعمل كلّ ما يمكننا لوقف المجزرة؟ طبعًا، هل هذا معناه أن نعمل كلّ ما نستطيع كي نلعق جراحنا، وسرعة دعم غزة لإعادة بنائها ورعاية الناس؟ طبعًا. طيب، لكن هل هذا معناه أنّ الحل في ذلك وتحقيقه باستسلام المقاومة اليوم؟ لا، وهذه المشكلة والمشكلة ليس أنّ شعبنا الذي يتعرض للإبادة يفقد الأمل، هذا مقدر ومفهوم وإنساني، بل السؤال الآن حول هل أنت مدركة في موقعك، أبعاد ما يحدث، وأنه لو استسلمت المقاومة، الشعب سيذبح أكثر، ويذل لسنين طويلة، وسنخسر غزة والضفة الغربية؟ والحقيقة أنّ غزة ضحت ليس فقط لإنقاذ نفسها، بل إنقاذ القدس والضفة قبل نفسها، والسؤال اليوم، كيف نوقف المذبحة؟ كيف نعيد بناء وحدتنا الوطنية وبناء مشروعنا التحرري؟، وكيف نعيد استثمار المقاومة والغضب العالمي من جرائم إسرائيل في إعادة بناء مكاسب سياسية تقدم قضيتنا خطوة للأمام، وتحمينا على المدى الطويل، وليس على المدى القصير…؟ وللأسف إذا أصابنا انهيار في إدراك هذا الدور ليس فقط سيضيع الحاضر، بل المستقبل أيضًا، إذا المعركة قرارها كان خطر، فإن قرارها الوحيد كان إنقاذ المستقبل، ومن اتخذ قرار المعركة مدرك للثمن الفظيع على المدى القصير.

ومن ينقذ الناس الآن من وحشية الآلة العسكرية الإسرائيلية؟

هل المقاومة تستطيع أن تنقذ الناس؟ لازم نسأل ما هي المقاومة؟ هي أخوك، وابن عمك، يعني أقصد نفس وضعك لكن معهم كلاشن، وبالأخير هم مجتمع مدني أعزل مثلنا، ولكن قرر أنه لا يتحمل قتلنا بالبطيء واحتلال أرضنا بالبطيء، فقرر يشيل حجراً، أو يصنع صاروخاً من خزان مي، يضرب فيه عدوه الذي يقتل أولاد شعبه، هل الآن نحن نطالبه أن ينتصر على إسرائيل والإمبريالية العالمية؟ لا. نحن نطالبه يقاوم، يعني هل أبو عمار استطاع أن يحمي أكثر من 50 ألف فلسطيني ولبناني ذبحوا بحرب لبنان 1982، لم يستطع.

الناس لاموه أيضًا في تلك الأيام…

طبعا وصار نتيجته انشقاق دعمته الدول العربية بنفس المعاني والألفاظ التي تحدث الآن، مثلًا أمس كنت على نقاش مع أحد ينتمي لحركة فتح، ويناقش هذا الموضوع، وقلت له: والله أنت نسخة من أبو نضال وأبو موسى وأحمد جبريل، الله يرحمك يا أبو عمار، لو أنتم تعلمتم شيء من فتح، فأول درس في فتح هو أن الرصاص يوجه فقط للعدو الإسرائيلي إذا لم تتعلموه، لن تكونوا فتح. نفس القذارة صارت عام 1982 ونفسها صارت في كل لحظة مقاومة، وهو محاولة الإقناع بعدم جدوى المقاومة، إذن نسلم أراضينا ونقوم نروح. والسؤال كيف لمشروعنا للتحرر الوطني مواجهة محاولات محو وجودنا؟ فسموتريتش الذي يعبر عن رأي الأغلبية في إسرائيل قبل حوالي شهر من 7 أكتوبر، خرج يقول للفلسطينيين أمامكم ثلاثة حلول: أولًا أن ترحلوا عن الأرض وتسلموها لنا أو تقبلوا أن تعيشوا عبيدًا لنا وقالها هكذا بالحرف، بمعنى السيطرة الإسرائيلية على حياتكم، والخيار الثالث الموت ببطء في بيوتكم. وبالمناسبة أنا جدًا ضد السخافة الغربية، وهدفها حماية اسرائيل باعتبار نتنياهو وحكومته هم المشكلة باعتبارهم من المتطرفين اليمينيين، والحقيقة أنّ كل ابن كلب حكم إسرائيل كان مجرماً، لا يوجد رئيس وزراء إسرائيلي إلا استباح دمنا وارتكب مذابح، وترويج قصة كون هؤلاء متطرفين، ما هو إلا محاولة إنقاذ إسرائيل وسمعتها، فالمشكلة هيكلية وإجرامية في الحركة الصهيونية. وهنا نختار نحن أن نقاوم، لأنه حين نقاوم يصبح لدينا فرص لنغير هذا المستقبل.

وماذا ترى بعد كل هذا الدمار، وما بعد المعركة؟

عبر سنين من مقاومة المشروع الاستعماري في بلادنا بقينا قادرين في لحظات، القيام بتضحياتٍ ضخمة ودم كثير، لكن قادرين على أن نخرب مشاريع الاحتلال والغرب لتهويدنا وقتلنا واستمرار سرقتنا، ولكن ليس لدينا القدرة لوحدنا على إقامة مشروع بديل. وفي هذه المعركة يجب أن نكون حذرين في استثمار النتائج، فإن مقاومة شعبنا وصموده أفشلت إسرائيل في المعركة العسكرية ولم تحقق أهدافها، وهذه ليست أول مرة، بل فعل شعبنا ذلك في عدة حروب ومعارك، ومنها معركة الكرامة، فقد فشلت إسرائيل في مواجهة واستبسال شعبنا بأدواتٍ بسيطة، لكن كل مرة نخسر سياسيًا ما بعد المعركة، في كيفية إدارة لحظة ما بعد المعركة وللأسف خوفي من حجم الانهيار المجتمعي الذي صار بغزة يسهل هذه الهزيمة السياسية بعد انتهاء المعركة. ومن هنا تأتي أهمية وسرعة بناء قيادة فلسطينية، في هذه اللحظة التاريخية، وهناك أكثر من 9 مليون فلسطيني في الخارج، قادرين أن يتحولوا الى العمق الاستراتيجي ويقدموا البدائل والقيادة البديلة، القادرة على توحيد وحماية الشعب الفلسطيني ومقاومته في اللحظة الصعبة الحالية وأن يكونوا الغطاء السياسي لشعبنا وللمقاومة في لحظة ما بعد المعركة.

وهكذا يمكن أن نخرج إلى اليوم التالي الفلسطيني وليس ما يريده العالم؟

أقول دائمًا للناس يجب أن نتمسك باليوم التالي الفلسطيني، ونبنيه بأنفسنا. الأمريكي والإسرائيلي كاذبان، ليس لديهما خطة اليوم التالي، فمرة كانت الخطة طرد السكان من قطاع غزة لمصر، وفشلت، ومرة كانت احتلال غزة وهذا ليس ناجحًا أيضًا، كما تحدثوا عن قوات عربية مصرية وإماراتية لقمع الفلسطينيين في غزة، ولم يحدث، كما طرحوا جلب قوات السلطة الوطنية الفلسطينية وحكم العشائر وفشل الطرح، وفي أخرى تحدثوا عن قواتٍ أوروبية. إن تخبطهم هذا وتعدد مشاريعهم يثبت أننا بالمقاومة والصمود والوحدة قادرين على إفشال مخططاتهم لليوم التالي، إذن ماذا سيكون اليوم التالي الفلسطيني؟ من الممكن أن يكون تبادل أسرى وخروج القيادة البديلة، مروان وسعدات بالإضافة للسنوار وإعلان وحدة فلسطينية، واتجاه إلى انتخاباتٍ حقيقية تعبر عن الموقف الفلسطيني في إعادة إعمار غزة. وممكن بجبهة قيادية فلسطينية واسعه تقبلها المقاومة ويكون جزء منها تَشكل طريق اليوم التالي الفلسطيني. أما عن كيف ولماذا وأين، فكله سيأتي لاحقًا، فالتوازن الدائم مطلوب لاستراتيجيتنا الوطنية، وهذه الاستراتيجية منذ احتلالنا، ندرك معها أن الشعب الفلسطيني غير قادر وحده على مواجهة المؤامرة الغربية على وجوده، لذلك لدينا دورين؛ الأول هو الصمود، وصمود شعبنا على أرضه هو الأساس، والثاني استمرار المقاومة كي لا يرتاح الاحتلال لاحتلاله أرضنا، إلى أن تتاح لنا الفرصة لتغيير موازين القوى، ونستطيع التحرير الكامل، والتغيير قد بدأ وهو عبارة عن معركة طويلة، حفاظنا خلالها على شعبنا و على قدرته على الصمود أساسي والذي لن يتحقق إلا بالوحدة.

وأسئلة الضحايا ومعاناة الناس؟

قرار حماس بالمواجهة في تلك اللحظة -والذي تحاسبها الناس عليه – يشبه القرار الذي اتخذه أبو عمار في نهاية السبعينات بمواجهة إسرائيل في لبنان، ومثل لحظات مختلفة كثيرة اتخذت فيه المقاومة في بلاد أخرى قرارات مشابهة، والمقاومة اليوم حماس، وهي رأت وأنا أتفق معها بأن الصمود معرض للخطر إذا لم تتصاعد المقاومة. أقصد اضطر الشعب الفلسطيني ولن أقول حماس، تحت كارثة السلطة الفلسطينية المستمرة منذ 20 عامًا، والمؤامرة الدولية والعربية، اتخاذ قرار ممكن يهدد قدرة الناس على البقاء والصمود، بتفجير مقاومة نوعية جدًا في اتجاه العدو، وعلينا الحفاظ عليها، والحفاظ على مكاسبها، ولكن عبر سرعة الاستثمار في عودة الصمود وتضميد جراح المجتمع وإعادة بناء غزة.

 

شكل الخروج من المعركة

 

بناء غزة… كيف؟

قصة صعبة، التمويل لإعادة الإعمار في المستقبل القريب، سيكون قصة حساسة جدًا لأنه جزء رئيسي من التمويل الذي سيأتي أوروبي وغربي، ومن صندوق النقد الدولي والإمارات والسعودية، وسيأتي باشتراطات سياسية حول أمنك ومستقبلك ومشروعك الوطني، لذلك وجب علينا بناء أدوات تمويل بديلة وعلينا بناء قيادة سياسية وطنية، وتشمل الجميع تستطيع إدارة هذا الملف. 

لكن من يملك المال هو القامع القوي..

ممكن جمع المال، فهناك ملايين البشر المتعاطفين مع الفلسطينيين، ولو كل متظاهر خرج في مظاهرة تبرع بعشر دولارات ستتم إعادة بناء غزة. وأن يتم ذلك بشكلٍ مؤسساتي، وهذا يتطلب قرار قيادي ذا شرعية من الشعب الفلسطيني وبالتالي الشعب يعطي الشرعية للمجتمعات بالعالم، ولو بنينا مؤسسات في الخارج تجمع منذ اليوم التمويل الفردي من أماكن مختلفة لمشاريع إعادة البناء، وكفل الأيتام، وبناء اقتصاد بديل، وتبني هوية وطنية وترسخها، وجميع أنواع المشاريع التي لن تصرف عليها الأموال الدولية، على سبيل المثال من المهم جدًا دعم قطاع الصحة وسط المذبحة بسبب الحصار، لكن ثاني يوم بعد توقف المذبحة، لا أحد يصرف على الصحة، لأنه ستتكفل بها الأموال الدولية من كل مكان. وهذا كله يحتاج إلى قرارات قيادة، وتوازن استراتيجي، وشكل خروجنا من المعركة وإعادة بناء مشروعنا الوطني وليس فقط الوحدة السياسية، عن نفسي لا تهمني المصالحة نهائيًا بين أبو مازن وخالد مشعل، ولا توجد قيمة لهذه المصالحة، أنا أريد إعادة بناء شعبي، قيادة جديدة، خارج الاثنين.

هل اشتقت إلى غزة؟

اشتقت إلى كل شيء في غزة، أعرفها بيتتً بيتاً وشارعاً شارعاً، غزة كلها صغيرة، ولي ذكرياتي في كل مكان، ورغم مدة العيش القصيرة والتي استمرت 3 سنين ونص، وسنتين متقطعتين، لكن أتذكرها جيدًا، وقد دُمر بيت العائلة في هذه الحرب مثل كل البيوت، ولدينا عائلة ممتدة من آل شعث ما بين خانيونس ورفح، وكنت أتابع عدد الشهداء والجرحى والآن فقدت الحصر، وفي الحقيقة لم يعد سؤالي له معنى من استشهد اليوم؟ لم تعد لدي القدرة على سؤاله من جديد.

هل تستطيع أن تميز شوارع غزة بعد الدمار من الصور المعروضة على الشاشات؟

سأقول لك قصة عن قريب من عائلتنا بعد أن دخل إلى خانيونس المدمرة عقب خروج الجيش منها، ليس أنه لم يجد البيت، بل الأسوأ لم يعرف موقع البيت ومكانه وهو ولد وعاش فيه، فالشجر مقتلع، والبيوت بجانبه مهدمة، والشوارع تم تجريفها، وقد اختفت كل العلامات الدالة على المكان، مجرد صحراء عليها ركام، وأخبرني أنه بالنهاية تعرّف إليه من التدقيق في بقايا ركام منزله مثل إطار الشباك أو الباب.

 

من ملصقات حركة أورجانس في فرنسا

The post رامي شعث: نعم غزة تُركت وحيدة والسبب الخيانة (٢/٢) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
رامي شعث: “أورجانس فلسطين” تثبّت روايتنا ضمن حركات التضامن العالمي (١/٢) https://rommanmag.com/archives/21580 Fri, 14 Jun 2024 10:17:50 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b1%d8%a7%d9%85%d9%8a-%d8%b4%d8%b9%d8%ab-%d8%a3%d9%88%d8%b1%d8%ac%d8%a7%d9%86%d8%b3-%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86-%d8%aa%d8%ab%d8%a8%d9%91%d8%aa-%d8%b1%d9%88%d8%a7%d9%8a%d8%aa%d9%86%d8%a7/ على عكس صوره في الإعلام، قد تشعر أنّ رامي شعث هادئ أو قليل الحديث، لكنه في الحقيقة ليس كذلك، يتحدث بقوة وتركيز ويسترسل لشرح قناعاته، ودائمًا لديه بنود ومحاور لكل فكرة، يسخر من نفسه أحيانًا، يشرح بيديه، بحماس ونشاط كبيرين، لديه أمل في المستقبل، والأهم في قرب تحرير فلسطين. ناور بحياته بين هوياته المتعددة، وقاتل […]

The post رامي شعث: “أورجانس فلسطين” تثبّت روايتنا ضمن حركات التضامن العالمي (١/٢) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

على عكس صوره في الإعلام، قد تشعر أنّ رامي شعث هادئ أو قليل الحديث، لكنه في الحقيقة ليس كذلك، يتحدث بقوة وتركيز ويسترسل لشرح قناعاته، ودائمًا لديه بنود ومحاور لكل فكرة، يسخر من نفسه أحيانًا، يشرح بيديه، بحماس ونشاط كبيرين، لديه أمل في المستقبل، والأهم في قرب تحرير فلسطين.

ناور بحياته بين هوياته المتعددة، وقاتل من أجل كل واحدة على حدا حينًا، ومعًا في بقية الأحيان؛ اعتقل في مصر عامين ونصف تحت حكم السيسي، وقبلها في فلسطين خاض كثيرًا من المعارك، وعاند الجميع بما فيهم والده د. نبيل شعث العضو السابق باللجنة المركزية لحركة فتح إلى أن ترك كلّ شيء ورحل، ومع ذلك لا يزال يتحدث بعاطفة حين يذكر تلك الفترة، وخاصة ياسر عرفات.

 تشعر أنه طفلٌ دائم وصل إلى الخمسينات من عمره، ومع ذلك لا يبدو كبيرًا، عنيدًا بالتأكيد، ولكن حين سألته هل تعتبر نفسك “نمرود” باللهجة الغزاوية، رفض مبتسمًا، وقال لا أنا مسالم.

مسالم ربما، على طريقة رامي شعث، فيقاتل من أجل قناعاته ولتكسير القيود التي يفرضها عليه المكان، والسياق الذي يحدده له، وهكذا يفعل اليوم في فرنسا، خلال زمن الإبادة في غزة، فقد شكّل مع آخرين حراك “أورجانس فلسطين”Urgence Palestine  الذي هزّ فرنسا بالمظاهرات، خاصة في باريس، حيث تقابلنا أيضًا اليوم وتحدثنا عن مصر، ورام الله، وغزة، والغرب.

 

مصر وثورة يناير

 

أول سؤال خطر لي، إذا ما اشتقت لمصر؟

“بلهجة خليط بين المصرية والفلسطينية يتحدث”: طبعا، يعني أنا نصي مصري؛ لدي جنسيتي المصرية رغم أنه تم سحبها بالسجن، لكني عشت معظم حياتي بمصر، وابنتي وأختي مصريتين، وأمي المتوفاة كذلك، وقد حصل والدي على الجنسية المصرية في زمن الرئيس جمال عبد الناصر. طبعا هويتي وثقافتي فلسطينية، لكن مصر وطن مثل فلسطين تمامًا، وأنا ممن خطط لثورة يناير لأنني أعتبر تحرير مصر معركة وطنية لها نفس الطريقة والتوجه، كمعركة تحرير فلسطين. فنعم، أشتاق للناس والأكل وحتى الخناق بمصر أشتاق له، لم أذهب إلى هناك منذ سنتين ومع سنين السجن داخلها، فأنا لم أرها منذ خمس سنين.

هل ترى مصر تغيرت؟

بالطبع، تغيرت مصر كثيرًا، ويزداد فيها اليأس والقمع والاختلال في الفهم والرؤية والوعي، كما يزداد فيها الانهيار الحضاري والثقافي، في كل شيء، سواء في السينما أو المسرح أو الرياضة. كذلك في التشكّل السياسي والتركيبة الاجتماعية وتماسكها. الحقيقة مصر في أسوأ عصور حكمها الفاشي، وفاشي بشكلٍ مختلف، فهناك محاولة لكسر الهوية المصرية وإعادة تشكيلها بشكلٍ استعبادي واستهلاكي. مصر في أزمة حقيقية ويصعب علي ألا أكون موجودًا هناك في هذه المرحلة التي تحتاج إلى تغيير.

هل هذا الاختلال في الرؤية والمفاهيم هو سبب ما يفعله النظام المصري في غزة خلال الإبادة الحالية أم أنّه سلوك قديم ومعتاد؟

بلا شك أنه بدأ منذ اتفاقية كامب ديفيد، وربما منذ مفاوضات الكيلو 101، خلال عام 1973، بمعنى هي اللحظة التي قررت فيها مصر الرسمية أنه انتهى عهد مقاومة إسرائيل، وكما قال السادات “كروت اللعبة في إيد الأمريكان”، فقلبت مصر توجهها السياسي بدل دولة تسعى للتحرر إلى دولة تابعة للولايات المتحدة، وبدل دولة تدعم التحرر في الجزائر والكونغو وجنوب إفريقيا إلى دولة جزء من الدول الاستعمارية، ولديها دور في تنفيذ الرؤى الاستعمارية.

ومن دولة ذات طابع اشتراكي -حتى لو ما كان اشتراكي مائة بالمائة لكن كان هناك تقارب كثير بين الطبقات- إلى دولة مبنية على الاستهلاك والرأسمالية والمؤسسات الدولية والسرقة والنهب، ومن ثقافة وتعليم حقيقي في مصر، منذ طه حسين وتوفيق الحكيم وأم كلثوم إلى صناعة حالة ابتذال كجزء من استهلاك وتركيبة رأسمالية. ومن دولة تقود العالم العربي وإفريقيا إلى دولة وصلت إلى أن تكون نتيجتها صفر عام 2004 عندما قدمت على استضافة وتنظيم كأس العالم للعام 2010، فلم يصوّت لها أحد في افريقيا. نرى اليوم انهيار يعتبر التطور الطبيعي لما يحدث، وبعد أن قدمت مصر مقاومة حقيقية في عدد من المعارك كثورة “انتفاضة العِيش” 1977 إلى انتفاضات بأشكال مختلفة، لكن استسلمت المقاومة خطوة خطوة، إلى عصر 30 سنة من حكم محمد حسني مبارك تجمدت فيه مصر بشكلٍ كامل وصار فيها جمود سياسي، أدى لثورة عظيمة.

إذن الثورة كانت لمنع الانهيار وقتها أو تأخيره؟

 كان منبع الثورة الرغبة في التغيير، فهي تأسست على مطالب عيش وحرية وعدالة اجتماعية، وكان الإدراك أن الهدف الرئيسي منها هو الاستقلال السياسي، وهذا كان ضمن نقاش المجموعات السياسية وقتها، بدون استقلال القرار المصري عن التبعية للغرب وأميركا فمصر سيبقى حكمها تابع، وقرارها الاقتصادي أيضًا تابع لما يريده الأسياد في واشنطن وأوروبا، ومعناه أي حكم غير قادر على توفير الحياة الكريمة للناس، فلا يوجد عيش ولا عدالة اجتماعية، وإذا فقد العيش والعدالة، ستصرخ الناس، ويتم قمعها فلا يكون هناك حرية وبالتالي للوصول للعيش والعدالة الاجتماعية والحرية ،  فلابد من استقلال القرار السياسي.

 ونواة الثورة كانت في المظاهرات التي تجمّعت وتشكّلت وقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية والحرب على العراق حتى وصل الأمر أن أصبح هناك إدراك لحجم الضعف الذي وصلت له مصر وأنه لا بد من إعادة بناء دور مصري وتغيير من واقع المنطقة، لتحرير فلسطين، فالإدراك كان مقدمة هذه الثورة، ولكن الخلل كان في تحديد من هو العدو؟ وكيفية مواجهته، فهي ثورة ضخمة وبالتالي كان فيها رؤى مختلفة، فهناك من يريد الحرية فقط بسقف محدود بمعنى الحرية الشخصية، وجزء آخر أراد الحرية والتحرر، وآخرين كانت رؤيتهم ملتبسة وفشلت الثورة كي نصل الى اللحظة الحالية.

هل تعتقد ثورة يناير فشلت؟

انهزمت بلا شك، فتحت الباب بالتأكيد أمام الناس للتغيير، هناك جزء لا يمكن أن نتراجع عنه، وهي ثورة أجيال، وثورة الجيل الجديد على الجيل الكبير، الذي انهزم منذ عام 1967، وظل يجرّ الهزيمة 40 سنة، فهناك جيل جديد رافض الهزيمة ويتحداها، والثورة كانت جيل اليسار ضد اليسار القديم والإسلاميين ضد الإسلاميين، فقد كانت ثورة أجيال يُراهن عليها، ونجحت في فرض التغيير في لحظة ما، حين كان هذا الجيل الجديد هو المسيطر.

هل تقصد نجحت في دفع الأجيال للتغيير، ولكنها فشلت في تغيير سياسات الدولة؟

التغيير السياسي يأتي معه التغيير الاقتصادي والاجتماعي والطبقي، وإذا لم تتغير التركيبة الاجتماعية والسياسية والطبقية، فسيبقى الوضع ذاته، لكن ما حدث هو العكس، فقد ساء الوضع لأنه جاءت الثورة المضادة برغبة بالانتقام والتشويه، وجاءت بإدراك أمني سخيف حول كيف الثورة قامت وتحركت، فإذا كانت الثورة قامت عن طريق شباب فنعتقلهم ونقتلهم، أما إذا كان التيار الإسلامي طرف فيها ننسفه، وإن كانت الناس تناقش السياسة في المقاهي بوسط البلد والمكتبات الثقافية، فأغلقوها كلها، والناس حين تبادلت الآراء في موقع فيسبوك أصبح هناك مراقبة أمنيه كاملة عليه، ومن يضع “لايك” ندخله السجن باعتباره إرهابي.  ولا ننسى أنّ فلسطين محرك رئيسي للثورة، لذلك عملوا على تشويه فلسطين ورموزها، واعتبارها عدوًا واخترعوا القصص حولها، مثل اقتحام حماس للحدود، وذلك كي يجرحوا الكرامة المصرية في العلاقة بفلسطين، ثم بناء تحالف مع إسرائيل برعاية غربية وباعتبارها الحامي من مد الحرية الفلسطيني.

وكان ذلك يتم تحت حجة محاربة الإرهاب والجماعات الجهادية؟

ليس بالضرورة، فلم تكن حماس فقط هي المستهدفة، لأنه حتى السلطة الوطنية الفاشلة والخائنة برأيي في رام الله، كانت غير مقبولة بمصر الرسمية ولا تزال غير مقبولة وكانت مصر تحاول استبدالها بمحمد دحلان. والسلطة الأخيرة في مصر منذ استلامها الحكم مدركة وتعمل على كون الفلسطيني عدو رئيسي لتحالفاتها الإقليمية المبنية على الإمارات وإسرائيل، والفلسطيني عدو رئيسي لأنه يعني الحرية والكرامة والمقاومة، وهذا يجب أن ينكسر في مصر.

تقصد أنه ازداد العداء نحو الفلسطيني بعد 2013؟

هذا التطور الطبيعي، وقد بدأ مع كامب ديفيد عام 1978، ووصلنا اليوم أن تحاصر غزة وقت الحرب ويستثمر في تجويعها واخضاعها ويضر أهلها لدفع رشاوي للخروج باتجاه مصر وحتى المصابين منهم، وهذا محصلة تعاون سياسي وأمني وعسكري مع إسرائيل ويستكمل بالتحريض العلني على مقاومة الشعب الفلسطيني، وقمع الفلسطينيين في مصر وسرقتهم وابتزازهم في كل تفاصيل حياتهم.

 

BDS مصر

 

وماذا عن ذكرياتك مع تأسيس “بي دي أس”BDS في مصر؟

حين أسسنا الـ BDS في مصر، أصبحت سريعًا أكبر تحالف لدعم فلسطين في مصر، وكان ذلك عام 2014، ولم يكن حينها تستطيع الأحزاب في الأجواء الأمنية حتى على ان تجتمع، بينما “بي دي أس” ضمت حوالي عشر أحزابٍ سياسية إضافة إلى المجموعات الثورية وكثير من منظمات المجتمع المدني، وآلاف من المصريين، وقد كانت الإطار السياسي التنسيقي الوحيد ما بين قوى المعارضة، في جمهورية مصر العربية.

وقررنا وقتها أن نقوم بتنظيم برنامج تدريب لأي عضو يريد أن يكون معنا وإلا لن يستطيع الانضمام لنا. وحين يسألني أحدهم لماذا التدريب وقد ينسحب أحدهم من الحركة بعد فترة، فكنت أرد على الأقل سيظل حاملًا هذه الأفكار، وهي التي نعلمها في التدريب على مدار أسبوع، ففي اليوم الأول يتمحور حول مائة عام من الاستعمار الغربي في المنطقة العربية، وذلك لفهم السياق العام، واليوم الثاني الحركة الصهيونية وما تركيبتها وطريقة تفكيرها، واليوم الثالث حول المقاومة الفلسطينية ومواجهتها الاحتلال، وهناك جيل كامل من المصريين لا يدرك أنّ المقاومة الفلسطينية بدأت منذ عشرينات القرن الماضي. أما اليوم الرابع يتركز على مصر وعلاقتها بالصراع والتبعية، واليوم الخامس عن ماهية الـ”بي دي أس”، وفي اليومين الأخيرين ورشة عمل تدريبية حول تنظيم المجتمع لإدارة الحملات، وتنتهي الورشة بأن يكتب كل مشارك ومشاركة مشروع يخدم الفكر السياسي والتنظيم المجتمعي لمشروع مقاطعة لإسرائيل. وهذا الكادر الذي تربى في بي دي اس إلى اليوم نشيط وجزء رئيسي منه يعتصم اليوم أمام نقابة الصحافيين والمنظمات الدولية، كما ينشط بأساليب مختلفة بما فيها المقاطعة.

وهل هذا الكادر سبب نجاح المقاطعة في مصر؟

ليس فقط هذا السبب، فمصر حاربت إسرائيل سنين طويلة، ولا توجد عائلة في مصر إلا وكان فيها شهيد من إحدى معارك أعوام 1948 و1956 و1967 و1973. رسوخ العداء في مصر لإسرائيل كان من منطلق ديني ووطني، وكل محاولات التطبيع أثرت على نسبة قليلة من المجتمع من أصحاب المال والمستفيدين من ذلك فقط، والمشكلة أن هذا العداء الطبيعي تجاه إسرائيل والتعاطف مع فلسطين، بدون وعي كاف، فستجدي الخطاب الشعبي نفسه منذ الستينات ولا يتابعون التغيرات التي تحدث في فلسطين أو تغير الأدوات في المقاومة، والحقيقة أن هذا كان بالنسبة لي خطر، لأن نقص الوعي يجعل من السهل التأثير على الناس، واستمالة مشاعرهم.

 فقد رأيت مثلًا في الثمانينات حين كان وزير الزراعة يوسف والي يُرسل المهندسين الزراعيين للتدرب في إسرائيل، كنت أرى من المهندسين الذين كان لديهم عداء لإسرائيل، يعودوا لمصر بانبهار بالتكنولوجيا والنظافة، والملابس، فقد أثر عليهم ذلك وهزهم لأن العداء الطبيعي ليس مبنيًا على وعي. وكنت دائما أسخر منهم وأقول من قال إنّ عداءنا لإسرائيل لأنهم يلبسون القبيح أو لأنهم يبنون عماراتٍ خاطئة، أو بسبب إلقاء القاذورات بالشارع، فالعداء لإسرائيل ليس له علاقة بكلّ ذلك. مرة ثانية أكرر العاطفة ليست كافية وأن التضامن مع فلسطين لا يجب أن يكون بسبب كونها ضحية فقط، وهذا ما أقوله للفرنسيين مثلا، لأنه يجب الوعي بخطر المشروع الصهيوني، والتضامن مع فلسطين يجب أن يكون أيضا على ارضيه كونها مقاومة وليست فقط ضحية.

نعود إلى سبب ملاحقة النظام في مصر للـ “بي دي أس” على أراضيها. لماذا كان كل ذلك العداء؟

لأننا نقاطع إسرائيل و نبني كادر، فنحن نبني ونؤسس لعداوة الحليف الرئيسي للنظام، كما أننا نبني أداة للتنسيق المجتمعي المصري بعد ما قضى النظام على تركيبات الثورة. وبما أن “بي دي أس” مصر كان جزءًا من دورها الدعوة إلى مقاطعة الشركات الإسرائيلية وهي محدودة فلا يوجد كثير من المنتجات الإسرائيلية في مصر، لكن المهمة الأكبر كانت مقاطعة الشركات الدولية المتواطئة مع الاحتلال، وعددها كبير في مصر. ثم يأتي الدور الأهم وهو اكتشاف أشياء ذات طابع محلي مرتبطة بإسرائيل مثل عقد الغاز، وعقود أخرى مشابهة، لنكتشف أنه في كل مرة بحثنا خلف العقود الكبيرة والتي تربط مصر بإسرائيل، يكون الشريك المصري من ضباط الجيش والمخابرات، فهذه ليست فقط خيانة، بل فساد وترسيخ للفساد داخل مصر وداخل مؤسسات الدولة، وكان فضحه ليس فقط لعلاقته مع إسرائيل، بل أيضًا لتسرب الفساد داخل المؤسسات السيادية، ودائمًا أقول إنه هناك رابط يجمع كل المطبعين مع إسرائيل، فهم قامعين وحرامية، “باكج مع بعض”.

 

أورجانس فلسطين
 

والآن في فرنسا بعد عامين من استقرارك أنت أسست خلال هذه الحرب حراك “أورجانس فلسطين” فما هو باختصار؟

هو تحالف سياسي فرنسي، بدأ منذ السابع من أكتوبر، ولأول مرة في تاريخ فرنسا الحديث، حراك من أجل فلسطين، وقلبه فلسطيني وليس فرنسيًا، وهذا التحدي الرئيسي في فرنسا. منذ وفاة ياسر عرفات لا توجد قيادة فلسطينية ولذلك تتجرأ أحيانًا المؤسسات البيضاء أن تأخذ القرار عن الشعب الفلسطيني، كما أنّ معظم المؤسسات الفرنسية المساندة لفلسطين ليس فيها فلسطينيين. فكان بناء حركة “أورجانس”، وبدأ تشكيلها قبل سنة فعليًا، بهدف توحيد الرؤية والمطلب الفلسطيني والاشتباك مع الوضع السياسي في فلسطين وتتبنى نهج المقاومة، والأهم أن نبني فوق هذا التكتل الفلسطيني تحالف فرنسي وتضامن مبني على المركزية الفلسطينية.

وهل يمكن كحراك التدخل في القرار الفرنسي الذي يخص فلسطين؟

ممكن التأثير على فرنسا على الأقل المتضامنة مع فلسطين، فيكون تضامنها على أساس احتياجات وأهداف الشعب الفلسطيني، وحراك “أورجانس” يُدير معظم المظاهرات في فرنسا، ويكبر خارج باريس، وليس فقط في داخلها، وقد أصبح لدينا عشرون فرعًا في مختلف المدن منها تولوز، ومرسيليا وليون. وكان التركيز في البداية على أن يكبر العدد، بينما الآن نركّز على التنظيم والبناء داخل الحراك، وهناك كثير من الفرنسيين معنا في مدنٍ كثيرة، لكن القرار مركزي فلسطيني، وبدأنا في كتابة بياننا السياسي التأسيسي وسيعتمد قريبا من برلمان الحركة.

والفكرة وضع رؤانا وأفكارنا وروايتنا كفلسطينيين في قلب التضامن مع فلسطين، وبدأ يأتينا اهتمام سياسي من الأحزاب الفرنسية وبالذات اليسار، وهناك محاولات لاستقطابنا. وأذكر منذ فترة قمنا بندوة عن فلسطين في واحدة من المدن الفرنسية، جاء لحضورها أكثر من ألف وسبعمائة شخص، وكان هناك استغراب من المسؤولين في المدينة من قدرتنا على الحشد، وأذكر وقتها قال رئيس البلدية إنه منذ سنوات لم يدخل هذا العدد الى القاعات التابعة للبلدية، لكن أيضاً هناك هجمة عنيفة علينا من البرلمان والدولة والصهاينة، ودائمًا أردد متل ما كنت أقول في أيام السجن وقبل السجن بمصر، إنه لما أقعد شهور من غير شتيمة وهجوم من الإعلام المصري أشعر بالقلق، فدائمًا تنشتم من العدو يعني بتنجز وتؤثر. 

 

أختلف مع والدي لكن طبعا لا أخوّنه
 

ألا تشعر على الدوام وجود مقارنات في أذهان الناس بين مسيرتك ومسيرة والدك د. نبيل شعث والتناقضات بينهما؟

لا أشعر هناك تناقض، فلا يجب أن يكبر الابن على توجهات أهله الفكرية والسياسية.  يجب على الناس إدراك اختلاف الزمن والتركيبة السياسية والفكرية، ولا أنكر أنّ هناك خونة في السلطة الوطنية الفلسطينية، لكني لست مع تخوين كل خط أوسلو. على سبيل المثال حين حدثت اتفاقية أوسلو عام 1993 اختلفت مع الوالد، كما اختلفت مع كل القيادة، واستمر الاختلاف بعد ذلك حول أداء السلطة لكن طبعا لا أخوّنه، ولا أخوّن هذا الخط السياسي، الخونة من أضعفوا مقاومتنا، وسلموا الناشطين ونسقوا أمنيًا وسرقوا أموال الشعب وللأسف فهم كثر اليوم في مؤسسة السلطة، وبالطبع كنت من الناس التي جن جنونها حين تم توقيع أوسلو.

هل دخلت في جدال مع والدك؟

ليس فقط والدي، بل دخلت في نقاش مع أبو عمار، وكنت وقتها شاب وناشط ومعروف في التركيبة السياسية، وأتذكر وقتها أن تبرير ذلك في النقاشات الحاصلة، كان يذهب في اتجاهين؛ الأول أن انهيار الاتحاد السوفيتي وحرب العراق التي أدت لانهيار العراق و الكويت، وانهار معهما التوازن الدولي والاقليمي، فأمريكا فرضت هيمنتها على المنطقة باحتلال العراق بحجة أنّ صدام هاجم الكويت وفرضوا بالسلاح كونهم “السوبر باور” بالمنطقة، و مع اختلال الموازين حدث استهداف كبير بين عامي 1991 و1993 عربي وعالمي للفلسطينيين والناشطين في القضية، فتم اعتقال كوادرنا من كل مكان بالعالم في محاولة لإنهاء وجودنا السياسي و المقاوم.

وكان يوجد رغبة أمريكية في تدمير منظمة التحرير وتماهي عربي مع تلك الرغبة، فالاتهام الباطل لمنظمة التحرير بدعم صدام حسين، هدفه التخلص من الاثنين بضربةٍ واحدة صدام والمنظمة معًا، وعلى الرغم من أنّ موقف منظمة التحرير من صدام حسين كان متوازن ويطالب بالانسحاب من الكويت وفي الوقت نفسه رافض للتدخل الأميركي، إلا أن محاولات تشويهه كانت جزء من استراتيجية أوسع. وفي المقابل موقف الملك حسين وقتها كان أقرب إلى صدام من منظمة التحرير لكن الملك حسين لم يحاسبه أحد كما فعلوا مع منظمة التحرير والفلسطينيين، وأصبح هناك وضع صعب تواجهه فلسطين في القدرة على استمرار مقاومتها، خاصة أنّ القيادة الفلسطينية جميعها كانت خارج فلسطين وقتها، وترحل من بلد إلى بلد بعد ترك لبنان. 

بالطبع لا أزال مؤمن بمنظمة التحرير ودورها، واعتبرها إطار وطني ورافض لشخوصها، ولتركيبتها الحالية، وللضعف الذي اوصلها له أبو مازن، فهؤلاء احتلال جاء إلى الوطن بعد اغتيال أبو عمار في 2004، فقد احتل العدو الضفة الغربية بعد الحصار والاغتيال، وأتوا بمحمود عباس ومعه دحلان تحت إدارة إسرائيلية أميركية على رأسها المندوب الأمريكي دايتون ، بهدف خلق سلطة فلسطينية جديدة تلتزم بالتنسيق الأمني وتقمع الحراك الفلسطيني. 

ويجب أن يعرف الناس أنّ السلطة الحالية تم احتلالها بالقوة العسكرية، وهذا ليس التطور الطبيعي لمنظمة التحرير، والتي بالطبع كان لها أخطاء، ولكن كانت ضمن الإطار الوطني، حتى وفاة ياسر عرفات (بما له و ما عليه) وبعدها انتهى العهد الوطني للمؤسسة الرسمية الفلسطينية، وأصبحت مؤسسة محتلة تتبع الاحتلال الإسرائيلي وليست مؤسسة وطنية، كما لا تعبّر عن الشعب الفلسطيني، ومن المهم الانتباه إلى هذا الفارق.

وهل هذا يعني أن ياسر عرفات بريء من هذه الشخوص؟ ألم تأتِ معه في اتفاق أوسلو؟

لا شك أنّ أبو عمار أخطـأ بالكثير من الأشياء، وأذكر تشاجرت معه لهذا السبب، وتركته عام 1998، لكن لا أخوّنه ولم أخوّنه وقتها، أعرف أبو عمار من الداخل، ومتأكد من بوصلته الوطنية، وأعرف تمسكه بثوابت فلسطينية وأعرف محاولته إعادة إحياء الكفاح المسلح بعد عام 2000 لمواجهة رفض العدو حل الدولتين. لكن بعد عام 2003  فالمؤسسة غدت تتحرك في إطار المسموح لها وتقمع الشعب الفلسطيني، وتضعف تحالفاته الدولية، وترسخ تبعية اقتصاده لاقتصاد العدو، وفقدت العلاقة بشكل كامل بـ ٩ مليون فلسطيني من اللاجئين في الخارج ودعمت التطبيع العربي الذي يأكل حقوقنا ويضعف موقفنا ودعمت الانقسام ولعبت عليه، ونسقت أمنيًا مع الاحتلال ضد حقوق شعبنا، وضربت المقاومة الفلسطينية بل ضربت العمل الشعبي الفلسطيني حتى أنها تعادي “البي دي أس” ومؤسسات الفكر والتراث الثقافي الفلسطيني التي كانت تحافظ على الهوية، والحقيقة أن ما عملته السلطة ومنظمة التحرير منذ 2004 بقيادة أبو مازن وجماعته من أمثال ماجد فرج ودحلان وحسين الشيخ هو احتلال للمؤسسة، لقد تعاملوا مع الشعب الفلسطيني بمنطق كونهم احتلال إسرائيلي.

والآن يتحقق ذلك بسكوت محمود عباس عمّا يحدث بغزة من إبادة؟

طبعا إنه يلعب الدور المطلوب منه، سواء في 2014 أو الحروب التي تلت ذلك العام. وقد قضيت كل الحروب بغزة، حتى لو أنني لا أعيش هناك، ففي أي حرب تبدأ، أكون في غزة في اليوم الثاني، ما عدا هذه الحرب، والحرب في عام 2021 كنت بالسجن بمصر. فهذه ثاني حرب لا أكون موجودًا فيها على الأرض بغزة، وهذا أوجعني كثيرًا.

وأذكر حين بدأت الحرب في 2014، خرجنا قافلة فيها أكثر من 600 ناشط من مصر، واتجهنا إلى غزة، وطبعا كان السيسي تسلم الحكم، وصدرت أوامر بمحاصرتنا بالدبابات، وصارت معارك بيننا وبين الجيش، ولم نستطع أن نمر إلى غزة، وبقينا في شجار لمدة 10 ساعات بالصحراء، والركض والاعتقال إلى أن عدنا، وأنا خرجت في اليوم التالي من مصر إلى عمان ومن عمان إلى رام الله ومن هناك دخلت غزة، فلا أستطيع ان أكون خارج غزة وقت الحرب.

وكنت وحدي، وكان هناك قلق من بعض الأصدقاء من موقف حماس مني، وقد كنت أرد عليهم، صحيح ما عندي علاقات بحماس، لكن ما عندي علاقات سيئة أيضًا، وبقيت بعد الحرب، وأذكر أن بعض المنتمين لجهاز شرطة حماس التقطوا صورًا معي في الشارع. وحين كنت في رام الله وقتها أستعد للذهاب إلى غزة، كان أبو مازن يجتمع مع اللجنة المركزية واللجنة التنفيذية ورئاسة الوزراء، وجاءت خطبته كاملة حول كون ضرب إسرائيل لحماس فرصة للسلطة للعودة إلى قطاع غزة، هذا الخطاب وهذه النوايا خيانة فالقدوم على دبابة إسرائيلية على دم شعبنا تماهي مع المحتل.

 

غلطة أبو عمار
 

هل حضرت جنازة أبو عمار؟

حضرت جنازة أبو عمار حين مرّت بمصر، وخرجنا بالجثمان إلى رام الله، ولم أكن بطائرة الهليكوبتر، ولكن لحقتها، وقد كنت في الهليكوبتر حين خرج إلى الأردن للعلاج، وكانت علاقتي حميمة مع أبو عمار، فأنا دائما الشخص الذي يؤدي له المهام والأدوار التي لا يريدها أن تكون ظاهرة. وأذكر في مشاجراتي معه أنني كنت أشير له إلى فلان وأقول “هذا جاسوس إسرائيلي وهذا جاسوس الأردنيين وذلك جاسوس المصريين”، وأسأله لماذا تبقيهم بالمؤسسة؟ وكانت نظريته “خلي عدوك قريب منك بدل ما يكون بعيد”، وحذرته أنّ عدوك في لحظة ما سيأكلك، ويصبح هو المؤسسة وطبعًا أبو عمار كان قادرًا على أن يحافظ على التوازن، ولكن حين قُتل لم يستطع أحد ذلك، وللأسف أصبحوا هؤلاء المؤسسة فيما بعد.

يعني الغلطة ذاتها التي ارتكبها بعده بسنوات الرئيس المصري الراحل محمد مرسي حين وضع أعداءه قربه، لكن الفارق أنه لم يكن يعرف أنهم أعداؤه؟

مرسي كان كما الإخوان خفيفون وضعيفون في الخبرة السياسيًة ، لكن أبو عمار ليس كذلك بل كان مدرك للقضية الفلسطينية، وصعوبتها، وأنّ عليه دوما الحذر، وكان يحب إدارة المناطق الرمادية فكان كل الناس حوله رمادي، ولا يوجد أبيض وأسود وهو بالفعل قادر على قيادة المناطق الرمادية واستخدامها لصالحه، ومثال على ذلك أن سلطته أجبرت ألّا يقوم بتمويل أي شيء خارج فلسطين، فقد كان هناك رقابة على التمويل من صندوق النقد والأمريكان، وبالتالي فتح أبو عمار باب الفساد المؤسسي كي يموّل المخيمات في لبنان أو سوريا أو يأتي بسلاح ويموّل المكاتب الرسمية في الخارج، وبالتالي كان مضطرًا بالسماح بمناطق رمادي حتى يستطيع الاستمرار في النضال الفلسطيني.

خطأ أم ذكاء؟

من جهة ذكاء للهروب من التضييق عليه، وخطأ لأنه لم يستطع أن يضع الفساد في حجمه وضمن إطار مسيطر عليه، مما سمح لكل المؤسسة أن تتحول لهذا الفساد بعد مقتله، وفي عام 1998 حين تشاجرنا، كان هذا سبب رئيسي خلافنا، وبعثت له رسالة، وتوقعت بالرسالة أنه خلال سنتين ستبدأ حرب مع إسرائيل، وسيسفح الدم الفلسطيني، ونحن لسنا جاهزين. وفي عام 2000 بدأ يدرك ذلك، ولكن كان الأوان تأخر.

وأتذكر أنه كنا نحن الشباب الاكثر ثورية اتفقنا مع أبو عمار أنّ لاتفاقية أوسلو هدفين؛ أولًا نرجع أكبر قدر من الفلسطينيين إلى فلسطين، وفعلا نجحنا ورجعنا ثلاثة أرباع مليون إلى مليون فلسطيني، والثاني أن نرجع القيادات والقوات إلى الداخل وبالتالي لما نستعد للمعركة القادمة نكون على الأرض في المواجهة، ولسنا بعيدين في تونس والجزائر واليمن. الهدف الأول تحقق، والثاني لم يتحقق، وغرق الكثير من أعضاء السلطة في الانبهار بـ “الأرمادا” الإسرائيلية وبالفساد، وأنا لم أكن قادر على التحمل، خاصة حين أرى الـ “vip” من رجالات السلطة الوطنية وعائلاتهم يذهبون إلى إسرائيل للتسوق، وصارت الأخيرة هي متحكمة في تكوين النخب سياسيًا واقتصاديًا في فلسطين عن طريق التحكم في رخص الاستيراد و التصدير أو عن طريق من يسمح له بالحركة و السفر إلى درجة صارت مؤسسة فساد سياسي، وليس فقط فساد مالي.

وهل لذلك عرفات موّل الانتفاضة الثانية؟

صحيح، فقد أدرك تلاعب إسرائيل وأمريكا بحل الدولتين، وخصوصًا بعد مرور الأعوام الخمسة للمرحلة الانتقالية إذ بات مدركا لضرورة مقاومة مشروعهم وما أصبحناه على الأرض، وهذا شيء كنت مطلعًا عليه، وأعرف تفاصيله، وكل سلاح التنظيمات كان من ياسر عرفات وبتعليمات منه، حتى استيراد السلاح من الإيرانيين كان بقرار منه، كما قلت لك، لم أشك في بوصلته الوطنية، لكنه للأسف تحرك متأخر جدا كي يضع حدًا للفساد، وأن يعيد بناء العمل المقاوم وحين فعل ذلك حكموا عليه بالإعدام.

في هذه المراحل كيف كانت علاقتك بوالدك؟

علاقتي به كانت جيدة دائما ، وطوال عمري أقدره وأحبه، ونتخانق سياسيًا دائمًا، لكن جدًا أقدّره، وأدرك سياسيًا وفكريًا أن رؤيته الوطنية إصلاحية، ولَومي الرئيسي له على مرحلة ما بعد عرفات، وهذه سببت خلافًا ضخمًا بيننا، وما كنت أتخيل أنه سيستمر في هذه المؤسسة، لكن هذا لا يمنع أنني سأظل طوال عمري أحترمه وأقدره، ولا يزال محبوبًا شعبيا و نظيف اليد ، وأنا أدرك الأخطاء التي ارتكبها في الحكم على الأمور، والتي جاءت من منطلق وطني وإصلاحي للمرحلة، معتقدًا أنه يستطيع التغيير من داخل المؤسسة كما فعل في عهد عرفات ولم يدرك التغيير العميق الذي حدث في المؤسسة. 

وأعيب على كل جيله ما ورثناه من هذه المؤسسة، وأتذكر أنه في شبابه، كان يتشاجر على حق الجيل التالي في استلام القيادة، وأن الجيل الكبير يجب أن يعطي الجيل الشاب القيادة، وكانوا وقتها يسخرون من هذا وذاك من القادة كبار السن، لكنهم حين تقدموا بالسن ارتكبوا الأخطاء نفسها.

لكن الآن أنت وصلت إلى الخمسينات ألا تشعر أنك تفهمه أكثر؟

أكيد وهذا العمر الذي تنضج به سياسيًا وفكريًا، ويصبح عندك تراكم، لكن بعد الستين والخمسة والستين تحديدًا تتراجع القدرات، لذلك كل حكام العالم الناجحين ما بين ٤٠و ٦٠ عامًا، لكن ليس بعد الستينات فهنا يأتي سن التقاعد. وتخيلي مؤسسة ما تسمى بالسلطة الفلسطينية وتمثل شعبًا فلسطينيًا يناضل من أجل مشروع تحرر وطني، وأكثر من نصف سكانه من جيل الشباب، يحكمهم قادة فوق عمر الـ 85 عامًا. 

The post رامي شعث: “أورجانس فلسطين” تثبّت روايتنا ضمن حركات التضامن العالمي (١/٢) appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
ريما حسن والغيرة من المأساة https://rommanmag.com/archives/21572 Mon, 10 Jun 2024 08:05:55 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b1%d9%8a%d9%85%d8%a7-%d8%ad%d8%b3%d9%86-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%8a%d8%b1%d8%a9-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%a3%d8%b3%d8%a7%d8%a9/ لم أستطع أن أمنع نفسي من التعليق على إحدى الناشطات الفرنسيات من أصول عربية حين رأيتها تحتفي بالمختطفين الإسرائيليين الأربعة، وكتبت لها يبدو أنك نسيت أنّ هناك 210 مدنيين قتلوا في سبيل تحرير الأربعة، لم تنظري إليهم حتى. وكانت عملية تحرير المختطفين وقعت قبل أيام قليلة في وضح النهار، في مخيم النصيرات بالمحافظة الوسطى بقطاع […]

The post ريما حسن والغيرة من المأساة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

لم أستطع أن أمنع نفسي من التعليق على إحدى الناشطات الفرنسيات من أصول عربية حين رأيتها تحتفي بالمختطفين الإسرائيليين الأربعة، وكتبت لها يبدو أنك نسيت أنّ هناك 210 مدنيين قتلوا في سبيل تحرير الأربعة، لم تنظري إليهم حتى.

وكانت عملية تحرير المختطفين وقعت قبل أيام قليلة في وضح النهار، في مخيم النصيرات بالمحافظة الوسطى بقطاع غزة حيث القصف والقتل مستمر منذ السابع من أكتوبر/تشرين أول الماضي.

والصدفة أنني قبلها بدقائق كنت أقرأ هجومًا لاذعًا على المحامية الفرنسية ذات الأصول العربية ريما حسن، ليس لأنها تحتفي بعملية المختطفين، بل لكونها تدعم فلسطين بكل قوتها في الوقت الذي لم تفعل ذلك بشكلٍ كافٍ وقت الثورة السورية، أو ربما لأنها يجب أن تفعل ذلك الآن بأثر رجعي بما أنها كانت وقتها طالبة جامعية ولم تكن بالشهرة التي هي عليها الآن، فهي الآن منتخَبة برلمانية أوروبية عن الحزب اليساري “فرنسا الأبية” الذي يتزعمه جان لوك ميلنشون.

وفكرت ماذا لو كانت ريما حسن، منسجمة مع اليمين الفرنسي؟ واعتبرت أننا في غزة نستحق الإبادة، كهذه الناشطة التي استفزتني في منشورها على موقع “فيسبوك”، وككثير من الناشطين ذوي الأصول العربية في فرنسا الذين يكتبون وينشرون عن ذلك بكل وضوح، وهو الأمر الذي فاجأني صراحة، كساذجة تعتقد أن كل من له أصل عربي بالضرورة يدعمنا، ونسيت أنّ هناك من لديه عُقد عميقة تجاه تلك الأصول، يشفونها بدعم إسرائيل، بل بعضهم يعتبر أن الستة وثلاثين ألف شهيد وشهيدة في قطاع غزة، الثمن المستحق كي تتخلص إسرائيل من أعدائها، وكتب بعضهم معايرًا ” كي تنتخبوا حماس”.

هل لو كانت ريما حسن كذلك، ستكون لحظتها مواقفها منسجمة، معًا، فهي لم تدعم الضحية السورية، وبالتالي يجب ألا تدعم الضحية الفلسطينية أو أي ضحية في العالم، لا أعتقد أنه يمكن أن تحسب الأمور بالطريقة هذه، وإلا لطلبنا من الشعب المصري أن يتعاطف مع مذبحة رابعة قبل أن يتعاطف معنا، وهذا بالتأكيد لم يحدث، فكثيرون لا يرون بالأساس ما حدث مذبحة ومع ذلك هم من أشرس الشعوب مقاطعة للمنتجات الإسرائيلية والأمريكية.

من المعيب مقارنة المذابح، لنرى من يستحق التعاطف أكثر، أو من ضحاياه أكثر، فنرى في الإبادة التي يتعرض لها أهل قطاع غزة كأنها منافسة، فأرى معلقين من الجزائر يقولون شهداؤنا أكثر فقد بلغوا المليون، وآخرون من السودان يكتبون لقد ظلمنا الإعلام بسبب غزة، وكذلك من أوكرانيا حين يأتي أحدهم يقول لا أحد يهتم الآن لجرائم بوتين هناك، ومؤخرًا نعيب على ريما حسن مواقفها، لأنها دعمت ضحية أكثر من أخرى، إن هذا عار بحد ذاته، كما هو عار إنْ كان الإعلام العالمي والعربي وخاصة المؤدلج منه لم ينتبه لبقية الضحايا كما ينبغي، فجميعها قضايا مطلبية وحقوقية لا يجب غفلها.

ثم من قال إنه يجب على الناشط السياسي أنْ يكون مثاليًا، كثيرون من اليسار الفرنسي لم يقفوا مع الثورة السورية أو تأخروا في إعلان دعمهم لها ولم نرفع لهم المقاصل، لماذا ريما حسن الآن؟ هل لأنه بالأساس هناك غيرة من مأساة وإبادة أخرى تحدث أمام عيون العالم، فنبدأ نقارن من يا ترى إبادته تستحق أكثر؟

ومع كل هذا ريما لم تعلن أبدًا كونها مع النظام الأسدي أو أنها ضد الثورة، بل تحدثت بانتقادات علنية وواضحة، يناقشها المعارضون السوريون أنفسهم بشكل أكثر فجاجة، وهذا لا يعني أنّ ريما لم ترتكب خطًأ في زيارتها لسوريا في مثل هذا الوقت الحساس، ونشرت صور شخصية سياحية وكأنها تقول البلد جميل وآمن، ونسيت بالفعل أنها قد تخطو على عشرات المقابر الجماعية، التي لا تختلف عن مقابر مشابهة حدثت في ساحة مستشفى الشفاء بغزة أو خانيونس خلال هذه الإبادة المستمرة، وكان يجب عليها في الوقت الذي تذهب فيه لزيارة مسقط رأسها أن تفكر في الملايين الذين لا يستطيعون أن يفعلوا مثلها، وأن لا تستند على موقف حزبها اليساري الغامض تجاه الثورة السورية وحبه السري للنظام الأسدي.

فلا يجوز التطبيع مع مأساة، في وقت نحارب به أخرى، وننادي بأعلى صوت أنْ تتوقف، ولأن كل المواقف هذه مركبة وغير منفصلة، لا يجب أيضًا أن نستخدم ذلك بشكل سيء ضد ريما وننسى معركتها، بل معركة الحق وفلسطين والضحايا واللاجئين في فرنسا مع اليمين المتطرف الذي يكره ريما حسن ويلاحقها ويهددها، وسحبها إلى القضاء.

كنت أتمنى سماع نفس الأصوات الحادة في النقد حين خرجت المعارضة السورية المقيمة في ألمانيا روان عثمان مع أفخاي أدرعي وفي ضيافة إسرائيل كونها تجاوزت تاريخ علّموها إياه، مليء بكراهية إسرائيل (بحسب تصريحات لها).

هذا لا يعني بالتأكيد أنّ المعارضين السوريين مثلها، لكن لماذا لم تتم مهاجمة هذه المعارضة ومن فعلوا مثلها ممن يحبون الاحتلال، ربما لأنّ داعم الاحتلال هو عدو كلاسيكي سهل مهاجمته كما تكثر أيضًا، بينما دعم ضحايا فلسطين والسكوت عن ضحايا آخرين من الأشياء غير الكلاسيكية والتي تنكأ جروح الإبادة المفتوحة كلها، وتبدأ المقارنات؛ “ألمنا أكبر، مأساتنا أكبر”، فالعدو في سوريا ليس بوضوح الاحتلال ما يجعل المأساة مضاعفة وألمها عميقًا، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن أن توجد جروح كبيرة أخرى غير قابلة للتقطيب.

ريما حسن تصوت للانتخابات الأوروبية

غدوت أنا الأخرى أقارن بين الجروح، على الرغم أننا حين خرجنا نهتف في غزة للثورة السورية لم يهمنا ذلك، كما لم يهمنا أمن حكومة حماس الذي يراقبنا، أو نشطاء الجبهة الشعبية؛ يسار آخر يحب الأسد، الذين جاؤوا ليهتفوا عكسنا ويشاكلونا في حديقة الجندي المجهول بحي الرمال الذي حوله الاحتلال الآن إلى رمال فعلًا.

ولا يمكن أنْ أنسى أنه في غزة هذه التي تباد الآن، غردنا جميعنا منها في 2011، على وسم 15 مارس حين خرجنا نحن والسوريون في التاريخ ذاته، نهتف نريد إسقاط الانقسام وهم يريدون إسقاط النظام، وكنا نشجعهم ويشجعوننا، وكأننا نتصادف في الأزقة والميادين، وقد اعتقلنا أمن حماس وقتها بعد أن ضربنا بالعصي والسكاكين هذه المرة، فقد اكتفى قبلها بالعصي حين خرجنا في يناير في العام ذاته نهتف لثوار مصر.

لم نكن نهدأ، نشعر أنّ الساحات واحدة، وهذا ما نتطلع إليه اليوم في خضم إبادة قطاع غزة وسكانه، يجب عدم التردد، خوفًا من ألا نكون مخلصين كفاية لجروحنا الأخرى.

The post ريما حسن والغيرة من المأساة appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
أين الله من غزة؟ https://rommanmag.com/archives/21538 Fri, 10 May 2024 14:19:29 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%a3%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%87-%d9%85%d9%86-%d8%ba%d8%b2%d8%a9%d8%9f/ سمعتُ صوتًا غريبًا أمام الباب بعد منتصف الليل، مثل نعيق بومة لكنه أخفض وأقل تمييزًا، صوت غريب، فتحت باب منزلي ووجدت ظلامًا دامسًا وبرد، مشيت خطوة، شيء ما غزّني في قدمي الحافية بشدة، نظرت إلى أسفل وإذ بقنفذ ينظر إلي، كأن هناك حفرة وسط أشواكه، صرخت. إنها المرة الأولى التي يحدث هذا لي، نعم رأيت […]

The post أين الله من غزة؟ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
سمعتُ صوتًا غريبًا أمام الباب بعد منتصف الليل، مثل نعيق بومة لكنه أخفض وأقل تمييزًا، صوت غريب، فتحت باب منزلي ووجدت ظلامًا دامسًا وبرد، مشيت خطوة، شيء ما غزّني في قدمي الحافية بشدة، نظرت إلى أسفل وإذ بقنفذ ينظر إلي، كأن هناك حفرة وسط أشواكه، صرخت. إنها المرة الأولى التي يحدث هذا لي، نعم رأيت قنافذ كثيرة في منطقتي، لكن هذا القنفذ جاء إلى بابي وصرخ، نادني، وأنا أجلس خلف الباب مباشرة، كأنه قادمٌ لي، كنت أشاهد أخبار رفح، لكن صوته كان أعلى من الجزيرة. المرة الأولى التي أسمعه فيها.

نسيت وجع الأشواك في باطن قدمي، وتساءلت لماذا جاء القنفذ إلى بابي؟ ماذا أراد أن يخبرني؟ هل هو إشارة من الله؟ الإشارة التي أنتظرها منذ أن بدأت الحرب؟ هل سأفقد أحدًا؟ بابا، جدتي، عمتي المفضلة، عمي المسكين، صديقة الطفولة، يتوارد إلى رأسي جميع من عرفتهم في رفح، وطني الأول الذي يترافق مع وعي طفولتي.

لا يمكنني النوم، لقد تساءلت كثيرًا عن الله في هذه الحرب، لماذا لم ينقذنا؟، لماذا ترك 16 ألف طفل يُقتلون بأبشع الطرق؟ لماذا يتألم البقية من عشرات آلاف الجرحى والمصابين؟ كان يستطيع الله أنْ يخسف بإسرائيل، وأن يخدل الألم، وأن يجعل ثقل الحجار وطوابق البناء مثل قطن على أجسادنا؟ لماذا لا يتدخل الله؟

لماذا تحلل الشهداء وأصبحوا هياكل عظمية؟، لماذا لا تُشفى الجروح بسرعة؟ بل تتعفن وتخرج منها الديدان، ألسنا نحن في أرض فلسطين؟، أليس كل ما يحدث مقدّس وذكره القرآن؟، أليست هذه أرض الرباط وهم أحياء يرزقون؟

أعرف أنها ليست أسئلتي وحدي، بل حجم الفاجعة يطلقها تركض في أفكارك وقلبك، إنها أسئلة المؤمنين والملحدين، لقد زرت مدنًا عدة في الشهور الماضية، وسمعت أصدقاء يهمسون بها “وين الله عن الي بصير بغزة؟” لقد كانت على الدوام الإجابة راسخة داخلي إنه في القلوب، لولاه لما احتمل أحدٌ منا ذلك، لما صبر الناس على موت أبنائهم بأبشع الطرق.

الله وراء الصمود، الله المجرد من أي شيء ولون، الله الذي نحب، الله الذي نختاره نحن، ولا يفرضه علينا أحد، والذي يحمل أطفالنا إلى الجنة، ونساءنا إلى أنهار لا تنضب.

في واحدة من مسرحيات غسان كنفاني وهي ليست كثيرة، قال البطل إنّ الناس بحاجة إلى الله كي تصبح الدنيا قابلة للعيش، فما بالكم بالحرب، كيف ستكون قاسية لولا الله.

أنا لا أحاول الإجابة عن الأسئلة، غالبًا الإجابة عليها نسبيّة، لكني أعرف أن الله ليس ضد العلم وليس ضد العقل، بل إنّ ما يحدث يؤكد وجوده ولا ينفيه، بمعنى لا نحتاج إلى البحث عن الكرامات والمعجزات كرائحة مسك متهيئة لنا، هنا أو هناك كي نقول الله موجود، بل إن الله موجود دون ظهور علامات وإشارات، ولأن الله لا يمكن أن يحول الضعيف إلى قوي والرصاص إلى ريح والنار إلى ثلج لمجرد دعواتنا أن يحدث ذلك، لكنه موجود، وإلّا لماذا خلق الإيمان؟، إذا كان من السهل ظهوره.

لا أدري بعد لماذا جاءني هذا القنفذ؟ هل هو جائع؟ لقد غادر بسرعة، اختفى في لحظات، لكن علقت زيارته في رأسي، لقد جاء يخبرني بشيء سأعرفه قريبًا، أحيانًا تصلنا الرسائل بطرق أخرى، بالتأكيد أحدها الأحلام، لكني منذ الحرب لا أتذكر أحلامي، رغم أنها كانت كل شيء بالنسبة لي قبل السابع من أكتوبر، حتى الأمهات والآباء ليس أمامهم الآن سوى الأحلام، أسمعهم في مقاطع الفيديو يودعون أبناءهم وبناتهم الشهداء والشهيدات وهم يقولون “زورني في المنام يما”. فالأحلام رسائل الله أيضًا.

يشتدّ الدعاء في كل مكان، أسمعه عشرات المرات كل يوم، دعاء العالقين تحت الركام، دعاء من في الأنفاق، دعاء النازحين، دعاء أهل الخيام، دعاء الأطفال، دعاء من خرجوا من غزة غصبًا عنهم، ودعاء المغتربين، الجميع يدعون الله، فأين أنت يا الله؟

نعم نشعر باليأس، فالحرب لا تتوقف، لا شيء يوقفها، لا دعاء الملايين، ولا دعاء رمضان، ولا العشر الأواخر منه، ولا ليلة القدر، ولا ملايين المكلومين، لكن لا نزال نقول، يا رب.. بصوتٍ واحد، نؤمن بك ونعرف أنه اختبار الإيمان، فلو أنك سهل يا الله ما كنا ننتظر الموت كي نلقاك.

لم يعد أحد يكتب أين القصف في رفح، من شدة القصف وتتاليه، إنها انفجارات عنيفة في كل مكان، كأنني دخلت سحابة ضباب، لا يمكن أن أعرف من فقدت إلّا في الصباح كذلك الآلاف مثلي.

إنّ صبر الناس على هذه الوحشية التي لم يشهدها التاريخ، ورباطة جأشهم بالنسبة لي هي الله، دفن الأم لابنها وهي تبكي لكنها تحضنه وهي تمتدح جماله هي الله، إن دموع أب على ابنته التي وجد عظامها بعد 200 يوم من الحرب وعرفها من ملابسها، كي يقول إنها أحب أولاده إليه هي صورة الله، إنه صراخ الطفلة أن يتركوها تحت الركام وينقذوا بقية عائلتها هنا الله، كلمات شقيقين ” شكرًا يا إسعاف” والدماء تسيل على وجهيهما تمثل آخر لوجود الله.

الله ليس بالقوة الخارقة كما يعتقد الناس، ليس لمحاربة الظلم، ليس سوبر باور، إنه الصبر في قلب الضعفاء، والثبات في الأهوال، والأمل في كل ذلك اليأس، إنني أراه في ناسي كل يوم وفي كل حرب، ومنذ أن بدأ الموت يزورنا كل عامين، رأيته بالرضا، والتفاصيل الصغيرة، إنه الحنان في لحظة وداع. إن هذه الحرب نخوضها في قسوتها داخل رحمة الله. انظروا إلى كل ذلك الصبر والدموع المسكوبة محبة وانتظار.

أنا لست متدينة، لكن أربع حروب رأيت فيها الله في القصف والجثث المحروقة، وتحت رعب الطائرات المسيّرة وغير المسيّرة، لم أعد أسأل أين يذهب الشهداء؟ بل أصبح سؤالي كيف سنلقاهم ونحن أحياء؟

في الجهة الأخرى، هل ينتظر منا الله شيئًا ما؟، تذكرت أجمل دعاء لشاب يبكي عائلته التي قتلتها القنابل، حين قال ” صلِ علينا يا الله، صلِ علينا يا الله”، ولم أجد ثقة مثل تلك في الحب المتبادل.

آلمتني قدمي التي غزت بها أشواك القنفذ، نبهتني أنّ الألم حكمة، والفقد حكمة، والخوف حكمة، وقد يكون لا شيء سوى ما هو عليه، الألم عذاب، والفقد شوق، والخوف هرب، لكن صورة الله داخل كل واحد فينا تجعل لكل شيء معنى آخر.

The post أين الله من غزة؟ appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
سماء غزة فوق باريس https://rommanmag.com/archives/21527 Wed, 01 May 2024 05:34:54 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b3%d9%85%d8%a7%d8%a1-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%81%d9%88%d9%82-%d8%a8%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%b3/ أَنظرُ إلى ملفاتي “الوورد” على جهاز اللابتوب، جميعها غير مكتملة، لقد كتبتُ نصف الكلام ونصف المشاعر ونصف الألم، كما أنها نصف الحقيقة، لو قلتُ الحقيقة كاملةً سيرجمونني مثل كلبٍ متشرد، نحن لا نقول الحقيقة، يجب أنْ نكذب، نخفي الكلام، نهمس ببعضه، فالموقف الوطني يستلزم منا النفاق أو البوح همسًا في أحسن الأحوال. نُجمّل الموت والفقد، […]

The post سماء غزة فوق باريس appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
أَنظرُ إلى ملفاتي “الوورد” على جهاز اللابتوب، جميعها غير مكتملة، لقد كتبتُ نصف الكلام ونصف المشاعر ونصف الألم، كما أنها نصف الحقيقة، لو قلتُ الحقيقة كاملةً سيرجمونني مثل كلبٍ متشرد، نحن لا نقول الحقيقة، يجب أنْ نكذب، نخفي الكلام، نهمس ببعضه، فالموقف الوطني يستلزم منا النفاق أو البوح همسًا في أحسن الأحوال.

نُجمّل الموت والفقد، نُزيّن الخيمة، ونصنع أعراسنا في الإبادة، ونُعلّق الزينة في الرمل والظلام، ندّعي أنّنا نحتمل، والحقيقة أنّ ما يحدث غير قابل للاحتمال، بل هو الهوة نفسها، وما بعد الحافة، والجراوند زيرو.

أعرف ونعرف أنّنا لا نستطيع هزيمة أميركا وإسرائيل لكنّنا قادرون على المقاومة والصمود بعد كل هذا الوقت، وهذا لم تستطع عليه العراق أو أفغانستان، بل حتى الدول العربية مجتمعة في حرب 67، لكن هذا صمود أهل الأرض وسواعد رجال المقاومة البدائية الذين تحولت كفوفهم إلى قطع خشبٍ من خشونتها وبقت كفوف القادة والسياسيين ناعمة غارقة بالعطور والعناية.

صمود غزة ليس به ما هو أسطوريّ كما تُصوّر الجزيرة، وضيفها الدائم دويري، ومحاولتهما مساواة غزة بقوة الردّ مع الاحتلال، هذا وهمٌ كبير، وكون هناك صمود اختياري لا يُغير كون كثير منه صمود إجباري، كما حدث مع أهل الشمال حين فقدوا نصف أوزانهم بل أكثر في ظل المجاعة، وقد أطلقوا عليه “رجيم السنوار” إما للتندّر أو لشرح مآلات الإرادة الشعبية ومن يُقرّر حياتها في هذا الوقت بالذات.

نعم الإرادة الشعبية التي لم نعد نعرف ماهي وما خياراتها، كما لم يعد أحد يسأل ماذا تريد، بل لم يعد أحد منا جزءًا منها، فلا أذكر أن أيّ أحد منا كان يُريد حربًا، بل كادت غزة أنْ تكون سنغافورة على الشاطئ، كما تنبأ عرفات قبل ثلاثين عامًا، والآن لم يتبقَ حتى جدار واقف على الشاطئ، مستقبل المدينة غادر بلا رجعة.

أخاف ألّا أُكمل هذا المقال أيضًا، لا شيء يكتمل معي، منذ شهور، لم أستطع أنْ أُكمل نصًا أو تقريرًا، أشعر بأنني فقدت القدرة على الكتابة، هي هناك في مكانٍ ما، بعد شهور من الأرق والحزن والانكسار على مدينتي التي راحت، دخلتُ في اكتئاب، فقدت الأمل في قدرة المقالات والكتابة والأدب والفن على التغيير، لا صوت أعلى من صوت الرصاص والقصف، العدالة مجرد أسطورة أخرى مثلها مثل الحب نُحيك حولها القصص الكاذبة.

جمعتُ أغراضي وما معي من مال، وغادرتُ إلى باريس، أبحثُ عن إجابة، أجريت مقابلاتٍ عديدة ربما لا يحتاج المحرر جميعها.

لكنني كنت في حاجة إلى إجابة، لماذا حدث كل هذا؟، قابلتُ ناشطًا عاد بي في آلة الزمن وكأنني في ميدان التحرير وفي ظلال الربيع العربي لكني لا أحتاج للعودة إلى ذاك الوقت حين حملّنا قدراتنا ما لا تحتمل، ثم قابلت أديبًا يهوديًا فرنسيًا جعلني أعود إلى سؤال الجدوى من الكتابة مرة أخرى، لكن مع بعض الأمل هذه المرة.

يضج رأسي بالقلق، توجهتُ إلى صديقي الطبيب المغترب، والذي يحب الفلسفة أكثر من التشريح فترك عمله الأول، قال لي لا تبحثي عن إجابات، بل عن الأسئلة الصحيحة، إنه وقت الأسئلة الصعبة ويجب مواجهتها لاستيعاب ما يحدث في غزة، صديق آخر يكتب الشعر في بلجيكا يُؤكد لي أني مدمنةٌ على حزني وأحبه، وأنه جاء وقت المغامرة والتغيير.

ألا يكفي أنْ آتي إلى باريس لأسبوع، وأترك كل شيء خلفي، وأنام في فندق بالكاد بقيت به على قيد الحياة من شدة البرد، أشكر الله أنه لم يخرج لي فأر من تحت السرير، حين قلت لموظف الاستقبال عن البرد ابتسم، وحين سألته عن الإفطار ضحك كثيرًا، أعتقد لو قلت له هناك فأر بالغرفة فسأكتشف أنه يربيه.

كنت أريد دعوة صديقي الشاعر كي يجري الحوارات معي، فليس هناك أجمل من المغامرات الصحافية المشتركة، لكن يبدو فعلًا أنني لست مغامرة كفاية أو أنني لم أعد أرى أيّ جمال وتغيير في شيء.

أخذتنا الحرب إلى الذروات المتعددة في الشهور الستة السابقة، أقصى المغامرة صباح 7 أكتوبر وأقصى الجنون في الساعات اللاحقة، وأقصى الانتقام ما فعله جيش الاحتلال بعدها، وأقصى تراجيديا هو جميع القصص التي نراها كل يوم لغرباء يودعون عائلاتهم ويصرخون “راحوا الحبايب”.

فكيف سأغامر وأبحث عن الجديد وهذه الحرب وضعتنا في مفرمة تجربة المرة الأولى في كل شيء. لقد غيرتني الحرب، لم أجد في باريس ما يعطيني إجابة، لا الحوارات الصحافية، ولا الحديث مع أصدقاء بعيدين ولو كانوا من نفس مدينتي ترهقهم الأسئلة ذاتها وقد أصابهم مثلي شيء من فقر وخوف… لكن هذه الحرب تحتاج منا أنْ نكون وحدنا، بل نحن نحتاج أنْ نكون فيها وحدنا.

مطر شديد، أجرُّ حقيبتي الثقيلة على المياه، حتى اليوم لست ناجحة بتوضيب حقائبي، لا أعرف أن آخذ قطعتين وأسافر، أجلس في مقهى باريسيّ بامتياز، نوافذه زجاجية طويلة، إنارة خافتة، أحتاج أحيانا للضياع، أن أسافر دون هدف ليس لمؤتمراتٍ وندوات، بل بلا هدف، يقودني الخذلان والبحث عن نفسي، يعود صديقي يكتب لي “اصطادي تلك السعادة من الضياع، ولا تتركيها بعد أن تعودي”.

من منا استطاع القبض على السعادة، أنا أشعر أن مياه قوية تتدفق في قلبي، هو طوفان الضياع والألم، لا يسعدني سوى حين ألحظ العالم يرى ذاك الألم، وقد أعاد لي تحرُك الجامعات بعض التفاؤل، رغم أنني أحيانا لا أرى سوى كونه سذاجة وعفوية، بل وفيه خطابًا راديكاليًا، فهو يمثل موقفًا أخلاقيًا ثابتًا، بينما أزمتنا تحتاج سياسة والسياسة عكس الموقف والأخلاق والثبات، لذلك لن ينالنا من العالم سوى الصراخ والهتاف والشعارات..

في بداية الحرب اعتقدت مثلكم جميعًا أن كل الاعتصامات والمظاهرات ستفعل شيئًا، لكن كل شيء لم ينل من قرار إسرائيل للاتجاه نحو قتل كل فلسطيني.

لكن من أنا لأحاكم هؤلاء الفتية؟ أنا التي وصلت من العمر حدًا أصبحت أُسلّم به بوحشية العالم، بل أنه قادرٌ على أكثر من ذلك من إبادة، وجيلي كله معي، يرى أننا نعيش في وقت يبرر فيه الإنسان هذا الإجرام، بينما هؤلاء الطلبة هم ضمير العالم الحي، الذي لا يصدق أن مثل هذا الظلم موجود، ولا يتقبله ولا يسكت عنه.. ربما حتى يصلوا إلى عمرنا ويصبحون الجيل الذي شهد إبادتنا فيستسلم لكل حرب وإبادة لاحقة، فجميعنا نمرُّ في آلة تحطيم الضمير والعدالة والأمل هذه..

قالوا لي إن حبيبًا قديمًا، غادر ونجا من الحرب، هي المرة الأولى التي يسافر بها على الإطلاق، سعدت أنّ أحدهم أعرفه نجا، قالوا لي إنه بكى في الطريق إلى القاهرة، وبكى في القاهرة، ويبكي كل يوم. وحتى الآن لا يشعر بأنه ذاك المسافر الجديد في بلد جديد..

ليس حبيبي القديم وحده الذي يبكي مطرحه في غزة، بل أصدقاء كثر غادروا المطار إلى كندا وأستراليا وأمريكا، بكوا بكاءً مريرًا، لقد وزع الساسة والاحتلال دمنا وأرواحنا على القبائل، لقد تفرقت أمنياتنا، وأحلامنا..

ربما لا يجب أن أتحدث بصيغة نحن، لقد تركت غزة أنا وأغلب عائلتي منذ حوالي ثماني سنوات وكانت آخر حرب شاهدناها هي في صيف 2014 والتي اعتقدت وقتها أنه لا يوجد أقسى منها، ولم أصدق أن الإبادة تنتظرنا في مكان ما.

أنا أكتب… أنا أسترسل، أفعل ذلك بعد أسابيع من الجفاف، وكنت كأنني أتعلم المشي من جديد، وأجبر نفسي على تحريك ساقي/قلمي. ربما استنزفت ذاتي بمشاركة الناس على وسائل التواصل أفكاري ومعلومات كشف الفساد والكسب الشخصي خلال الحرب، وظهوري الحي لمناقشة الأفكار السياسية.

أعتقد أنني كنت أبحث عما هو أقوى من كتابة المقالات والحكايات، طوال أسابيع من الجدالات والنقاش المرير والغرق في المبادرات ومحاولات مساعدة الناس على الأرض وإخراجهم من الجوع والفقر والعوز.

لكني أعرف نفسي، لست ذاك الشخص الذي يريد الغرق بالواقع وتفسيره وكشف أسراره، أريد أن أعود لي أنا، وترك الناس، لقد استلبني التعاطف والمشاركة، وتركني صحراء. أحيانًا العجز عن الحل وتغيير الواقع هو دافع كبير للكتابة، بينما الفعل الملموس يطفئ كل شيء.

أظهر أنانية هنا، لكن متأكدة أن كثيرين سيفهمونني، يشعرون بأن روحهم ذوَت ولم يبق شيء لديهم… أريد العودة لهويتي، ليس فقط السفر لباريس يساعدني على ذلك، بل التحدث مع الآخرين، والتأمل، والعودة للحياة، وتراجيديا المعقول بعد أن أكلتني تراجيديا تفوق الحدود.

وصلنا على الموتوسيكل، نناور في شوارع باريس المزدحمة، صديقتي الناشرة تبدو سعيدة أنّ كتابنا القديم تُعاد ترجمته وقد باع ويبيع آلاف النسخ، وقفت وأعطتنا قبلات جميعًا، فكأنه يطرح الآن في الأسواق، لا أدري هل أكون سعيدة أم تعيسة أننا كنا نحتاج إلى الحرب كي ينتبه العالم لكتابٍ عن غزة بعد أن كان مهملًا في المكتبات لسنوات، تصلني رسائل جميلة من القرّاء يوميًا، لكني لا أستطيع أن أشعر بالسعادة، (ليس لأنه لا تصلنا الأرباح، فأنا أسلم بفقر صناعة الكتاب عالميًا بالأساس)، بل لأنني فقدت الأمل بكون الكلمة قادرةً على التغيير، المجازر مستمرة، كل يوم هناك مائة ومائتان يموتون، وهذا في أفضل الأيام، واحتمال أن تطال عائلتك يتحقق في كل لحظة.

أقول ذلك لصديقتي الناشرة، ويبتلعني الحزن، وهي تقول أنظري إليك، لست مكتئبة أنتِ حزينة فقط، وسيمرُّ كل ذلك، لقد كنت مثلك أبكي في كل مكان ومن ثم عرفت أنني أمرُّ بفترة “سن الأمل” انقطاع الدورة، رددت عليها نعم أنا أبكي كل يوم في كل مكان مثل جدي قبل وفاته لكن لا أعتقد كونها مشكلة هرمونات إنها مشكلة هوية ووجود.

ستة شهور وأنا كطائرٍ مقصوص الجناحين يُحلق قليلًا ويقع مرةَ أخرى…يُحلق ويقع..لا وصل السماء ولا بقي على الأرض، مُعلق يريد أن يفعل شيئًا ولا يستطيع، 34 ألف روحٍ رفرفت عاليًا، وأنا لا أزال عصفور لن تنمو أجنحته أبدًا مرة أخرى، يعلو ويهبط إلى أن تدعسه وحشية العالم.

The post سماء غزة فوق باريس appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
هبة العبادلة وأحمد بدير… وداعاً https://rommanmag.com/archives/21431 Mon, 15 Jan 2024 08:32:23 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%87%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a8%d8%a7%d8%af%d9%84%d8%a9-%d9%88%d8%a3%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d8%af%d9%8a%d8%b1-%d9%88%d8%af%d8%a7%d8%b9%d8%a7%d9%8b/ الأطفال ملقون بجروحهم النازفة على أرضيات المستشفيات القذرة والملوثة بالدم، الأجساد الدافئة التي قتلت للتو ملفوفة بالقماش الأبيض الثقيل، الذي لم نعد تميزه عن قماش الخيم أيضًا، الركام الرمادي الذي أصبح على امتداد البصر في أحياء واحدة من أجمل الألسنة الساحلية بالعالم، ولن يعرف ذلك من لم يزر غزة، الجثث التي صعدت روائحها إلى السماء […]

The post هبة العبادلة وأحمد بدير… وداعاً appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>

الأطفال ملقون بجروحهم النازفة على أرضيات المستشفيات القذرة والملوثة بالدم، الأجساد الدافئة التي قتلت للتو ملفوفة بالقماش الأبيض الثقيل، الذي لم نعد تميزه عن قماش الخيم أيضًا، الركام الرمادي الذي أصبح على امتداد البصر في أحياء واحدة من أجمل الألسنة الساحلية بالعالم، ولن يعرف ذلك من لم يزر غزة، الجثث التي صعدت روائحها إلى السماء وغلبت على روائح البارود وتفجر الصواريخ، إن هذه تفاصيل كابوس ممتد لتسعة وتسعة يومًا بالتمام والكمال حتى لحظة كتابتي هذا المقال.

كأنك تستيقظ لتجد نفسك تعيد اليوم بحذافيره، لكن الفارق هي الأسماء الجديدة لأكثر من ثلاثين ألف ضحية نتيجة جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق قومي في قطاع غزة، وبين يوم وآخر تجد اسمًا تسلل إلى الضحايا لا يتركك سوى مصدوما غير مصدق، كيف ومتى ولماذا، قد نعتاد الحرب، ولكن أبدًا لا نعتاد الوداع.

في الأسبوع الأخير قتل الاحتلال هبة العبادلة، قصف فوقها المنزل الذي احتمت فيه مع ابنتها و60 آخرين من عائلتها في خانيونس بمن فيهم والدتها أيضًا، هبة أصرت على البقاء في منزلها وعدم النزوح، ومثلها الآلاف صمدوا في منازلهم، وماتوا أبطالا مرتين، بل ثلاث مرات وأكثر، ففي كل يوم تتعاظم بطولتهم، لمجرد أنهم يعيشون احتمالات الموت على وسعها ومباشرتها، ويسمعون أصوات القصف التي لا يدرك رعبها سوى من عايشها.

هبة كانت معنا في فريق للمناظرات قبل تسعة أعوام، وقد تميزت بالمرح والذكاء، وقوة الحجة، من الصعب نسيانها، حتى لو التواصل معها خف تدريجيًا بعد الغربة، لم أستطع استيعاب أن فتاة التي أصبحت أم لاحقا بكل تلك الحيوية والقوة تقتلها قذائف الاحتلال في ثواني، لا يمكن تصديق ذلك، فالأجساد تموت، لكن بعض الأرواح أقوى منها وتعيش أعمارًا فوق أعمار الجسد الذي يحتويها، ولولا قصور الفيزياء لتخلدنا بالإرادة وحدها، إرادة تشبه إرادة هبة، في حياتها ومماتها.

ولم تمر أيام قليلة على استشهاد هبة وابنتها الجميلة التي هي ملاك، حتى قرأت في أخبار التلجرام السريعة اسم الصحافي أحمد بدير شهيدًا عند مستشفى شهداء الأقصى، وبرز على الفور وجه أحمد وضحكته في عيني، لقد عرفته من خلال عمله في بوابة الهدف الإخبارية ثم بوابة اللاجئين، وكنا معًا في عدد من التدريبات الصحافية.

يا إلهي لماذا يموت الطيبون بأشد أنواع القنابل وحشية؟ ألا يكتفي العدو برصاصة، أو شظية؟، لماذا عليهم أن يتقطعوا ويصبحوا أشلاءً، لم تر عائلة أحمد وجهه في وداعه، فقد اختفت الملامح والأنسجة، لماذا علينا أن نفقد أحبابنا بأشد الطرق قسوة؟، لماذا تنحرم العائلات من النظرة الأخيرة؟، لا أحد يريد أن يرى محبيه سوى كما يتذكرهم، فالذكريات هي التي تبقى، ولا نريد لقنابل الاحتلال حتى أن تبعث في الوجوه الباقية في الذاكرة، يكفي أنها شوهتهم لمرة واحدة في الواقع ولن يحدث ذلك في العقل أيضًا.
 

واستشهد أحمد، وقد غاب عن الأخبار ناقل آخر أمين، طيب القلب والذكر، يتابع كل شيء سواء في غزة أو الضفة، ولا تغيب عنه حكاية حتى أصبح بدمه الحكاية التي من واجبي اليوم أن أكتب عنها كما فعل العشرات من زملائه وزميلاته الذين رثوه بالدموع، ولو قرأت يا أحمد ما يكتب عنك اليوم، لفرحت مثل طفل كما أنت دائمًا بضحكاتك التي لا تنقطع، وربما قفزت، فقد كنت لا تعرف الركون لمكان واحد طويلًا، فلا أدري أي قبر ذلك الذي تسكن إليه الآن يا صديقي.

في بداياتك الصحافية كنت تسأل عن كل شيء، وتجرب كل أنواع الأشكال الصحافية وتحررها ثم تعود وتشبكها معًا من جديد، رأيت فيك صحافيًا مجتهدًا لن ينضم إلى جوقة الركاكة، ثم أحببتَ العمل الميداني، وحرصت أن تخرج إلى الحدث دون خوف، وفعلت ذلك في كل الحروب السابقة، حتى أخذتك منا أقساها وآخرها والتي لم تنته بعد يا أحمد، ولم يهزها موتك وموت أكثر من 115 صحافيًا وصحافية آخرين.

كنت تنتظر إلى آخر لحظة قبل أن تترك أي مكان خطر، هكذا فعلت في غزة قبل أن تنتقل إلى دير البلح، وهكذا فعلت في دير البلح بقيت لآخر لحظات، وكنت ستغادرها في اليوم التالي، على الرغم من أن الأغلبية تركت المكان من الأطباء الدوليين والعاملين في القنوات الإخبارية الكبيرة، أرسلت إلى محررك الذي كان قلقا عليك أنك ستغادر في الغد، لكن اليوم لم يعط فرصة للغد، أخذتك قذيفة معها، وهشمتك، قبل أن تجمع أغراضك القليلة وتلتحق بزوجتك وابنك في الخيمة كي تمشوا جميعًا إلى الطريق الساحلي ومن هناك قد تجدون سيارة إلى الجنوب إلى مدينة رفح حيث تنتظرك والدتك.

لم تصل أبدًا إلى رفح التي كنت تجري اتصالاتك فيها كي تعرف تحديدًا، أين ستضع خيمتك الجديدة، لقد دفنوك في دير البلح، أصبح الانتقال من مدينة إلى مدينة في قطاع غزة كأنك تعبر فوهة الجحيم، وقد كان في السابق عبور قطاع غزة من شماله إلى جنوبه لا يتعدى الساعة بالسيارة.

 أما الآن أغلب العائلات تمزعت وافترقت دون لقاء منذ ثلاثة أشهر وأكثر، ومنهم من قُتل دون وداع، لقد أصبحنا نسخة مصغرة عن كوريا الجنوبية والشمالية، ولا يعرف أحدنا متى ستلتئم البلاد؟.

طال الليل يا هبة، طالت العتمة يا أحمد، أو كما قال الشاعر “ألف شمس في ألف سماء ولا ضوء”، ولا نعرف متى سيطلع على بلادنا نور، لقد شُرخت قلوبنا، ليس فقط منازلنا وأماكنا الجميلة، ليس فقط شوارعنا ومساجدنا القديمة، بل حتى أحبابنا لن نراهم أبدًا.

يوما ما ستتعافى البلاد، ولن ترجعوا، سننسى الحرب ولن ترجعوا، سيكبر أبناؤنا ولن ترجعوا، سنحضر أعياد ميلاد كثيرة وحفلات زفاف أكثر ولن تكونوا معنا، سنبني بيوتنا من جديد ولن تزوروها، لكنكم أحياء في قلوبنا، ستبقون في عيوننا، بالوجوه الكاملة الجميلة الضاحكة.

 إن أملنا يأتي من كل هؤلاء الموتى، نعم فالموت في غزة محفز الحياة وسر الاستمرار، وإن هذه الأرواح تحفظنا وتظللنا إلى الأبد.

يومًا ما سأعود إلى غزة سأرى أحمد بدير على باب عمارة بوابة الهدف بضحكته الواسعة، سأرى هبة العبادلة تسخر من الفريق المنافس الذي يناظرها بصوتها الجهوري ولغتها السليمة، حتى صديقنا علي الشعراوي سأراه يقدم لنا القهوة في مزاج، بعينيه الخضراوين اللتين تعرفان دواخلنا قبلنا حتى…

 ستحرسوننا دومًا كما حرستم حياتنا بموتكم… 

وداعًا أصدقائي..

The post هبة العبادلة وأحمد بدير… وداعاً appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
قطاع غزة أو المشرحة الكبرى https://rommanmag.com/archives/21402 Mon, 11 Dec 2023 09:46:45 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%82%d8%b7%d8%a7%d8%b9-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d8%a3%d9%88-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b4%d8%b1%d8%ad%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%a8%d8%b1%d9%89/ “سمعت قلب أختي بدق قوي جنبي” هذا ما قالته الطفلة لانا صافي بعد أن وجدها رجال الأمن بأربعة أيام وهي تحت الأنقاض في مدينة دير البلح، كي تحث من حولها على إخراج أختها رغم جراحها وتعبها، فهي مصابة بالجفاف، لونها رمادي، شفاهها متشققة، وتفكر بأختها، التي غالبًا قد توفيت. هذه الأثيرية هي ما نراها كل […]

The post قطاع غزة أو المشرحة الكبرى appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
“سمعت قلب أختي بدق قوي جنبي” هذا ما قالته الطفلة لانا صافي بعد أن وجدها رجال الأمن بأربعة أيام وهي تحت الأنقاض في مدينة دير البلح، كي تحث من حولها على إخراج أختها رغم جراحها وتعبها، فهي مصابة بالجفاف، لونها رمادي، شفاهها متشققة، وتفكر بأختها، التي غالبًا قد توفيت.

هذه الأثيرية هي ما نراها كل يوم عند مصابين والناجين، ينادون لإنقاذ عائلاتهم أولًا، يعودون وهم يضغطون على جروحهم للبحث عنهم، يخافون أن يكون أحدهم تحت الردم حيا، ولم يلقطوا صوته. ينادون “شادي، أحمد، سمر، أبويا” يبقون بجانبهم حت يجدونهم ولو كانوا عبارة عن عظم، فيتعرفون عليهم من ملابسهم.

تقول إحدى الأمهات التي رجعت على “كارة” حمار، لتأخذ ابنها من شارع رشيد، بعد تحلله، حيث دبابات الاحتلالات منعت أحد من الاقتراب من عشرات الجثث “عرفته من حزام بنطلونه”.

شقيقا د.ميسرة الريس عادا للبحث عنه وعن باقي أفراد أسرتهم، وبالفعل أخرجوا جثامين شقيقتهم ووالدهم ووالدتهم، لكن الطائرات قصفتهم من جديد فوق البيت المقصوف واستشهدا. تقول شقيقتهم فاطمة الوحيدة الباقية في ألمانيا “استكثروا علي يخلولي إخواتي العايشين..”

يموت الأحياء تحت الأنقاض ببطء، ويموت المصابون ببطء أيضًا، ينزفون حتى الموت في الشمال والوسط والجنوب، لم يعد هناك خدمات طبية تنقذهم، مئات الأشخاص ينزفون بالشارع وتحت المطر، يلفظون أنفاسهم الأخيرة، شهداء أول الحرب أصبحوا هياكل عظمية وجماجم، وكأن الحرب استمرت مائة عام وليست ستين يومًا، لكن إن الستين يومًا في عمر الحرب هي بالفعل مائة عام من الخوف. 

أصبح قطاع غزة مشرحة كبيرة دون كهرباء، بعد قصف مستشفيات وتوقفت أخرى عن الخدمة، وقتل ما يزيد عن المائة وستين من العاملين فيها، وكل الإصابات حتى الخفيفة يصبح مصيرها الموت.

 أطفال ونساء ورجال وكبار السن، ملقون على الأرض بملابسهم الفقيرة الشتوية، بعضهم مات ممسكًا قماشة بيضاء طلبًا للسلم، رائحة الجثث المتحللة ملأت سماء شمال قطاع غزة التي كانت يومًا مليئة برائحة أشجار البرتقال والليمون المزروعة فيه في وقت ما قبل الحرب.

يجتهد بعض الأطباء بخياطة الجروح دون مخدر، والبعض يبتر الأطراف المعطوبة، انقاذًا ما أمكن للحياة، تحولت ساحات المستشفيات، وكأنها عمليات سمكرة بشرية.

حتى الأطفال المبتسرين “الخدج” اختنقوا رويدًا رويدًا وارتجفوا من البرد حتى ماتو… لماذا على شعب معذب ويباد أن يبقى يتألم كأي بشري من جروحه، لماذا يا الله تنطبق علينا قوانين الفيزياء؟ لماذا تتعفن ويخرج الدود منها؟ لماذا يتحلل الشهداء؟ لماذا تخرج روائحنا؟ لماذا لم تبعثنا كما فعلت بعيسى حين صُلب. لماذا لا تأخذنا عندك مباشرة؟

وهل بقيت الجراح على وضعها؟ لا بل لاحقها الاحتلال وقصفهم مرة أخرى وأصبح المصاب يعاني من جرحين ومن يعاني من جرحين يعاني من خمسة وهكذا حتى مات الجميع، وهل بعد أن ماتوا تركهم الاحتلال؟ لا، بل منعت جثثهم من الدفن، وهناك من لم يعرف أحبابه أنه مات، فلم يستطع أحد دفنه، وإذا أراد غريب كريم دفنه، لا يستطيع حتى أن يحركه، فالأجساد ذابت؛ تسقط ساقًا، يدًا، قدمًا، رأسًا.

لا أنسى حركات أيدي الخدج الصغيرة أمام الكاميرات تبحث عن حياة، هواء، دفء، لكن لا شيء يصل، النوافذ مغلقة، جريمة حرب أمام العالم مستمرة والعالم، يشاهد، يشرب ويأكل ويتزوج ويحتفل. كيف لا تصبح الحياة نقسها عار؟ حتى النفس عار، الجيش لا يسمح للمحاصرين في المنازل والمدارس والمستشفيات في المناطق التي احتلها بدبابته أن يفتح حتى شق في باب، بل يقنص من يخرج يبحث عن لقمة وسط مجاعة وعطش متعمدين، فرضت على أكثر من مليوني شخص، جيش جبان يبحث عن طواحين دون كيشوت ليصارع الهواء/ المدنيين ويتخيلهم أعداء.

جيش انتهى به الأمر ليعتبر مرضى الكلى والأطفال خدج أنداده، يتحدى غرف الولادة والقلب ويهدمها، ويجرف الأجهزة الطبية والأقسام الطبية، بحثًا عن “مترو حماس”، لكن لن يعرف مكانه أبدا فقد انطلق قبله بكثير.

كم أتمنى أن أقع بغيبوبة ولا أفيق إلا بعد أن يكون من بقي في غزة نسوا آلامهم، وعادت غزة من جديد، وتعمرت البيوت ونمت الأشجار. كل شي دمر، لم يبقَ سوى البحر يشبه نفسه. أريد أن أقفز عن المرحلة، فأصحى لأجد الندوب جفت، نعم لا تزال تؤلم لكنها لا تنزف.

حين لم تسألني جارتنا مثل كل مرة عن غزة وعائلتي، عرفت أن إحساس التعاطف الكبير من العرب نحونا، والإحساس بالحب المفاجئ انتهى، لأن الوقت يقتل أية مشاعر قوية حتى لو كانت الحرب فعليًا ازدادت ضراوة مما كانت عليه في البداية، إن الأمر هنا لا يحتاج إلى مجرد تعاطف بل التزام، ومواظبة على المساندة.

وهذا بالضبط ما اعتمدت عليه إسرائيل في تكرار جرائم الحرب التي ارتكبتها، ففي اليوم الأول لقطع الاتصالات كاملة مع قطاع غزة ارتج العالم كله، في الثانية تعاطف لكن دون غضب، الثالثة والرابعة نادرًا ما ذكرها أحد. كذلك استهداف مربعات سكنية كاملة، كانت المرة الأولى في جباليا حين ألقى العدو ثاني أكبر قنبلة يستخدمها في تاريخه، ثار العالم صراخًا ثم تكرر ذلك عشرات المرات في كل أنحاء القطاع، ولم يعد أحد يذكره سوى من ألزم نفسه بالذكر والغضب، الشيء ذاته ينطبق على جرائم الاحتلال في مدارس النازحين والمستشفيات والكنائس.

إن كل يوم يمر على غزة وأهلها في الحرب الحالية، مهما خف وقعه على الآخرين، لا يجب أن ندع العالم ينساه، وستحفظه ذاكرة التاريخ، كل دقيقة منه مثله مثل كل تلك الأيام الوحشية الكبيرة، التي حفظها التاريخ في الحروب الكبرى ومذابح التطهير العرقي، والإبادات الجماعية.

جاءت الهدنة، فرحنا، وأكلنا، وشعرنا من جديد بطعم الحياة وكأن شيئًا لم يكن، خفت المظاهرات حول العالم، قلنا لن تعود الحرب من جديد، مستحيل، لكن عادت وعادت معها حشرجة الروح، والأرق ونخزة القلب.

تحيرني تلك الأرواح التي تبقى عالقة بين السماء والأرض وقت الهدنة، نعتقد أنها نجت، بل تعيش أياماً تتنفس فيها، نأمل أن المحرقة انتهت، لكن ترجع النيران، ويأتي دور تلك الأرواح، فتنتقل للسماء كأنه طابور طويل مع ختم عزرائيل الذي يبدو أنه الوحيد في غزة الآن الذي يعرف ما يفعله بالضبط، وماذا يريد.

The post قطاع غزة أو المشرحة الكبرى appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
رخص الفنان العربي وعار مهرجانات السعودية  https://rommanmag.com/archives/21396 Tue, 05 Dec 2023 08:30:50 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d8%b1%d8%ae%d8%b5-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%86%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a-%d9%88%d8%b9%d8%a7%d8%b1-%d9%85%d9%87%d8%b1%d8%ac%d8%a7%d9%86%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%b9%d9%88/ لا تكمن المشكلة في إقامة مهرجان سينمائي خلال واحدة من أعنف الحروب في القرن الواحد والعشرين، بل المشكلة حين تقيم المهرجان وتتجاهل هذه الحرب وويلاتها وضحاياها الذين هم بالآلاف، فهنا تغدو السينما والمهرجانات بعيدة عن الروح الحقيقية لصناعة الأفلام، كالمشاركة الإنسانية للألم وتتبع جروح الفقد البشري على مر التاريخ، وفضح الآلة الاستعمارية المتوحشة. المقصود هو “مهرجان […]

The post رخص الفنان العربي وعار مهرجانات السعودية  appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
لا تكمن المشكلة في إقامة مهرجان سينمائي خلال واحدة من أعنف الحروب في القرن الواحد والعشرين، بل المشكلة حين تقيم المهرجان وتتجاهل هذه الحرب وويلاتها وضحاياها الذين هم بالآلاف، فهنا تغدو السينما والمهرجانات بعيدة عن الروح الحقيقية لصناعة الأفلام، كالمشاركة الإنسانية للألم وتتبع جروح الفقد البشري على مر التاريخ، وفضح الآلة الاستعمارية المتوحشة.

المقصود هو “مهرجان البحر الأحمر” في السعودية، الذي بدأت أولى أيامه مع آخر أيام الهدنة خلال الحرب في قطاع غزة المستمرة منذ ثمانية وخمسين يومًا، وكأن الحرب تحدث في الفضاء الخارجي وليس في بلد مجاور، تمثل تراثاً عربياً وإسلامياً وثقافياً ووطنياً مشتركاً في أمة ذات مصير واحد، إلا إذا كانت السعودية تريد أن تبدأ التاريخ منذ اليوم الذي خلعت فيه ثوب الوهابية وارتدت ثوب التطوير والاستغراب والحداثة الشكلية، وبذلك بصقت على كل ما يتعلق بهويتها العروبية والقومية ورموزها وأولها فلسطين.

كل مقطع فيديو يظهر لعائلات تباد بالقنابل الإسرائيلية يظهر أمامه على وسائل التواصل الاجتماعي عشرات من مقاطع وصور فعاليات “مهرجان البحر الأحمر”، المهرجان الذي استطاع شراء ظهور ممثلين عالميين ليس بعراقته وأهمية جوائزه ونبل مواقفه، بل لأن أمواله كثيرة، أموال جعلت شارون ستون وويل سميث وميشيل ويليامز وجوني ديب يخطون على سجادته. وفي الوقت الذي أجلت مهرجانات عربية عالمية عريقة، ظهورها السنوي بسبب الحرب على قطاع غزة مثل “قرطاج” و”الجونة” ومهرجان “أيام فلسطين السنيمائية” – وكانت ستكون مقدرة أيضًا لو بقي موعد المهرجان على حاله طالما خصص جزءًا منها لمساندة فلسطين وأهالي غزة- نجد “مهرجان البحر الأحمر” ابن العامين، المستحدث ليناسب وجه السعودية الجديد، لم يؤجل يوماً واحداً في دورته الثالثة.

الشيء ذاته حدث قبله مع “موسم الرياض” واحتفالاته وأغانيه ومسرحياته والظهور الباذخ للفنانين العرب خاصة المصريين منهم في ثاني أسبوع للحرب على قطاع غزة حين اقترب عدد الشهداء من ستة آلاف شهيد وشهيدة، بل إن عراب صناعة الترفيه في السعودية تركي آل الشيخ ظهر يعلن عن صفقة كبيرة مع مطاعم ماكدونالدز التي قدمت وجبات مجانية لجيوش الاحتلال خلال الحرب. ولولا هجمة الشعوب العربية التي أصبحت أوعى من عرابيها وصناع الفن لديها على منشوره، لكان استمر في غروره وإلغاء قضية فلسطين المحتلة في عقول جيل شاب سعودي لا يعرف الكثير عنها، فاضطر إلى حذف الفيديو من وسائل التواصل الاجتماعي لكن كانت إسرائيل أعلنت سعادتها به ونشرته لديها وطلبت من تركي أن يذهب لمقهى ستار بوكس ويتصور هناك بالمرة.

هنا ينبت سؤال العار المخجل إلى أي مدى يمكن أن يبلغ سعر شراء الفنان العربي والفنان العالمي؟ على الرغم من أنه يبدو واضحًا أيهما أرخص ثمنًا، وأي الجنسيات المستعدة لتبيع نفسها ولو على حساب زملائها ممن اتخذوا موقفًا إلى جانب أهالي قطاع غزة. وكي نسمي الأشياء بمسمياتها ولا نتردد في أن نعمم ونكون عنصريين أيضًا، هناك فنانون قدموا أنفسهم للفن الرخيص والنكتة الرخيصة والمسرح الأرخص والأجندة الرخيصة بأقل الأثمان. بل يكاد يكون مجانًا كما قال بنفسه بيومي فؤاد “ولو من غير فلوس”، فخرج ينتقد بابتذال وتصنّع البكاء زميله محمد سلام الذي رفض أن ينضم للمسرحية، وقد أعلن سلام رفضه السفر إلى السعودية لأنه لا يمكن أن يصنع نكتة ورقصة بينما شعب آخر يموت غير بعيد عنه، وجاء ذلك في مقطع فيديو صوره لنفسه. ولم يقبل بيومي فؤاد أن يُظهر شخص شاب كمحمد سلام بتلك البراءة مدى “ندالة” الآخرين، فأوغل بهذه “الندالة” بانتقاد سلام علنًا على خشبة مسرح موسم الرياض، وكانت النتيجة كما تابعنا على وسائل التواصل الاجتماعي بأن نبذت مصر بيومي فؤاد بل وأصبح ترند بالتذلل للمال السعودي والسيد السعودي والفن السعودي.

ذهبت الأمور أبعد من ذلك حين تم تداول أنباء أن منصة “شاهد” السعودية لن تتعاقد على الموسم الرمضاني القادم من مسلسل “الكبير أوي”، والذي يلعب فيها الكوميدي محمد سلام دورًا مهمًا إلى جانب الممثل أحمد مكي. وخرجت منذ تلك اللحظة حملة ضد “منصة شاهد”، وألغى بالفعل المئات الاشتراك ضمن فعل المقاطعة الشعبي العربي وخاصة في مصر. ففي الوقت الذي يباع ويشترى الممثل والممثلة دون أي وعي بأهمية القضايا والأحداث حوله، بل ينقادون لمنافذ المال والسلطة كالخرفان، نجد الشعب المصري يضرب أقوى الأمثال في المقاطعة التجارية الشعبية للمطاعم الأميركية والمقاهي التي تدعم إسرائيل وكذلك المنتجات المطبعة. وفي الوقت الذي نرى الشعوب العربية تعيد التحامها بالصورة الأولى النقية للقضية الفلسطينية يلفظ الفنان أو الفنانة المصرية أي مقدار للقيمة الأخلاقية لعمله ونجوميته، وليس آخرهم بيومي فؤاد.

ولأن الرداءة لا تحضنها سوى الرداءة، نجد الممثلة المصرية ياسمين صبري التي يشهد على فشلها في التمثيل نقادٌ عرب كثر، تتربع على كرسي حوار الماستر كلاس في مهرجان “البحر الأحمر”، وتزيد من “المفهومية” بالقول بكل ذكاء خلال الحوار أنها تكره أفلام المهرجانات المملة وتفضل أفلام الأكشن، لينال المهرجان ما سعى له من السطحية والصورة المبهرة، وهو ما كان سهلًا مع كل تلك الملايين، فأبسطها أن يشتري ظهور أسماء كبيرة من هوليود على سجادته.

لذلك من المحبب و”الترند” مشاهدة صبري تختال بفستانها الأسود اللامع وتنشر القبلات ضاحكة، وتنتشر صورها في كل مكان فتكون فرصة للمواطن السعودي -ويا ليت العربي أيضًا- بأن لا يرى طفلاً فلسطينياً أشلاء تحت الأنقاض، بل تحميه سياسات الترفيه السعودية عبر صور الفساتين والنجوم وتخفف معاناته من أن يصادف صورة من فلسطين، إنه تسويق التفاهة، وليست صبري وحدها، بل هناك مئات غيرها من ممثلين وممثلات كنا نتوقع منهم المزيد من المسؤولية مثل أمينة خليل ويسرا ولبلبة وظافر عابدين، الأمر الذي يدعم نظرية كون الفن للتسلية بل يقع في مكان خاص من الضحالة، ولا يمكن أن ينقذ هذا العالم أبدًا أو يسعى لكي يكون أفضل.

ولأن الصورة ليست كلها سعودية، وليست بتلك القتامة من محو ممنهج لألم إنساني عظيم في غزة من صنع البشر والسياسة يجب تذكر كل أولئك الذين وقفوا في وجه إغراء المال والصلاحيات ومن أولهم محمد سلام وأحمد فهمي وسوزان نجم الدين، وليام كونينغهام وجون كوزاك ومارك روفالو وسوزان ساراندون وجينا أورتيغا.

بل كتبوا في 20 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، رسالة إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن يحثونه فيها على الضغط من أجل وقف إطلاق النار في قطاع غزة وإسرائيل، نشرها موقع “أرتيستس فور سيزفاير دوت أورغ”، واختتموا رسالتهم بالقول: نرفض أن نروي للأجيال القادمة قصة صمتنا، وأننا وقفنا مكتوفي الأيدي، ولم نفعل شيئا، ووقع عليها 60 فنانا وفنانة أبرزهم الكوميدي جون ستيوارت، والممثل الحائز على جائزة الأوسكار خواكين فينيكس.

The post رخص الفنان العربي وعار مهرجانات السعودية  appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
ونسيناك حياً يا علي… https://rommanmag.com/archives/21380 Sun, 19 Nov 2023 09:36:59 +0000 https://romman.b5digital.dk/%d9%88%d9%86%d8%b3%d9%8a%d9%86%d8%a7%d9%83-%d8%ad%d9%8a%d8%a7%d9%8b-%d9%8a%d8%a7-%d8%b9%d9%84%d9%8a/ كيف يمكن لبلد في ذاكرتك أن تقترن بشخص ما إلى حد أنك حين تتذكرها، يأتي وجهه لعينيك، وحين تتذكره تشم بحرها وشجرها، هذا هو علي وهذه هي غزة، كنا نعرفه بعلي فقط ونناديه “يا علي”، واليوم عرفه كثيرون باسمه الكامل علي الشعراوي. كان كل شيء في مقهى مزاج؛ المحاسب والنادل وصديق الجميع، والمستمع الجيد، وخير […]

The post ونسيناك حياً يا علي… appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>
كيف يمكن لبلد في ذاكرتك أن تقترن بشخص ما إلى حد أنك حين تتذكرها، يأتي وجهه لعينيك، وحين تتذكره تشم بحرها وشجرها، هذا هو علي وهذه هي غزة، كنا نعرفه بعلي فقط ونناديه “يا علي”، واليوم عرفه كثيرون باسمه الكامل علي الشعراوي.

كان كل شيء في مقهى مزاج؛ المحاسب والنادل وصديق الجميع، والمستمع الجيد، وخير صانع للقهوة، وأحيانًا يغش ليقول لك مكونات السلطة الوحيدة التي نحبها.

يحمل همومه على كتفيه ولا يمكن أن يشكيها لأحد، عائلته وأبنائه وراتبه القليل، وحقوق لم يحصل عليها من وظيفة قديمة، أغلب رواد المقهى أصدقائه لكن مستحيل أن يثقل عليهم، بل يضحك دائمًا، يداعب الكل، يحب الصغار ويحبونه، أنيق ومؤدب، ولا يزعل من “زبون” مهما كان يستحق ذلك.

أتذكر مرة قلت له يا علي “كتابي راح ينزل بالسوق وأوعدك إذا نجح راح نتقاسم الأرباح” ضحكنا كثيرًا ولم أكن أعرف أنها آخر الضحكات معه، فقد هجرت البلاد، وكتابي لم يحقق مبيعات يا علي، بل بدأت أبحث عن عمل في مقهى أيضًا، لكني لا أصلح، فلست بمثل خفة دمك، ومرونتك مع الجميع مثل فراشة تمر بين الطاولات.

لقد كنتً فراشة فعلًا يا علي، مرت بحياتنا ولم نعرف أنها ستتمزق بقصف إسرائيلي غاشم لغزة حيث استشهد معك أبناؤك وزوجتك، من كنت دائم القلق عليهم.

ارتحت يا حبيب، والله ارتحت..لكن نحن نتألم، جميعنا، آلاف يتألمون على فقدانك، كم نحن أنانيون، كم غبنا ولم نسأل عنك..سامحنا يا صديقي، سامحنا يا علي..أخذنا الموت والألم ونسينا الأحياء حتى ماتوا.

أرجوك يا صديقي.. كم أتمنى لو أنك لا تعتب علينا، لكن لو فعلت فنحن نستحق، لأن كل ما فكرنا به طوال تلك السنوات أننا نريد العودة لغزة كي نراك يا علي، نراك مع رائحة القهوة بالهيل الغزية المفضلة، أو قهوة الفلتر الخاصة، أو الأمريكانو… فلا طعم للقهوة دون ضحكتك خلف دخانها..ولا مزاج دون هيئتك خلف واجهته الزجاجية في شارع الرمال الرئيسي.

أنت موجود في الصيف والشتاء، والصباح والمساء، لا نعرف متى ترجع للمنزل يا علي، كأنك تعيش هناك، تعيش لنا، تنتظرنا..لم نهتم ..لم نسأل، ربما بعضنا فعل.

إلى درجة حين عرفنا أنك استشهدت اليوم، أخذنا نسأل بعضنا “وين استشهد؟ هو وين بيته؟”، وين بيتك يا علي؟ سؤال متأخر، أسئلة ما بعد الموت؟ أصعبها. تبقى دون إجابة…

حين كنت تغيب يوما، يصيبنا النكد كبرجوازيين، نستغرب حتى كيف يمكن أن تكون إجازة، لكن ليس لأننا مدللين بل لأننا نحبك، هكذا حب كبير وممتد وشاسع ..

نحبك يا علي.

والبلاد ليست هي بغيابك.

هل تألمت يا عزيزي؟ هل ودعت أبناءك؟ هل سامحتنا لأن حبنا لك بقي أقوال وليس أفعال..؟ أتمنى أن تكون استشهدت وأنت نائم..فتحت عينيك فوجدت نفسك في الجنة مع زوجتك وأطفالك، لأنك تستحقها، فإذا لم تكن الجنة لطيبتك الفادحة، فلمن ستكون إذن يا علي؟

ياريت الأجساد لا تتألم يا علي، ياريت كل هؤلاء الجرحى لا يأنّون، لو أن خلايانا ليست بها نهايات عصبية، فتصبح هذه الجروح والأطراف المبتورة والرؤوس المشجوجة كنسمة هواء على حامليها، كيف لهذا العذاب من القصف والخوف والقتل أن يزيد مع ألم المصابين؟، لماذا كتب علينا أن نتألم من أجسادنا؟ لماذا لم نكن من الشمع أو الجبس؟

الحمدلله لم تعش الألم هذا، لم تركض من مستشفى لأخرى كي تعالج ابنك فتجد أن غزة بلا مستشفيات، بل حتى بلا شوارع، بل لا تستطيع حتى أن تخرج رأسك من النافذة لثانية، الحمدلله أنك لم تعش كل عذابات اللاحقة للإصابة وفقدان المحبين، فالمحبين فقدوك والألم لا يطاق.

الحمدلله أنك لم تنتظر البحث عن عمل وبناء منزل جديد و20 سنة حتى تعمر غزة مرة سادسة، وطوابير بدل الإيجارات للبيوت المقصوفة من الوكالة، وبدل إصابات من الإمارات وبدل شهداء من قطر، الحمدلله يا علي مت عليًا ..لم تذل؛ واقفا شامخا مبتسما، لا تقول همومك لأحد.

حتى أحلامك لا يعلم بها سوى القليلين بأن يكون لديك مقهى صغير يجتمع فيه مريدوك يا علي.

لكنك لا تعرف أنك لا تحتاج إلى مقهى. لقد ملكت غزة كلها، فكلما تذكرناك حنينا إلى غزة وكلما حنينا إليك تذكرناها.

هي قلوبنا مقهاك الأبدي يا علي.

The post ونسيناك حياً يا علي… appeared first on مجلة رمان الثقافية.

]]>