لم أستطع أن أمنع نفسي من التعليق على إحدى الناشطات الفرنسيات من أصول عربية حين رأيتها تحتفي بالمختطفين الإسرائيليين الأربعة، وكتبت لها يبدو أنك نسيت أنّ هناك 210 مدنيين قتلوا في سبيل تحرير الأربعة، لم تنظري إليهم حتى.
وكانت عملية تحرير المختطفين وقعت قبل أيام قليلة في وضح النهار، في مخيم النصيرات بالمحافظة الوسطى بقطاع غزة حيث القصف والقتل مستمر منذ السابع من أكتوبر/تشرين أول الماضي.
والصدفة أنني قبلها بدقائق كنت أقرأ هجومًا لاذعًا على المحامية الفرنسية ذات الأصول العربية ريما حسن، ليس لأنها تحتفي بعملية المختطفين، بل لكونها تدعم فلسطين بكل قوتها في الوقت الذي لم تفعل ذلك بشكلٍ كافٍ وقت الثورة السورية، أو ربما لأنها يجب أن تفعل ذلك الآن بأثر رجعي بما أنها كانت وقتها طالبة جامعية ولم تكن بالشهرة التي هي عليها الآن، فهي الآن منتخَبة برلمانية أوروبية عن الحزب اليساري “فرنسا الأبية” الذي يتزعمه جان لوك ميلنشون.
وفكرت ماذا لو كانت ريما حسن، منسجمة مع اليمين الفرنسي؟ واعتبرت أننا في غزة نستحق الإبادة، كهذه الناشطة التي استفزتني في منشورها على موقع “فيسبوك”، وككثير من الناشطين ذوي الأصول العربية في فرنسا الذين يكتبون وينشرون عن ذلك بكل وضوح، وهو الأمر الذي فاجأني صراحة، كساذجة تعتقد أن كل من له أصل عربي بالضرورة يدعمنا، ونسيت أنّ هناك من لديه عُقد عميقة تجاه تلك الأصول، يشفونها بدعم إسرائيل، بل بعضهم يعتبر أن الستة وثلاثين ألف شهيد وشهيدة في قطاع غزة، الثمن المستحق كي تتخلص إسرائيل من أعدائها، وكتب بعضهم معايرًا ” كي تنتخبوا حماس”.
هل لو كانت ريما حسن كذلك، ستكون لحظتها مواقفها منسجمة، معًا، فهي لم تدعم الضحية السورية، وبالتالي يجب ألا تدعم الضحية الفلسطينية أو أي ضحية في العالم، لا أعتقد أنه يمكن أن تحسب الأمور بالطريقة هذه، وإلا لطلبنا من الشعب المصري أن يتعاطف مع مذبحة رابعة قبل أن يتعاطف معنا، وهذا بالتأكيد لم يحدث، فكثيرون لا يرون بالأساس ما حدث مذبحة ومع ذلك هم من أشرس الشعوب مقاطعة للمنتجات الإسرائيلية والأمريكية.
من المعيب مقارنة المذابح، لنرى من يستحق التعاطف أكثر، أو من ضحاياه أكثر، فنرى في الإبادة التي يتعرض لها أهل قطاع غزة كأنها منافسة، فأرى معلقين من الجزائر يقولون شهداؤنا أكثر فقد بلغوا المليون، وآخرون من السودان يكتبون لقد ظلمنا الإعلام بسبب غزة، وكذلك من أوكرانيا حين يأتي أحدهم يقول لا أحد يهتم الآن لجرائم بوتين هناك، ومؤخرًا نعيب على ريما حسن مواقفها، لأنها دعمت ضحية أكثر من أخرى، إن هذا عار بحد ذاته، كما هو عار إنْ كان الإعلام العالمي والعربي وخاصة المؤدلج منه لم ينتبه لبقية الضحايا كما ينبغي، فجميعها قضايا مطلبية وحقوقية لا يجب غفلها.
ثم من قال إنه يجب على الناشط السياسي أنْ يكون مثاليًا، كثيرون من اليسار الفرنسي لم يقفوا مع الثورة السورية أو تأخروا في إعلان دعمهم لها ولم نرفع لهم المقاصل، لماذا ريما حسن الآن؟ هل لأنه بالأساس هناك غيرة من مأساة وإبادة أخرى تحدث أمام عيون العالم، فنبدأ نقارن من يا ترى إبادته تستحق أكثر؟
ومع كل هذا ريما لم تعلن أبدًا كونها مع النظام الأسدي أو أنها ضد الثورة، بل تحدثت بانتقادات علنية وواضحة، يناقشها المعارضون السوريون أنفسهم بشكل أكثر فجاجة، وهذا لا يعني أنّ ريما لم ترتكب خطًأ في زيارتها لسوريا في مثل هذا الوقت الحساس، ونشرت صور شخصية سياحية وكأنها تقول البلد جميل وآمن، ونسيت بالفعل أنها قد تخطو على عشرات المقابر الجماعية، التي لا تختلف عن مقابر مشابهة حدثت في ساحة مستشفى الشفاء بغزة أو خانيونس خلال هذه الإبادة المستمرة، وكان يجب عليها في الوقت الذي تذهب فيه لزيارة مسقط رأسها أن تفكر في الملايين الذين لا يستطيعون أن يفعلوا مثلها، وأن لا تستند على موقف حزبها اليساري الغامض تجاه الثورة السورية وحبه السري للنظام الأسدي.
فلا يجوز التطبيع مع مأساة، في وقت نحارب به أخرى، وننادي بأعلى صوت أنْ تتوقف، ولأن كل المواقف هذه مركبة وغير منفصلة، لا يجب أيضًا أن نستخدم ذلك بشكل سيء ضد ريما وننسى معركتها، بل معركة الحق وفلسطين والضحايا واللاجئين في فرنسا مع اليمين المتطرف الذي يكره ريما حسن ويلاحقها ويهددها، وسحبها إلى القضاء.
كنت أتمنى سماع نفس الأصوات الحادة في النقد حين خرجت المعارضة السورية المقيمة في ألمانيا روان عثمان مع أفخاي أدرعي وفي ضيافة إسرائيل كونها تجاوزت تاريخ علّموها إياه، مليء بكراهية إسرائيل (بحسب تصريحات لها).
هذا لا يعني بالتأكيد أنّ المعارضين السوريين مثلها، لكن لماذا لم تتم مهاجمة هذه المعارضة ومن فعلوا مثلها ممن يحبون الاحتلال، ربما لأنّ داعم الاحتلال هو عدو كلاسيكي سهل مهاجمته كما تكثر أيضًا، بينما دعم ضحايا فلسطين والسكوت عن ضحايا آخرين من الأشياء غير الكلاسيكية والتي تنكأ جروح الإبادة المفتوحة كلها، وتبدأ المقارنات؛ “ألمنا أكبر، مأساتنا أكبر”، فالعدو في سوريا ليس بوضوح الاحتلال ما يجعل المأساة مضاعفة وألمها عميقًا، لكن هذا لا يعني أنه لا يمكن أن توجد جروح كبيرة أخرى غير قابلة للتقطيب.
غدوت أنا الأخرى أقارن بين الجروح، على الرغم أننا حين خرجنا نهتف في غزة للثورة السورية لم يهمنا ذلك، كما لم يهمنا أمن حكومة حماس الذي يراقبنا، أو نشطاء الجبهة الشعبية؛ يسار آخر يحب الأسد، الذين جاؤوا ليهتفوا عكسنا ويشاكلونا في حديقة الجندي المجهول بحي الرمال الذي حوله الاحتلال الآن إلى رمال فعلًا.
ولا يمكن أنْ أنسى أنه في غزة هذه التي تباد الآن، غردنا جميعنا منها في 2011، على وسم 15 مارس حين خرجنا نحن والسوريون في التاريخ ذاته، نهتف نريد إسقاط الانقسام وهم يريدون إسقاط النظام، وكنا نشجعهم ويشجعوننا، وكأننا نتصادف في الأزقة والميادين، وقد اعتقلنا أمن حماس وقتها بعد أن ضربنا بالعصي والسكاكين هذه المرة، فقد اكتفى قبلها بالعصي حين خرجنا في يناير في العام ذاته نهتف لثوار مصر.
لم نكن نهدأ، نشعر أنّ الساحات واحدة، وهذا ما نتطلع إليه اليوم في خضم إبادة قطاع غزة وسكانه، يجب عدم التردد، خوفًا من ألا نكون مخلصين كفاية لجروحنا الأخرى.