على عكس صوره في الإعلام، قد تشعر أنّ رامي شعث هادئ أو قليل الحديث، لكنه في الحقيقة ليس كذلك، يتحدث بقوة وتركيز ويسترسل لشرح قناعاته، ودائمًا لديه بنود ومحاور لكل فكرة، يسخر من نفسه أحيانًا، يشرح بيديه، بحماس ونشاط كبيرين، لديه أمل في المستقبل، والأهم في قرب تحرير فلسطين.
ناور بحياته بين هوياته المتعددة، وقاتل من أجل كل واحدة على حدا حينًا، ومعًا في بقية الأحيان؛ اعتقل في مصر عامين ونصف تحت حكم السيسي، وقبلها في فلسطين خاض كثيرًا من المعارك، وعاند الجميع بما فيهم والده د. نبيل شعث العضو السابق باللجنة المركزية لحركة فتح إلى أن ترك كلّ شيء ورحل، ومع ذلك لا يزال يتحدث بعاطفة حين يذكر تلك الفترة، وخاصة ياسر عرفات.
تشعر أنه طفلٌ دائم وصل إلى الخمسينات من عمره، ومع ذلك لا يبدو كبيرًا، عنيدًا بالتأكيد، ولكن حين سألته هل تعتبر نفسك “نمرود” باللهجة الغزاوية، رفض مبتسمًا، وقال لا أنا مسالم.
مسالم ربما، على طريقة رامي شعث، فيقاتل من أجل قناعاته ولتكسير القيود التي يفرضها عليه المكان، والسياق الذي يحدده له، وهكذا يفعل اليوم في فرنسا، خلال زمن الإبادة في غزة، فقد شكّل مع آخرين حراك “أورجانس فلسطين”Urgence Palestine الذي هزّ فرنسا بالمظاهرات، خاصة في باريس، حيث تقابلنا أيضًا اليوم وتحدثنا عن مصر، ورام الله، وغزة، والغرب.
مصر وثورة يناير
أول سؤال خطر لي، إذا ما اشتقت لمصر؟
“بلهجة خليط بين المصرية والفلسطينية يتحدث”: طبعا، يعني أنا نصي مصري؛ لدي جنسيتي المصرية رغم أنه تم سحبها بالسجن، لكني عشت معظم حياتي بمصر، وابنتي وأختي مصريتين، وأمي المتوفاة كذلك، وقد حصل والدي على الجنسية المصرية في زمن الرئيس جمال عبد الناصر. طبعا هويتي وثقافتي فلسطينية، لكن مصر وطن مثل فلسطين تمامًا، وأنا ممن خطط لثورة يناير لأنني أعتبر تحرير مصر معركة وطنية لها نفس الطريقة والتوجه، كمعركة تحرير فلسطين. فنعم، أشتاق للناس والأكل وحتى الخناق بمصر أشتاق له، لم أذهب إلى هناك منذ سنتين ومع سنين السجن داخلها، فأنا لم أرها منذ خمس سنين.
هل ترى مصر تغيرت؟
بالطبع، تغيرت مصر كثيرًا، ويزداد فيها اليأس والقمع والاختلال في الفهم والرؤية والوعي، كما يزداد فيها الانهيار الحضاري والثقافي، في كل شيء، سواء في السينما أو المسرح أو الرياضة. كذلك في التشكّل السياسي والتركيبة الاجتماعية وتماسكها. الحقيقة مصر في أسوأ عصور حكمها الفاشي، وفاشي بشكلٍ مختلف، فهناك محاولة لكسر الهوية المصرية وإعادة تشكيلها بشكلٍ استعبادي واستهلاكي. مصر في أزمة حقيقية ويصعب علي ألا أكون موجودًا هناك في هذه المرحلة التي تحتاج إلى تغيير.
هل هذا الاختلال في الرؤية والمفاهيم هو سبب ما يفعله النظام المصري في غزة خلال الإبادة الحالية أم أنّه سلوك قديم ومعتاد؟
بلا شك أنه بدأ منذ اتفاقية كامب ديفيد، وربما منذ مفاوضات الكيلو 101، خلال عام 1973، بمعنى هي اللحظة التي قررت فيها مصر الرسمية أنه انتهى عهد مقاومة إسرائيل، وكما قال السادات “كروت اللعبة في إيد الأمريكان”، فقلبت مصر توجهها السياسي بدل دولة تسعى للتحرر إلى دولة تابعة للولايات المتحدة، وبدل دولة تدعم التحرر في الجزائر والكونغو وجنوب إفريقيا إلى دولة جزء من الدول الاستعمارية، ولديها دور في تنفيذ الرؤى الاستعمارية.
ومن دولة ذات طابع اشتراكي -حتى لو ما كان اشتراكي مائة بالمائة لكن كان هناك تقارب كثير بين الطبقات- إلى دولة مبنية على الاستهلاك والرأسمالية والمؤسسات الدولية والسرقة والنهب، ومن ثقافة وتعليم حقيقي في مصر، منذ طه حسين وتوفيق الحكيم وأم كلثوم إلى صناعة حالة ابتذال كجزء من استهلاك وتركيبة رأسمالية. ومن دولة تقود العالم العربي وإفريقيا إلى دولة وصلت إلى أن تكون نتيجتها صفر عام 2004 عندما قدمت على استضافة وتنظيم كأس العالم للعام 2010، فلم يصوّت لها أحد في افريقيا. نرى اليوم انهيار يعتبر التطور الطبيعي لما يحدث، وبعد أن قدمت مصر مقاومة حقيقية في عدد من المعارك كثورة “انتفاضة العِيش” 1977 إلى انتفاضات بأشكال مختلفة، لكن استسلمت المقاومة خطوة خطوة، إلى عصر 30 سنة من حكم محمد حسني مبارك تجمدت فيه مصر بشكلٍ كامل وصار فيها جمود سياسي، أدى لثورة عظيمة.
إذن الثورة كانت لمنع الانهيار وقتها أو تأخيره؟
كان منبع الثورة الرغبة في التغيير، فهي تأسست على مطالب عيش وحرية وعدالة اجتماعية، وكان الإدراك أن الهدف الرئيسي منها هو الاستقلال السياسي، وهذا كان ضمن نقاش المجموعات السياسية وقتها، بدون استقلال القرار المصري عن التبعية للغرب وأميركا فمصر سيبقى حكمها تابع، وقرارها الاقتصادي أيضًا تابع لما يريده الأسياد في واشنطن وأوروبا، ومعناه أي حكم غير قادر على توفير الحياة الكريمة للناس، فلا يوجد عيش ولا عدالة اجتماعية، وإذا فقد العيش والعدالة، ستصرخ الناس، ويتم قمعها فلا يكون هناك حرية وبالتالي للوصول للعيش والعدالة الاجتماعية والحرية ، فلابد من استقلال القرار السياسي.
ونواة الثورة كانت في المظاهرات التي تجمّعت وتشكّلت وقت الانتفاضة الفلسطينية الثانية والحرب على العراق حتى وصل الأمر أن أصبح هناك إدراك لحجم الضعف الذي وصلت له مصر وأنه لا بد من إعادة بناء دور مصري وتغيير من واقع المنطقة، لتحرير فلسطين، فالإدراك كان مقدمة هذه الثورة، ولكن الخلل كان في تحديد من هو العدو؟ وكيفية مواجهته، فهي ثورة ضخمة وبالتالي كان فيها رؤى مختلفة، فهناك من يريد الحرية فقط بسقف محدود بمعنى الحرية الشخصية، وجزء آخر أراد الحرية والتحرر، وآخرين كانت رؤيتهم ملتبسة وفشلت الثورة كي نصل الى اللحظة الحالية.
هل تعتقد ثورة يناير فشلت؟
انهزمت بلا شك، فتحت الباب بالتأكيد أمام الناس للتغيير، هناك جزء لا يمكن أن نتراجع عنه، وهي ثورة أجيال، وثورة الجيل الجديد على الجيل الكبير، الذي انهزم منذ عام 1967، وظل يجرّ الهزيمة 40 سنة، فهناك جيل جديد رافض الهزيمة ويتحداها، والثورة كانت جيل اليسار ضد اليسار القديم والإسلاميين ضد الإسلاميين، فقد كانت ثورة أجيال يُراهن عليها، ونجحت في فرض التغيير في لحظة ما، حين كان هذا الجيل الجديد هو المسيطر.
هل تقصد نجحت في دفع الأجيال للتغيير، ولكنها فشلت في تغيير سياسات الدولة؟
التغيير السياسي يأتي معه التغيير الاقتصادي والاجتماعي والطبقي، وإذا لم تتغير التركيبة الاجتماعية والسياسية والطبقية، فسيبقى الوضع ذاته، لكن ما حدث هو العكس، فقد ساء الوضع لأنه جاءت الثورة المضادة برغبة بالانتقام والتشويه، وجاءت بإدراك أمني سخيف حول كيف الثورة قامت وتحركت، فإذا كانت الثورة قامت عن طريق شباب فنعتقلهم ونقتلهم، أما إذا كان التيار الإسلامي طرف فيها ننسفه، وإن كانت الناس تناقش السياسة في المقاهي بوسط البلد والمكتبات الثقافية، فأغلقوها كلها، والناس حين تبادلت الآراء في موقع فيسبوك أصبح هناك مراقبة أمنيه كاملة عليه، ومن يضع “لايك” ندخله السجن باعتباره إرهابي. ولا ننسى أنّ فلسطين محرك رئيسي للثورة، لذلك عملوا على تشويه فلسطين ورموزها، واعتبارها عدوًا واخترعوا القصص حولها، مثل اقتحام حماس للحدود، وذلك كي يجرحوا الكرامة المصرية في العلاقة بفلسطين، ثم بناء تحالف مع إسرائيل برعاية غربية وباعتبارها الحامي من مد الحرية الفلسطيني.
وكان ذلك يتم تحت حجة محاربة الإرهاب والجماعات الجهادية؟
ليس بالضرورة، فلم تكن حماس فقط هي المستهدفة، لأنه حتى السلطة الوطنية الفاشلة والخائنة برأيي في رام الله، كانت غير مقبولة بمصر الرسمية ولا تزال غير مقبولة وكانت مصر تحاول استبدالها بمحمد دحلان. والسلطة الأخيرة في مصر منذ استلامها الحكم مدركة وتعمل على كون الفلسطيني عدو رئيسي لتحالفاتها الإقليمية المبنية على الإمارات وإسرائيل، والفلسطيني عدو رئيسي لأنه يعني الحرية والكرامة والمقاومة، وهذا يجب أن ينكسر في مصر.
تقصد أنه ازداد العداء نحو الفلسطيني بعد 2013؟
هذا التطور الطبيعي، وقد بدأ مع كامب ديفيد عام 1978، ووصلنا اليوم أن تحاصر غزة وقت الحرب ويستثمر في تجويعها واخضاعها ويضر أهلها لدفع رشاوي للخروج باتجاه مصر وحتى المصابين منهم، وهذا محصلة تعاون سياسي وأمني وعسكري مع إسرائيل ويستكمل بالتحريض العلني على مقاومة الشعب الفلسطيني، وقمع الفلسطينيين في مصر وسرقتهم وابتزازهم في كل تفاصيل حياتهم.
BDS مصر
وماذا عن ذكرياتك مع تأسيس “بي دي أس”BDS في مصر؟
حين أسسنا الـ BDS في مصر، أصبحت سريعًا أكبر تحالف لدعم فلسطين في مصر، وكان ذلك عام 2014، ولم يكن حينها تستطيع الأحزاب في الأجواء الأمنية حتى على ان تجتمع، بينما “بي دي أس” ضمت حوالي عشر أحزابٍ سياسية إضافة إلى المجموعات الثورية وكثير من منظمات المجتمع المدني، وآلاف من المصريين، وقد كانت الإطار السياسي التنسيقي الوحيد ما بين قوى المعارضة، في جمهورية مصر العربية.
وقررنا وقتها أن نقوم بتنظيم برنامج تدريب لأي عضو يريد أن يكون معنا وإلا لن يستطيع الانضمام لنا. وحين يسألني أحدهم لماذا التدريب وقد ينسحب أحدهم من الحركة بعد فترة، فكنت أرد على الأقل سيظل حاملًا هذه الأفكار، وهي التي نعلمها في التدريب على مدار أسبوع، ففي اليوم الأول يتمحور حول مائة عام من الاستعمار الغربي في المنطقة العربية، وذلك لفهم السياق العام، واليوم الثاني الحركة الصهيونية وما تركيبتها وطريقة تفكيرها، واليوم الثالث حول المقاومة الفلسطينية ومواجهتها الاحتلال، وهناك جيل كامل من المصريين لا يدرك أنّ المقاومة الفلسطينية بدأت منذ عشرينات القرن الماضي. أما اليوم الرابع يتركز على مصر وعلاقتها بالصراع والتبعية، واليوم الخامس عن ماهية الـ”بي دي أس”، وفي اليومين الأخيرين ورشة عمل تدريبية حول تنظيم المجتمع لإدارة الحملات، وتنتهي الورشة بأن يكتب كل مشارك ومشاركة مشروع يخدم الفكر السياسي والتنظيم المجتمعي لمشروع مقاطعة لإسرائيل. وهذا الكادر الذي تربى في بي دي اس إلى اليوم نشيط وجزء رئيسي منه يعتصم اليوم أمام نقابة الصحافيين والمنظمات الدولية، كما ينشط بأساليب مختلفة بما فيها المقاطعة.
وهل هذا الكادر سبب نجاح المقاطعة في مصر؟
ليس فقط هذا السبب، فمصر حاربت إسرائيل سنين طويلة، ولا توجد عائلة في مصر إلا وكان فيها شهيد من إحدى معارك أعوام 1948 و1956 و1967 و1973. رسوخ العداء في مصر لإسرائيل كان من منطلق ديني ووطني، وكل محاولات التطبيع أثرت على نسبة قليلة من المجتمع من أصحاب المال والمستفيدين من ذلك فقط، والمشكلة أن هذا العداء الطبيعي تجاه إسرائيل والتعاطف مع فلسطين، بدون وعي كاف، فستجدي الخطاب الشعبي نفسه منذ الستينات ولا يتابعون التغيرات التي تحدث في فلسطين أو تغير الأدوات في المقاومة، والحقيقة أن هذا كان بالنسبة لي خطر، لأن نقص الوعي يجعل من السهل التأثير على الناس، واستمالة مشاعرهم.
فقد رأيت مثلًا في الثمانينات حين كان وزير الزراعة يوسف والي يُرسل المهندسين الزراعيين للتدرب في إسرائيل، كنت أرى من المهندسين الذين كان لديهم عداء لإسرائيل، يعودوا لمصر بانبهار بالتكنولوجيا والنظافة، والملابس، فقد أثر عليهم ذلك وهزهم لأن العداء الطبيعي ليس مبنيًا على وعي. وكنت دائما أسخر منهم وأقول من قال إنّ عداءنا لإسرائيل لأنهم يلبسون القبيح أو لأنهم يبنون عماراتٍ خاطئة، أو بسبب إلقاء القاذورات بالشارع، فالعداء لإسرائيل ليس له علاقة بكلّ ذلك. مرة ثانية أكرر العاطفة ليست كافية وأن التضامن مع فلسطين لا يجب أن يكون بسبب كونها ضحية فقط، وهذا ما أقوله للفرنسيين مثلا، لأنه يجب الوعي بخطر المشروع الصهيوني، والتضامن مع فلسطين يجب أن يكون أيضا على ارضيه كونها مقاومة وليست فقط ضحية.
نعود إلى سبب ملاحقة النظام في مصر للـ “بي دي أس” على أراضيها. لماذا كان كل ذلك العداء؟
لأننا نقاطع إسرائيل و نبني كادر، فنحن نبني ونؤسس لعداوة الحليف الرئيسي للنظام، كما أننا نبني أداة للتنسيق المجتمعي المصري بعد ما قضى النظام على تركيبات الثورة. وبما أن “بي دي أس” مصر كان جزءًا من دورها الدعوة إلى مقاطعة الشركات الإسرائيلية وهي محدودة فلا يوجد كثير من المنتجات الإسرائيلية في مصر، لكن المهمة الأكبر كانت مقاطعة الشركات الدولية المتواطئة مع الاحتلال، وعددها كبير في مصر. ثم يأتي الدور الأهم وهو اكتشاف أشياء ذات طابع محلي مرتبطة بإسرائيل مثل عقد الغاز، وعقود أخرى مشابهة، لنكتشف أنه في كل مرة بحثنا خلف العقود الكبيرة والتي تربط مصر بإسرائيل، يكون الشريك المصري من ضباط الجيش والمخابرات، فهذه ليست فقط خيانة، بل فساد وترسيخ للفساد داخل مصر وداخل مؤسسات الدولة، وكان فضحه ليس فقط لعلاقته مع إسرائيل، بل أيضًا لتسرب الفساد داخل المؤسسات السيادية، ودائمًا أقول إنه هناك رابط يجمع كل المطبعين مع إسرائيل، فهم قامعين وحرامية، “باكج مع بعض”.
أورجانس فلسطين
والآن في فرنسا بعد عامين من استقرارك أنت أسست خلال هذه الحرب حراك “أورجانس فلسطين” فما هو باختصار؟
هو تحالف سياسي فرنسي، بدأ منذ السابع من أكتوبر، ولأول مرة في تاريخ فرنسا الحديث، حراك من أجل فلسطين، وقلبه فلسطيني وليس فرنسيًا، وهذا التحدي الرئيسي في فرنسا. منذ وفاة ياسر عرفات لا توجد قيادة فلسطينية ولذلك تتجرأ أحيانًا المؤسسات البيضاء أن تأخذ القرار عن الشعب الفلسطيني، كما أنّ معظم المؤسسات الفرنسية المساندة لفلسطين ليس فيها فلسطينيين. فكان بناء حركة “أورجانس”، وبدأ تشكيلها قبل سنة فعليًا، بهدف توحيد الرؤية والمطلب الفلسطيني والاشتباك مع الوضع السياسي في فلسطين وتتبنى نهج المقاومة، والأهم أن نبني فوق هذا التكتل الفلسطيني تحالف فرنسي وتضامن مبني على المركزية الفلسطينية.
وهل يمكن كحراك التدخل في القرار الفرنسي الذي يخص فلسطين؟
ممكن التأثير على فرنسا على الأقل المتضامنة مع فلسطين، فيكون تضامنها على أساس احتياجات وأهداف الشعب الفلسطيني، وحراك “أورجانس” يُدير معظم المظاهرات في فرنسا، ويكبر خارج باريس، وليس فقط في داخلها، وقد أصبح لدينا عشرون فرعًا في مختلف المدن منها تولوز، ومرسيليا وليون. وكان التركيز في البداية على أن يكبر العدد، بينما الآن نركّز على التنظيم والبناء داخل الحراك، وهناك كثير من الفرنسيين معنا في مدنٍ كثيرة، لكن القرار مركزي فلسطيني، وبدأنا في كتابة بياننا السياسي التأسيسي وسيعتمد قريبا من برلمان الحركة.
والفكرة وضع رؤانا وأفكارنا وروايتنا كفلسطينيين في قلب التضامن مع فلسطين، وبدأ يأتينا اهتمام سياسي من الأحزاب الفرنسية وبالذات اليسار، وهناك محاولات لاستقطابنا. وأذكر منذ فترة قمنا بندوة عن فلسطين في واحدة من المدن الفرنسية، جاء لحضورها أكثر من ألف وسبعمائة شخص، وكان هناك استغراب من المسؤولين في المدينة من قدرتنا على الحشد، وأذكر وقتها قال رئيس البلدية إنه منذ سنوات لم يدخل هذا العدد الى القاعات التابعة للبلدية، لكن أيضاً هناك هجمة عنيفة علينا من البرلمان والدولة والصهاينة، ودائمًا أردد متل ما كنت أقول في أيام السجن وقبل السجن بمصر، إنه لما أقعد شهور من غير شتيمة وهجوم من الإعلام المصري أشعر بالقلق، فدائمًا تنشتم من العدو يعني بتنجز وتؤثر.
أختلف مع والدي لكن طبعا لا أخوّنه
ألا تشعر على الدوام وجود مقارنات في أذهان الناس بين مسيرتك ومسيرة والدك د. نبيل شعث والتناقضات بينهما؟
لا أشعر هناك تناقض، فلا يجب أن يكبر الابن على توجهات أهله الفكرية والسياسية. يجب على الناس إدراك اختلاف الزمن والتركيبة السياسية والفكرية، ولا أنكر أنّ هناك خونة في السلطة الوطنية الفلسطينية، لكني لست مع تخوين كل خط أوسلو. على سبيل المثال حين حدثت اتفاقية أوسلو عام 1993 اختلفت مع الوالد، كما اختلفت مع كل القيادة، واستمر الاختلاف بعد ذلك حول أداء السلطة لكن طبعا لا أخوّنه، ولا أخوّن هذا الخط السياسي، الخونة من أضعفوا مقاومتنا، وسلموا الناشطين ونسقوا أمنيًا وسرقوا أموال الشعب وللأسف فهم كثر اليوم في مؤسسة السلطة، وبالطبع كنت من الناس التي جن جنونها حين تم توقيع أوسلو.
هل دخلت في جدال مع والدك؟
ليس فقط والدي، بل دخلت في نقاش مع أبو عمار، وكنت وقتها شاب وناشط ومعروف في التركيبة السياسية، وأتذكر وقتها أن تبرير ذلك في النقاشات الحاصلة، كان يذهب في اتجاهين؛ الأول أن انهيار الاتحاد السوفيتي وحرب العراق التي أدت لانهيار العراق و الكويت، وانهار معهما التوازن الدولي والاقليمي، فأمريكا فرضت هيمنتها على المنطقة باحتلال العراق بحجة أنّ صدام هاجم الكويت وفرضوا بالسلاح كونهم “السوبر باور” بالمنطقة، و مع اختلال الموازين حدث استهداف كبير بين عامي 1991 و1993 عربي وعالمي للفلسطينيين والناشطين في القضية، فتم اعتقال كوادرنا من كل مكان بالعالم في محاولة لإنهاء وجودنا السياسي و المقاوم.
وكان يوجد رغبة أمريكية في تدمير منظمة التحرير وتماهي عربي مع تلك الرغبة، فالاتهام الباطل لمنظمة التحرير بدعم صدام حسين، هدفه التخلص من الاثنين بضربةٍ واحدة صدام والمنظمة معًا، وعلى الرغم من أنّ موقف منظمة التحرير من صدام حسين كان متوازن ويطالب بالانسحاب من الكويت وفي الوقت نفسه رافض للتدخل الأميركي، إلا أن محاولات تشويهه كانت جزء من استراتيجية أوسع. وفي المقابل موقف الملك حسين وقتها كان أقرب إلى صدام من منظمة التحرير لكن الملك حسين لم يحاسبه أحد كما فعلوا مع منظمة التحرير والفلسطينيين، وأصبح هناك وضع صعب تواجهه فلسطين في القدرة على استمرار مقاومتها، خاصة أنّ القيادة الفلسطينية جميعها كانت خارج فلسطين وقتها، وترحل من بلد إلى بلد بعد ترك لبنان.
بالطبع لا أزال مؤمن بمنظمة التحرير ودورها، واعتبرها إطار وطني ورافض لشخوصها، ولتركيبتها الحالية، وللضعف الذي اوصلها له أبو مازن، فهؤلاء احتلال جاء إلى الوطن بعد اغتيال أبو عمار في 2004، فقد احتل العدو الضفة الغربية بعد الحصار والاغتيال، وأتوا بمحمود عباس ومعه دحلان تحت إدارة إسرائيلية أميركية على رأسها المندوب الأمريكي دايتون ، بهدف خلق سلطة فلسطينية جديدة تلتزم بالتنسيق الأمني وتقمع الحراك الفلسطيني.
ويجب أن يعرف الناس أنّ السلطة الحالية تم احتلالها بالقوة العسكرية، وهذا ليس التطور الطبيعي لمنظمة التحرير، والتي بالطبع كان لها أخطاء، ولكن كانت ضمن الإطار الوطني، حتى وفاة ياسر عرفات (بما له و ما عليه) وبعدها انتهى العهد الوطني للمؤسسة الرسمية الفلسطينية، وأصبحت مؤسسة محتلة تتبع الاحتلال الإسرائيلي وليست مؤسسة وطنية، كما لا تعبّر عن الشعب الفلسطيني، ومن المهم الانتباه إلى هذا الفارق.
وهل هذا يعني أن ياسر عرفات بريء من هذه الشخوص؟ ألم تأتِ معه في اتفاق أوسلو؟
لا شك أنّ أبو عمار أخطـأ بالكثير من الأشياء، وأذكر تشاجرت معه لهذا السبب، وتركته عام 1998، لكن لا أخوّنه ولم أخوّنه وقتها، أعرف أبو عمار من الداخل، ومتأكد من بوصلته الوطنية، وأعرف تمسكه بثوابت فلسطينية وأعرف محاولته إعادة إحياء الكفاح المسلح بعد عام 2000 لمواجهة رفض العدو حل الدولتين. لكن بعد عام 2003 فالمؤسسة غدت تتحرك في إطار المسموح لها وتقمع الشعب الفلسطيني، وتضعف تحالفاته الدولية، وترسخ تبعية اقتصاده لاقتصاد العدو، وفقدت العلاقة بشكل كامل بـ ٩ مليون فلسطيني من اللاجئين في الخارج ودعمت التطبيع العربي الذي يأكل حقوقنا ويضعف موقفنا ودعمت الانقسام ولعبت عليه، ونسقت أمنيًا مع الاحتلال ضد حقوق شعبنا، وضربت المقاومة الفلسطينية بل ضربت العمل الشعبي الفلسطيني حتى أنها تعادي “البي دي أس” ومؤسسات الفكر والتراث الثقافي الفلسطيني التي كانت تحافظ على الهوية، والحقيقة أن ما عملته السلطة ومنظمة التحرير منذ 2004 بقيادة أبو مازن وجماعته من أمثال ماجد فرج ودحلان وحسين الشيخ هو احتلال للمؤسسة، لقد تعاملوا مع الشعب الفلسطيني بمنطق كونهم احتلال إسرائيلي.
والآن يتحقق ذلك بسكوت محمود عباس عمّا يحدث بغزة من إبادة؟
طبعا إنه يلعب الدور المطلوب منه، سواء في 2014 أو الحروب التي تلت ذلك العام. وقد قضيت كل الحروب بغزة، حتى لو أنني لا أعيش هناك، ففي أي حرب تبدأ، أكون في غزة في اليوم الثاني، ما عدا هذه الحرب، والحرب في عام 2021 كنت بالسجن بمصر. فهذه ثاني حرب لا أكون موجودًا فيها على الأرض بغزة، وهذا أوجعني كثيرًا.
وأذكر حين بدأت الحرب في 2014، خرجنا قافلة فيها أكثر من 600 ناشط من مصر، واتجهنا إلى غزة، وطبعا كان السيسي تسلم الحكم، وصدرت أوامر بمحاصرتنا بالدبابات، وصارت معارك بيننا وبين الجيش، ولم نستطع أن نمر إلى غزة، وبقينا في شجار لمدة 10 ساعات بالصحراء، والركض والاعتقال إلى أن عدنا، وأنا خرجت في اليوم التالي من مصر إلى عمان ومن عمان إلى رام الله ومن هناك دخلت غزة، فلا أستطيع ان أكون خارج غزة وقت الحرب.
وكنت وحدي، وكان هناك قلق من بعض الأصدقاء من موقف حماس مني، وقد كنت أرد عليهم، صحيح ما عندي علاقات بحماس، لكن ما عندي علاقات سيئة أيضًا، وبقيت بعد الحرب، وأذكر أن بعض المنتمين لجهاز شرطة حماس التقطوا صورًا معي في الشارع. وحين كنت في رام الله وقتها أستعد للذهاب إلى غزة، كان أبو مازن يجتمع مع اللجنة المركزية واللجنة التنفيذية ورئاسة الوزراء، وجاءت خطبته كاملة حول كون ضرب إسرائيل لحماس فرصة للسلطة للعودة إلى قطاع غزة، هذا الخطاب وهذه النوايا خيانة فالقدوم على دبابة إسرائيلية على دم شعبنا تماهي مع المحتل.
غلطة أبو عمار
هل حضرت جنازة أبو عمار؟
حضرت جنازة أبو عمار حين مرّت بمصر، وخرجنا بالجثمان إلى رام الله، ولم أكن بطائرة الهليكوبتر، ولكن لحقتها، وقد كنت في الهليكوبتر حين خرج إلى الأردن للعلاج، وكانت علاقتي حميمة مع أبو عمار، فأنا دائما الشخص الذي يؤدي له المهام والأدوار التي لا يريدها أن تكون ظاهرة. وأذكر في مشاجراتي معه أنني كنت أشير له إلى فلان وأقول “هذا جاسوس إسرائيلي وهذا جاسوس الأردنيين وذلك جاسوس المصريين”، وأسأله لماذا تبقيهم بالمؤسسة؟ وكانت نظريته “خلي عدوك قريب منك بدل ما يكون بعيد”، وحذرته أنّ عدوك في لحظة ما سيأكلك، ويصبح هو المؤسسة وطبعًا أبو عمار كان قادرًا على أن يحافظ على التوازن، ولكن حين قُتل لم يستطع أحد ذلك، وللأسف أصبحوا هؤلاء المؤسسة فيما بعد.
يعني الغلطة ذاتها التي ارتكبها بعده بسنوات الرئيس المصري الراحل محمد مرسي حين وضع أعداءه قربه، لكن الفارق أنه لم يكن يعرف أنهم أعداؤه؟
مرسي كان كما الإخوان خفيفون وضعيفون في الخبرة السياسيًة ، لكن أبو عمار ليس كذلك بل كان مدرك للقضية الفلسطينية، وصعوبتها، وأنّ عليه دوما الحذر، وكان يحب إدارة المناطق الرمادية فكان كل الناس حوله رمادي، ولا يوجد أبيض وأسود وهو بالفعل قادر على قيادة المناطق الرمادية واستخدامها لصالحه، ومثال على ذلك أن سلطته أجبرت ألّا يقوم بتمويل أي شيء خارج فلسطين، فقد كان هناك رقابة على التمويل من صندوق النقد والأمريكان، وبالتالي فتح أبو عمار باب الفساد المؤسسي كي يموّل المخيمات في لبنان أو سوريا أو يأتي بسلاح ويموّل المكاتب الرسمية في الخارج، وبالتالي كان مضطرًا بالسماح بمناطق رمادي حتى يستطيع الاستمرار في النضال الفلسطيني.
خطأ أم ذكاء؟
من جهة ذكاء للهروب من التضييق عليه، وخطأ لأنه لم يستطع أن يضع الفساد في حجمه وضمن إطار مسيطر عليه، مما سمح لكل المؤسسة أن تتحول لهذا الفساد بعد مقتله، وفي عام 1998 حين تشاجرنا، كان هذا سبب رئيسي خلافنا، وبعثت له رسالة، وتوقعت بالرسالة أنه خلال سنتين ستبدأ حرب مع إسرائيل، وسيسفح الدم الفلسطيني، ونحن لسنا جاهزين. وفي عام 2000 بدأ يدرك ذلك، ولكن كان الأوان تأخر.
وأتذكر أنه كنا نحن الشباب الاكثر ثورية اتفقنا مع أبو عمار أنّ لاتفاقية أوسلو هدفين؛ أولًا نرجع أكبر قدر من الفلسطينيين إلى فلسطين، وفعلا نجحنا ورجعنا ثلاثة أرباع مليون إلى مليون فلسطيني، والثاني أن نرجع القيادات والقوات إلى الداخل وبالتالي لما نستعد للمعركة القادمة نكون على الأرض في المواجهة، ولسنا بعيدين في تونس والجزائر واليمن. الهدف الأول تحقق، والثاني لم يتحقق، وغرق الكثير من أعضاء السلطة في الانبهار بـ “الأرمادا” الإسرائيلية وبالفساد، وأنا لم أكن قادر على التحمل، خاصة حين أرى الـ “vip” من رجالات السلطة الوطنية وعائلاتهم يذهبون إلى إسرائيل للتسوق، وصارت الأخيرة هي متحكمة في تكوين النخب سياسيًا واقتصاديًا في فلسطين عن طريق التحكم في رخص الاستيراد و التصدير أو عن طريق من يسمح له بالحركة و السفر إلى درجة صارت مؤسسة فساد سياسي، وليس فقط فساد مالي.
وهل لذلك عرفات موّل الانتفاضة الثانية؟
صحيح، فقد أدرك تلاعب إسرائيل وأمريكا بحل الدولتين، وخصوصًا بعد مرور الأعوام الخمسة للمرحلة الانتقالية إذ بات مدركا لضرورة مقاومة مشروعهم وما أصبحناه على الأرض، وهذا شيء كنت مطلعًا عليه، وأعرف تفاصيله، وكل سلاح التنظيمات كان من ياسر عرفات وبتعليمات منه، حتى استيراد السلاح من الإيرانيين كان بقرار منه، كما قلت لك، لم أشك في بوصلته الوطنية، لكنه للأسف تحرك متأخر جدا كي يضع حدًا للفساد، وأن يعيد بناء العمل المقاوم وحين فعل ذلك حكموا عليه بالإعدام.
في هذه المراحل كيف كانت علاقتك بوالدك؟
علاقتي به كانت جيدة دائما ، وطوال عمري أقدره وأحبه، ونتخانق سياسيًا دائمًا، لكن جدًا أقدّره، وأدرك سياسيًا وفكريًا أن رؤيته الوطنية إصلاحية، ولَومي الرئيسي له على مرحلة ما بعد عرفات، وهذه سببت خلافًا ضخمًا بيننا، وما كنت أتخيل أنه سيستمر في هذه المؤسسة، لكن هذا لا يمنع أنني سأظل طوال عمري أحترمه وأقدره، ولا يزال محبوبًا شعبيا و نظيف اليد ، وأنا أدرك الأخطاء التي ارتكبها في الحكم على الأمور، والتي جاءت من منطلق وطني وإصلاحي للمرحلة، معتقدًا أنه يستطيع التغيير من داخل المؤسسة كما فعل في عهد عرفات ولم يدرك التغيير العميق الذي حدث في المؤسسة.
وأعيب على كل جيله ما ورثناه من هذه المؤسسة، وأتذكر أنه في شبابه، كان يتشاجر على حق الجيل التالي في استلام القيادة، وأن الجيل الكبير يجب أن يعطي الجيل الشاب القيادة، وكانوا وقتها يسخرون من هذا وذاك من القادة كبار السن، لكنهم حين تقدموا بالسن ارتكبوا الأخطاء نفسها.
لكن الآن أنت وصلت إلى الخمسينات ألا تشعر أنك تفهمه أكثر؟
أكيد وهذا العمر الذي تنضج به سياسيًا وفكريًا، ويصبح عندك تراكم، لكن بعد الستين والخمسة والستين تحديدًا تتراجع القدرات، لذلك كل حكام العالم الناجحين ما بين ٤٠و ٦٠ عامًا، لكن ليس بعد الستينات فهنا يأتي سن التقاعد. وتخيلي مؤسسة ما تسمى بالسلطة الفلسطينية وتمثل شعبًا فلسطينيًا يناضل من أجل مشروع تحرر وطني، وأكثر من نصف سكانه من جيل الشباب، يحكمهم قادة فوق عمر الـ 85 عامًا.