الحديث مع رامي شعث، كأنك دخلت آلة الزمن، ليس لأنه يعقد مقارنات تاريخية طوال الوقت فقط، بل أيضًا بسببه هو نفسه؛ بمبادئه وأفكاره الثابتة وحماسه المتقد للمستقبل، تشعر أنه قادم من وقت آخر، زمن الأمل البعيد، الذي انتهى عند ميادين الربيع العربي، قبل أن يحكم على ذاك الجيل إما بالاغتراب، أو الاعتقال، أو القتل، في الجزء الثاني من مقابلة شعث، يطول الحديث عن حماس وخيار المواجهة في 7 أكتوبر. وكيف يندمج اليوم في فرنسا وعقله وقلبه في مدينة أخرى تُباد، ويحارب من أجلها كالعادة، لكن هذه المرة التقاليد الأوروبية في التضامن مع فلسطين، أو كما يحب أن يسميه بالفرنسية Contexte، ولا توجد كلمة متنصلة ومتلونة وأفعوانية كما هذه الكلمة “السياق”. هذا الجزء الثاني من مقابلة جزؤها الأول هنا…
غزة وحيدة
هل تعتقد أن غزة تركت وحيدة الآن؟
نعم والسبب الخيانة. في 2003 بعد استلام أبو مازن تم تطهير المؤسسة من الخط الوطني، أي أحد له رأي وتاريخ وطنيين، وله دور يُقصى على الفور، ثم أغرقونا بشيء قذر اسمه حكومة تكنوقراط، وكل يوم يعودون للتحدث عن حكومة التكنوقراط، وكأنه مشكلة فلسطين مشكلة في الزراعة أو الصناعة أو تركيبة الميزانية المالية، لكن المشكلة كونها معركة تحرير، فالحاجة إلى حكومة سياسية بمشروع تحرر وطني وليست حكومة تكنوقراط لإدارة الصرف الصحي، وعبر نفس هذا النهج صار إضعاف للمؤسسة ومن ثم للمجتمع، خاصة في الضفة الغربية فقد أغرقت بالعاملين بالسلطة ورواتب وقروض يجب دفعها من هذه الرواتب، وذلك بقرار مركزي، وحتى العمال في إسرائيل عرض عليهم قروض بعشرات أضعاف رواتبهم إذا حولوا تلك الرواتب إلى البنك، وطبعا خلال العشر سنين الماضية، أصبح كل شخص في السلطة مديون للبنوك بعد أن اشترى بيتاً أو سيارة.
بل الأسوأ من ذلك أنه حين بدأ وقتها نقاش قرار الاعتراف بدولة فلسطين، ورغم محدودية أهميته على مستوى التنفيذ، لكن له دلالة كبيرة وطنيًا، عرفت وقتها من داخل المؤسسة أنّ المئات ضغطوا على محمود عباس “سيبك من الدولة الفلسطينية” وذلك لأن الأمريكان كانوا يهددون بقطع الرواتب، وكان الخوف الأكبر لديهم الطرد من بيوتهم وسحب سياراتهم وليس الاعتراف بفلسطين من عدمه. فإغراق الناس بالديون كان قرارًا سياسيًا، لاستخدامها في ابتزازهم، وتحويل المناضل لموظف يأخذ راتب وقروض، وبالتالي يبقى خاضع ومبتز.
وهل سير الأحداث بالطريقة هذه أدى اليوم أنه لا يوجد بالضفة من يتحرك من أجل غزة؟
لا. غير صحيح، المدن ممتلئة برموز مقاومة ونقاط مقاومة، كل المدن فيها مقاومة.
أقصد رام الله تحديدًا؟
رام الله ليست هي الضفة الغربية، رام الله هي فقاعة من السلطة والمال المرتبطة بالقرار السياسي، اتركي رام الله، وأنظري إلى الناس بنابلس والخليل وطولكرم وجنين، وليس فقط المقاومين، بل مجتمع كامل يقاوم. والحقيقة أنّ اختصار الضفة بالفقاعة غير الممثلة لفلسطين وهي رام الله التي خلقها الأمريكان وصندوق النقد الدولي، ومعها طبقة من الموظفين الذين لديهم السلطة والأعمال هي فقاعة مصطنعة، لا تعبر عن فلسطين.
الموقف الأوروبي والفرنسي
هل توقعت الموقف الأوروبي الرسمي من الحرب على قطاع غزة؟
بالتأكيد. فإن إسرائيل مشروع غربي قبل أي شي آخر، وقد بدأ فرنسي بريطاني، ثم ورثت الإمبراطورية الأمريكية قيادة العالم الغربي، وبالتالي أصبح مشروعًا أمريكيًا، والمفاجئ كان ليس الموقف، ففي الأخير هذه الدول موقفها عدائي، وداعم لإسرائيل وبقائها وسيطرتها وهيمنتها باعتبار دولة الاحتلال ليست فقط مشروعًا استعماريًا في فلسطين، بل لها دور وظيفي في الهيمنة على الشرق الأوسط، وبالتالي ضمان سيطرة الغرب على البترول والخامات وجميع موارد النمو الحضاري بأشكال مختلفة، لذلك لم أتفاجأ بالدعم الغربي لإسرائيل. المفاجأة حدثت حين أحس هذا الغرب في السابع من أكتوبر أن إسرائيل وقعت، فالحادثة أظهرت فجوة ضخمة جدًا حول صورة إسرائيل وإمكانياتها وقدراتها على الهيمنة والسيطرة، كذلك حول الجيش الإسرائيلي وصورته، وقدرته على السيطرة، وحين وقعت إسرائيل، جاءت هذه العلنية في الانحياز الفاجر، والذي نتج عن مدى خوفهم من انهيار المشروع. وسابقا وفي اللحظات التي كان فيها هذا المشروع الإجرامي يقتل الشعب الفلسطيني، كان ممكن للأوروبيين أخذ خطوة للوراء أو يقولوا لا، لكن حين شعروا أنّ إسرائيل التي يتم ضربها، شحذوا كل الهمم في معركة إخضاع للعالم العربي، وكسره وليس فقط الفلسطيني ومقاومته.
وفرنسا؟
فرنسا فيها شيئين آخرين بالإضافة لما سبق، أولًا لفرنسا تاريخ من العنصرية والإسلاموفوبيا، والمبني منذ الإمبراطور شارلمان على اعتقاد كون الفرنسيين هم من أوقفوا المد الإسلامي وقادوا بعد ذلك الحروب الصليبية والغزو النابليوني إلى العالم العربي، لذلك دائمًا توجد هذه الأحقاد على العالم العربي والإسلامي، واعتقادهم أنه هذا هو المنافس الحضاري وبالتالي يجب السيطرة عليه. والشيء الثاني أن فرنسا في آخر 15 سنة، بدءًا من ساركوزي أصبحت دولة غير مستقلة، وإلى حد ما هي غير مستقلة منذ الحرب العالمية الثانية، لكن فرنسا خلال آخر 15 سنة الأخيرة الماضية، باعت قطاعاتٍ رئيسية عسكرية وبحثية إلى أمريكا ومؤسسات تمويل فيها، وبالتالي أصبح قرارها السيادي والاقتصادي إلى حد كبير تابع للقرار الأميركي. وما بين دعم المشروع الصهيوني والكراهية والصراع الحضاري مع العالم العربي والإسلامي وما بين التبعية للمعلم الأمريكي لم أستغرب ذلك.
لكن الشعوب تختلف أليس كذلك…؟
نعم طبعا. أتحدث عن فرنسا الرسمية اليمينية العنصرية الرأسمالية، كالمؤسسة الحاكمة ومجتمع المصالح والأعمال، وفي النهاية فرنسا مثل كل العالم، فيها شعب متنوع بلا شك، والكثير منه مدرك للحق الفلسطيني. واليوم هناك عشرات الآلاف يتظاهرون في كل مكان بفرنسا ويعبرون عن رأيهم، وللأسف أقل من بريطانيا وأمريكا وهذا بسبب المركزية في فرنسا التي لا تسمح بحرية الرأي والتعبير. ودعيني أقول، مفاجأتي الحقيقية في فرنسا ليس موقفها الإمبريالي من فلسطين وليس دعمها المطلق لمشروع إسرائيل، بل المفاجأة هذا التمدد للفاشية وأنه في اللحظة التي توسعت في دعم الإمبريالية في فلسطين توسعت في قمع شعبها والكذب عليه في إدارة إعلامه، وقمع الناشطين ومنع المظاهرات وتهديد أحزاب بالحل؛ من أجل توقيعهم أو نشرهم بيان يدعم فلسطين، كما اتهمت الناس بدعم الإرهاب، وهي ذاتها تهمة النظام الرسمي المصري بالانضمام لجماعة إرهابية وعلى أساسها تم اعتقال 70 ألف معارض في مصر وقمع حرية الرأي والتعبير، وهناك ناشطون في فرنسا بعد ملاحقات انتهى بهم الأمر في المحاكم وأمام القضاة حيث تم سؤالهم عن آرائهم، وهو الأمر المخالف أصلًا لمبدأ القانون أنك لا تحاكم الناس على رأيها بل بسبب أفعالها.
اليوم المحاكمات في فرنسا تنطبق عليها نظرية محاكم التفتيش العنصرية في قمع الفكر والرأي والإعلام، وخلال سنتي الأولى في فرنسا بعد الخروج من المعتقل عملت على الأقل 200 مقابلة، ومنهم صفحتين في الجرائد الرئيسية، ومنذ السابع من أكتوبر لم تتصل بي أي وسيلة إعلامية فرنسية واحدة، على الرغم من كوني أجري لقاءات الآن في كل العالم، إلا فرنسا. هذه المركزية والتابو لا نراه في أي بلدٍ آخر، وليس موجوداً حتى بالإعلام البريطاني أو الأمريكي، لأنه على الأقل رغم حقارته إلا أنه يعرض كل الآراء، لكن هنا في فرنسا تجدي طاولة نقاش كاملة عن فلسطين، ويجلس حولها خمسة صهاينة، طيب واحد على الأقل خارج السرب كي يسمع المجتمع رأي آخر، يكاد يكون ذلك مستحيلًا.
ألم تفعل وسائل التواصل الاجتماعي الفارق الأكبر هنا، ولم يعد أحد ينظر إلى الإعلام الرسمي؟
صحيح دون شك، ولكني أتحدث عن مفاجأتي في فرنسا من حجم القمع والفاشية، والتعدي على القانون داخلها، وقلت في لقاءٍ قريب معي لا فارق بين مصر السيسي والحكم في فرنسا، هي نفس الطريقة في إرهاب الناس عبر تهديد المؤسسات وقمع المظاهرات ومنع حرية التعبير وتحريم ارتداء الكوفية. وعدم وجود رؤيا واستراتيجية في فرنسا جعلها قابلة للتبعية الكاملة للأمريكان، وعدم إدراك لمصالح فرنسا الرئيسة، ما جعلها اليوم بهذا الضعف. أنا أتذكر فرنسا وقت فترتي رئاسة ميتران وشيراك، إذ كان لديها قدر من الاستقلال السياسي وتميزه رغم وجودها ضمن الميراث الإمبريالي، أما الآن انتهى كل ذلك والآن هي ضعيفة وبلا رؤية وتابعة.
إذن كيف ستكون مآلات التضامن الشعبي الأوروبي؟
“يفضل رامي هنا، تدخين سيجارة سريعًا في جو ربيعي ولسعة برد على باب المقهى، ويعود متذكرًا السؤال بالطبع”.
أنا دائمًا أقول للناس حولي في فعاليات التضامن مع فلسطين، إنّ التضامن مهم ومؤثر، لكن يجب أن ندرك أن هذا غير قادر على وقف المجزرة لأن المؤامرة على ذبح فلسطين أكبر من هذه القدرة. وأرى أيضًا أنه من الجريمة استمرار الناس في المظاهرات والغضب في وقت المذبحة كالعادة ثم تعود إلى بيوتها عندما تقف المجزرة، الأساس أن نقوم بتحويل هذا التضامن إلى عملٍ مؤسسي ومستمر وقادر على تغيير المعادلة على المدى الطويل. معركتنا في فلسطين ليست معركة اليوم وستنتهي غدًا، هي لا تزال معركة مستمرة وطويلة لتحرير كامل التراب الفلسطيني، وهذا التضامن كله من المهم أن يستمر ويتحول إلى مؤسسة قادرة على تغيير الرواية ومن ثم التغيير السياسي.
الشيء المهم الأخير في هذه النقطة، أنه لم يعد مقبولًا أنّ يكون التضامن مع فلسطين عبارة عن تضامن مع ضحية، مفهوم بالجانب الإنساني وبدون شك إننا ضحية لإسرائيل، لكن يجب أن يكون أيضًا تضامناً مبنياً على دعم المقاومة وتحرير الأرض. وما عاد مقبولًا استمرار أن نقع في شروط ما يسمى بـ السياق الفرنسي، وأنا مصمم دائمًا على كسر السياق الفرنسي وهو الصندوق المحبوسين فيه كرأي وفكر لأننا في فرنسا، لذلك “طز” بشروط هذا السياق، فعلى سبيل المثال لا يجب أن نربط التضامن بتبرئة أنفسنا من اللاسامية أو الوجود اليهودي، أو الاعتراف بالهولوكوست، هذه جرائم أوروبية بحق اليهود، على أوروبا دفع ثمنها ونحن غير مضطرين أن نأخذها بعين الاعتبار وبناءً عليها نبني شرعية مطالبنا. وعن نفسي كنت أرفض المؤتمرات رغم أنّ لي الكثير من الأصدقاء اليهود المعاديين للصهيونية وهم متحالفين معنا في حراك “أورجانس” وأقدرهم جدًا، ولكني أرفض أن يكون لزاما علينا (كما في السياق الفرنسي) في كل مؤتمر وكل ندوة أن يتحدث فيها يهودي كي يقول لنا “احنا مش ضد السامية”. لأن شرعيتنا قادمة من نضال شعبنا، وهذا السياق يجب أن يتغير في فرنسا، وكي يتغير يجب أن يكون هناك عمل منظم ومؤسساتي، وليس فقط غضب هنا ومظاهرة هناك.
أخيرًا هناك 7 مليون عربي ومسلم يسكنون بفرنسا غير مفعلين وتعرضوا لقمع أمني مستمر منذ ساركوزي إلى جانب قوانين إفقار وترهيب، واللعب في ورقهم وقدرتهم على البقاء وتشكيك في هويتهم وجنسيتهم وبالتالي تقوقعوا على نفسهم، إنه من المهم إعادة بناء هذا الإطار الأوسع. ولا ننسى أنّ هناك يسار فرنسي مؤسساتي خدع الناس في فرنسا سنين طويلة بالادّعاء أنه يسار حقيقي وضد الإمبريالية والعنصرية وهو كذب، فاليسار المؤسساتي في هذه البلد كاملة هو جزء من الرؤية الإمبريالية، هو يسار الإمبريالية وليس يسار حقيقي وعلينا الضغط عليه لتغيير روايته وبناء علاقتنا مع قواعده الشعبية، وأعتبر هناك يسار جديد من الشباب الرافض بشكلٍ كامل لإسرائيل ولا يشترط علينا القبول بها كجزء من الحل، وهذا اليسار الجديد عليه أن يكون جزءًا من خطاب اليسار الفرنسي.
مستقبل غزة وصورة إسرائيل
أول ما بدأنا الحديث قلت لي عبارة “مستقبل غزة سيكون أفضل”، مع إني أرى حاضرها دائمًا أفضل من مستقبلها، والآن حاضرها إبادة لا يمكنني تخيل كيف سيكون مستقبلها، فلماذا ترى أنت العكس؟
لا توجد لحظة أصابني شك بعدالة قضيتنا ولا نهايتها المحتومة بتحرير كامل أرضنا، وهذا ليس فقط تفاؤل ثوري، فأنا لدي خلفية بحثية في العلوم الاستراتيجية، لننظر على سبيل المثال إلى العامل الديمغرافي، فالعالم الذي جرب المستوطنات أو إحلال سكان بدل سكان، تركزت تجربته في ثلاث مناطق أساسية من العالم في الأمريكتين، وأستراليا، وجنوب أفريقيا، وفي الأول والثاني نجح الاستعمار الإحلالي لأنه تم إبادة الشعب الأصلي في أقذر مجازر التاريخ، وفشل في جنوب أفريقيا لأن المجتمع الاستعماري هناك كان يحتاج السود كي يستعبدهم ويشغلهم في مصانعه وشركاته وحقوله، وهذا أبقى أربعين مليون مواطن أصلي أسود في مواجهة 5 مليون عنصري أبيض وبالتالي كانت النتيجة حتمية لانتصار وإعادة السيطرة للسود، أما في فلسطين فشلت إسرائيل عبر قرن من الزمان في تغيير الواقع الديمغرافي على الرغم من كل المجازر والمذابح بفلسطين. ومنذ نوفمبر 2021 تساوت أعداد العرب الفلسطينيين واليهود في فلسطين التاريخية لأول مرة منذ عام 1948، وقد وصل إلى 6,9 ملايين نسمة لكل طرف، فالمستقبل تقرر أنه سيكون فلسطيني، فالأعداد في زيادة سواء بسبب هجرة المحتلين أو زيادة المواليد بين الفلسطينيين.
وماذا بالنسبة إلى الإبادة في قطاع غزة، والعدد المهول للشهداء؟
ما أقوله يفسر الإبادة من هذا المنطلق، فإسرائيل أدركت أنها ذاهبة اتجاه معركة منتهية مهما طالت مدتها وهي تخسر فيها، ومحاولة الإبادة مفهومة في النظرية الصهيونية والتحدي الديمغرافي، واحتلال الأرض أيضًا، لكن دعيني أقول لك بأن هناك أسباب أخرى، فإسرائيل لديها عدة أدوار، أهمها دور رئيسي باعتبارها المهيمنة والأقوى عسكريًا وأمنيًا وتكنولوجيًا واقتصاديًا، وقادرة على فرض الهيمنة لخدمة مصالح الغرب، وهي قطب يجذب له التبعية العربية من حكام يلجؤون إلى إسرائيل للحماية، ولكن قدرة إسرائيل على الحماية وأسطورتها الأمنية انتهت خلال الأشهر الماضية، بعد أن استطاع 1200 مقاتل فلسطيني على رغم من حصار 17 سنة، أن يقضوا على جيش غزة ويعتقلوا الألوية، وجزء رئيسي من إبادة اليوم هي محاولة تغيير الحالة الذهنية للمواطن الفلسطيني والعربي، كي يتذكر أشلاء الأطفال والسيدات والبيوت المهدمة وينسى الجنرال الذي جرّ بلباسه الداخلي، وضابط الشاباك الذي اختبأ تحت السرير، والجنود الذين بكوا مستسلمين. انتهت أسطورة إسرائيل المهيمنة ومعها قدرتها الاستراتيجية على فرض الردع، وهي بداية نهاية المشروع ككل.
لكن إسرائيل لا تريد أن ينسى الناس ما حدث لها في 7 أكتوبر من ضحايا وقتلى؟
دائما لعبت إسرائيل الدورين، دور ضحية النازي والآن “ضحية الإرهاب” لتستخدمها في بناء الرواية وجذب التعاطف والابتزاز السياسي، ولكن أيضا هناك دور القوى والبلطجي والمهيمن لأنه أساس تجمع اليهود في هذا الكيان وأساس دوره الوظيفي في المنطقة. إن الفشل المتراكم عبر الـ8 شهور الماضية في فرض التهجير أو حتى في الانتصار على الأرض وإخراج الاسرى جعل إسرائيل تفقد قدرتها على الحفاظ على الرواية. والآن لا يفرق مع إسرائيل صورتها الإعلامية، تعتقد أن هذا ممكن معالجته بالمال، وبالحماية الأمريكية فقد راحت بعيدًا بالإبادة الجماعية، ولم يعد المال يحل شيئًا، ومن المهم عند إسرائيل أن يعرف العالم بجرائمها وتفجير البيوت والفظائع التي ترتكبها بحق الأطفال والنساء، والتعذيب الممنهج، يريدون القول للعالم نحن بهذه القوة والبشاعة، لأنهم يحاولون أن يرجعوا كرامتهم التي أُهينت ليس فقط في السابع من أكتوبر، بل في 8 شهور من الإبادة في غزة لفرض الاستسلام إلا أن هذا لا يحدث، فهناك مقاومة وصمود، وهناك عساكر صهاينة يقتلون ودبابات تعطب و صواريخ تطلق كل يوم.
يعني لا تهتم إسرائيل بالعزلة السياسية والدولية التي أصبحت تعيشها؟
بالعكس منذ اللحظة الأولى إسرائيل تريد أن تسترجع الصورة كي تظهر المهيمنة واأضا الضحية، وما هي الصورة إلا وظيفة إسرائيل؛ صورة القوي المهيمن القاتل، والذي يقف أمامها ستذبحه، هذه أداة رئيسية لوجود إسرائيل واستمرار هيمنتها ولعب دورها الوظيفي، ومن المهم جدًا لها إعادة تصدير هذه الصورة، لكن الفشل مرعب لدى إسرائيل ولدى حلفاءها الغربيين سواء في مواجهة غزة أو لبنان أو حتى اليمن وطبعا في المواجهة مع إيران. والاختلال في الصورة يمتد فاحتياجها لأساطيل من الدعم العسكري العالمي لحمايتها، وملايين الأطنان من السلاح الأمريكي والغربي إضافة إلى الدعم الاستخباراتي، والآلاف من المرتزقة للعمل في الجيش الإسرائيلي، ومنهم أربعة آلاف مرتزق فرنسي يخدمون هناك، فإذا كانت إسرائيل بالقوة التي تحاول تصويرها، لماذا تعتمد مائة بالمائة على دعم لا نهائي من الغرب؟!
إخوان مصر وإخوان غزة
قلت في معرض حديثك بالجزء الأول إنّ حكم الإخوان ضعيف، لكن أليست حماس جزءًا من الإخوان؟
في 2013 وهي الفترة التي حكم فيها مرسي، كان هناك هجوم ضخم في مصر من الأوساط الثقافية والمدنية، على الإخوان وشيوخ الدين بشكل عام واتهامهم بكونهم متخلفين وجاهلين، وكنت اقول لهم لكنْ الاقتصاديين أيضًا في مصر متخلفين، والرياضيين متخلفين، والفنانين متخلفين، واليسار متخلف، والرأسماليين بمصر متخلفين، جميعنا خرجنا من مستنقع الجهل والتبعية، فالنظام الفاشي العسكري التابع للغرب الذي يحكم مصر منذ 5 عقود، يصرف لليوم 2,5% فقط من الدخل القومي على التعليم في وقت متوسط صرف الدول الفقيرة 7%، والمتقدمة 11%.
نحن أقل دولة في العالم تصرف على التعليم، وزاد الطين بله إعلام فاشل وكاذب وموجه، وبالتالي إخوان مصر نفس النتاج الفكري، وهل تتخيلون أن شيوخ مصر سيكونون مختلفين عن هذا الجو العقيم؟، جميعهم من نفس البيئة التي فيها تعليم فقير، إلا قلة قليلة جاءت لها فرصة مختلفة بتشجيع ودعم من داخل البيت أو العائلة وأصرت على التعليم واستطاعت السفر والحصول على منح أو كافحت لإبقاء وعيها. والحقيقة أنّ الإخوان في تونس على سبيل المثال كانوا أذكى بكثير في التعامل مع الوضع التونسي، والمشكلة الأخرى في فهمهم وتطبيقهم للسياسة ولمبدأ السمع والطاعة عبر ثمانين عامًا من تنظيم لم يبنِ أيّ فكرٍ سياسي؛ لأن الأجيال تعاقبت على أن تسمع الكلام.
وهل هذا ينطبق على حماس؟
ليس مائة بالمائة، والفارق حين تكونين في معركة مقاومة وتحرير وسلاح في مواجهة عدو، هذا يفرض وقائع في طريقة التفكير والوعي مختلفة، وثانيًا التعليم في فلسطين أفضل من مصر، ونحن لغاية فترة قريبة كانت فلسطين أعلى نسبة تعليم وحملة شهادات ماجستير ودكتوراه في العالم العربي. الحقيقة أن واقع اشتباكنا مع العدو جعل الوعي والعناد أعلى بكثير، ودائمًا نطلق جملة على سبيل السخرية في فلسطين أننا كلنا قيادات ولا يوجد عناصر، وهذا حقيقي وفخر أنّ المجتمع الفلسطيني يولد ناس لديهم هذا الوعي وهذا التصميم وهذه المواهب القيادية لأننا في معركة تحرر.
أعتبر فترة ضعف حماس الرئيسية، هي الفترة التي قبلت أن تكون كامل تبعيتها للتنظيم في مصر وعملت خلالها أخطاء كارثية من الاشتباك في سوريا، إلى فقدان تحالفها مع محور المقاومة وقد كان على حماس البقاء على نفسها إسلامية كما تريد، ولكن مستقلة بمنابع وطنية فلسطينية، خاصة في فهمها وإدراكها لدورها الفلسطيني، وحين حدث ذلك في عهد قائدها يحيى السنوار، رأينا حماس قوية مقاومة. وهكذا الإخوان بفلسطين يختلفون، وبتركيا تصرفوا بشكلٍ مختلف أيضًا عن الذين بالأردن، فحركة الإخوان في كل بلد يختلف إنتاجها الفكري عن الإخوان في بلد آخر، وهو تنظيم متشابه في الفقه الديني وليس في الأداء السياسي. وأعتبر التيار الإسلامي في العالم العربي هو تيار طبيعي نسبة لمكان كان أنتج فيه الإسلام ألف سنة من الحضارة وتم القضاء عليها وعلى الخلافة بفعل الاستعمار، وبالتالي من الطبيعي أن ينتج في هذا المكان قطاعات في المجتمع ترى في ذلك هو المعون الحضاري، بالتأكيد أختلف معهم في أشياء لكن أتفهمها.
7 أكتوبر ليس قرار حماس وحدها
والآن كيف ترى حماس…؟
ستبقى دائمًا عندي اختلافات حول رؤيتي السياسية مع حماس، ولكن حماس المقاومة والقسام تمثلني بلا تحفظ. وغباء من بعض الناس الاعتقاد أنّ 7 أكتوبر هو قرار من حماس، وهذا ليس حقيقيًا، ومثل كل قيادة في العالم، بلا شك أنها تتخذ قرار المعركة وتوقيتها بناءً على حساباتها، لكن مستحيل أن تتخذ هذا القرار دون أن يكون قرارًا شعبيًا وشاملًا فلسطينيًا بالأساس، فشعبنا منذ سنوات يدرك أننا باتجاه القضاء علينا وعلى وجودنا، وفي اتجاه تهويد القدس، وأننا نحتاج أن نقاوم. وأن المقاومة المسلحة هي الحل.
لكن الناس في غزة اكتفت من الدمار وفقدان الأحباب، وانتهاء الأمل، بل أصبح صوت لوم حماس ولوم السنوار عاليًا. فلا يمكن لوم الناس على لومها؟
أكيد. مَن يستطيع لوم الناس هناك؟ دائمًا يوجد نقاش بيني وبين ناس في غزة، وأسمعهم في إطار الأدب الشديد والواقعية لأني مدرك ألم الناس ووجعهم، ومدرك أنّ الخطة الإسرائيلية الرئيسية هي ذلك، وهي قتل الناس ومعاقبة الشعب، كوسيلة لكسر مقاومتنا، والحقيقة أنّ الناس أحيانًا لا تدرك ذلك. على سبيل المثال سمعنا إحدى المرات حين صرحت وزارة الخارجية الأميركية أنّ القصف والقتل والتجويع سيتوقف في حال استسلام حماس، بمعنى آخر أنّه لا مانع من استهداف المدنيين والأهالي وقتلهم وتجويعهم لإجبار المجتمع على الاستسلام، إدراكًا أن المقاومة ليست فقط حماس، بل هي الشعب الفلسطيني، والشعب كله في خندق المقاومة، وهناك محاولة لكسر إرادته. وطبعًا العائلات تعيش تحت إرهاب مرعب منذ أكثر من ثمانية شهور من القتل والتجويع والتعذيب والتشويه والدمار واللا مستقبل، بلا شك هناك انهيار مجتمعي بتركيبته وأمانه ووعيه وفي صحته وتشتته، وهناك عائلات أصبحت غير موجودة، هناك أكثر من 22 ألف طفل يتيم، منهم 3500 طفل لم يتبق لهم أحد. الناس لا تدرك حجم ما يحدث. ودائمًا في محاضراتي بفرنسا أعطي الأرقام للناس، ثم أقول لهم انتبهوا، نحن لسنا أرقامًا؛ لأن كل شهيد من هؤلاء الآلاف لديه حكاية وعائلة ووطن.
الناس على الأرض فقدت الأمل وما يحدث أقوى من الاحتمال ويتجاوز الفهم وأقوى من التبرير والتحليل..
أنا لا أستطيع أن أزايد على أيّ أحد وسط المذبحة، حكي شعبنا مقبول وأحترمه، ولكن السؤال، ماذا سنفعل بهذا الكلام؟ هل هذا يعني أنه علينا أن نعمل كلّ ما يمكننا لوقف المجزرة؟ طبعًا، هل هذا معناه أن نعمل كلّ ما نستطيع كي نلعق جراحنا، وسرعة دعم غزة لإعادة بنائها ورعاية الناس؟ طبعًا. طيب، لكن هل هذا معناه أنّ الحل في ذلك وتحقيقه باستسلام المقاومة اليوم؟ لا، وهذه المشكلة والمشكلة ليس أنّ شعبنا الذي يتعرض للإبادة يفقد الأمل، هذا مقدر ومفهوم وإنساني، بل السؤال الآن حول هل أنت مدركة في موقعك، أبعاد ما يحدث، وأنه لو استسلمت المقاومة، الشعب سيذبح أكثر، ويذل لسنين طويلة، وسنخسر غزة والضفة الغربية؟ والحقيقة أنّ غزة ضحت ليس فقط لإنقاذ نفسها، بل إنقاذ القدس والضفة قبل نفسها، والسؤال اليوم، كيف نوقف المذبحة؟ كيف نعيد بناء وحدتنا الوطنية وبناء مشروعنا التحرري؟، وكيف نعيد استثمار المقاومة والغضب العالمي من جرائم إسرائيل في إعادة بناء مكاسب سياسية تقدم قضيتنا خطوة للأمام، وتحمينا على المدى الطويل، وليس على المدى القصير…؟ وللأسف إذا أصابنا انهيار في إدراك هذا الدور ليس فقط سيضيع الحاضر، بل المستقبل أيضًا، إذا المعركة قرارها كان خطر، فإن قرارها الوحيد كان إنقاذ المستقبل، ومن اتخذ قرار المعركة مدرك للثمن الفظيع على المدى القصير.
ومن ينقذ الناس الآن من وحشية الآلة العسكرية الإسرائيلية؟
هل المقاومة تستطيع أن تنقذ الناس؟ لازم نسأل ما هي المقاومة؟ هي أخوك، وابن عمك، يعني أقصد نفس وضعك لكن معهم كلاشن، وبالأخير هم مجتمع مدني أعزل مثلنا، ولكن قرر أنه لا يتحمل قتلنا بالبطيء واحتلال أرضنا بالبطيء، فقرر يشيل حجراً، أو يصنع صاروخاً من خزان مي، يضرب فيه عدوه الذي يقتل أولاد شعبه، هل الآن نحن نطالبه أن ينتصر على إسرائيل والإمبريالية العالمية؟ لا. نحن نطالبه يقاوم، يعني هل أبو عمار استطاع أن يحمي أكثر من 50 ألف فلسطيني ولبناني ذبحوا بحرب لبنان 1982، لم يستطع.
الناس لاموه أيضًا في تلك الأيام…
طبعا وصار نتيجته انشقاق دعمته الدول العربية بنفس المعاني والألفاظ التي تحدث الآن، مثلًا أمس كنت على نقاش مع أحد ينتمي لحركة فتح، ويناقش هذا الموضوع، وقلت له: والله أنت نسخة من أبو نضال وأبو موسى وأحمد جبريل، الله يرحمك يا أبو عمار، لو أنتم تعلمتم شيء من فتح، فأول درس في فتح هو أن الرصاص يوجه فقط للعدو الإسرائيلي إذا لم تتعلموه، لن تكونوا فتح. نفس القذارة صارت عام 1982 ونفسها صارت في كل لحظة مقاومة، وهو محاولة الإقناع بعدم جدوى المقاومة، إذن نسلم أراضينا ونقوم نروح. والسؤال كيف لمشروعنا للتحرر الوطني مواجهة محاولات محو وجودنا؟ فسموتريتش الذي يعبر عن رأي الأغلبية في إسرائيل قبل حوالي شهر من 7 أكتوبر، خرج يقول للفلسطينيين أمامكم ثلاثة حلول: أولًا أن ترحلوا عن الأرض وتسلموها لنا أو تقبلوا أن تعيشوا عبيدًا لنا وقالها هكذا بالحرف، بمعنى السيطرة الإسرائيلية على حياتكم، والخيار الثالث الموت ببطء في بيوتكم. وبالمناسبة أنا جدًا ضد السخافة الغربية، وهدفها حماية اسرائيل باعتبار نتنياهو وحكومته هم المشكلة باعتبارهم من المتطرفين اليمينيين، والحقيقة أنّ كل ابن كلب حكم إسرائيل كان مجرماً، لا يوجد رئيس وزراء إسرائيلي إلا استباح دمنا وارتكب مذابح، وترويج قصة كون هؤلاء متطرفين، ما هو إلا محاولة إنقاذ إسرائيل وسمعتها، فالمشكلة هيكلية وإجرامية في الحركة الصهيونية. وهنا نختار نحن أن نقاوم، لأنه حين نقاوم يصبح لدينا فرص لنغير هذا المستقبل.
وماذا ترى بعد كل هذا الدمار، وما بعد المعركة؟
عبر سنين من مقاومة المشروع الاستعماري في بلادنا بقينا قادرين في لحظات، القيام بتضحياتٍ ضخمة ودم كثير، لكن قادرين على أن نخرب مشاريع الاحتلال والغرب لتهويدنا وقتلنا واستمرار سرقتنا، ولكن ليس لدينا القدرة لوحدنا على إقامة مشروع بديل. وفي هذه المعركة يجب أن نكون حذرين في استثمار النتائج، فإن مقاومة شعبنا وصموده أفشلت إسرائيل في المعركة العسكرية ولم تحقق أهدافها، وهذه ليست أول مرة، بل فعل شعبنا ذلك في عدة حروب ومعارك، ومنها معركة الكرامة، فقد فشلت إسرائيل في مواجهة واستبسال شعبنا بأدواتٍ بسيطة، لكن كل مرة نخسر سياسيًا ما بعد المعركة، في كيفية إدارة لحظة ما بعد المعركة وللأسف خوفي من حجم الانهيار المجتمعي الذي صار بغزة يسهل هذه الهزيمة السياسية بعد انتهاء المعركة. ومن هنا تأتي أهمية وسرعة بناء قيادة فلسطينية، في هذه اللحظة التاريخية، وهناك أكثر من 9 مليون فلسطيني في الخارج، قادرين أن يتحولوا الى العمق الاستراتيجي ويقدموا البدائل والقيادة البديلة، القادرة على توحيد وحماية الشعب الفلسطيني ومقاومته في اللحظة الصعبة الحالية وأن يكونوا الغطاء السياسي لشعبنا وللمقاومة في لحظة ما بعد المعركة.
وهكذا يمكن أن نخرج إلى اليوم التالي الفلسطيني وليس ما يريده العالم؟
أقول دائمًا للناس يجب أن نتمسك باليوم التالي الفلسطيني، ونبنيه بأنفسنا. الأمريكي والإسرائيلي كاذبان، ليس لديهما خطة اليوم التالي، فمرة كانت الخطة طرد السكان من قطاع غزة لمصر، وفشلت، ومرة كانت احتلال غزة وهذا ليس ناجحًا أيضًا، كما تحدثوا عن قوات عربية مصرية وإماراتية لقمع الفلسطينيين في غزة، ولم يحدث، كما طرحوا جلب قوات السلطة الوطنية الفلسطينية وحكم العشائر وفشل الطرح، وفي أخرى تحدثوا عن قواتٍ أوروبية. إن تخبطهم هذا وتعدد مشاريعهم يثبت أننا بالمقاومة والصمود والوحدة قادرين على إفشال مخططاتهم لليوم التالي، إذن ماذا سيكون اليوم التالي الفلسطيني؟ من الممكن أن يكون تبادل أسرى وخروج القيادة البديلة، مروان وسعدات بالإضافة للسنوار وإعلان وحدة فلسطينية، واتجاه إلى انتخاباتٍ حقيقية تعبر عن الموقف الفلسطيني في إعادة إعمار غزة. وممكن بجبهة قيادية فلسطينية واسعه تقبلها المقاومة ويكون جزء منها تَشكل طريق اليوم التالي الفلسطيني. أما عن كيف ولماذا وأين، فكله سيأتي لاحقًا، فالتوازن الدائم مطلوب لاستراتيجيتنا الوطنية، وهذه الاستراتيجية منذ احتلالنا، ندرك معها أن الشعب الفلسطيني غير قادر وحده على مواجهة المؤامرة الغربية على وجوده، لذلك لدينا دورين؛ الأول هو الصمود، وصمود شعبنا على أرضه هو الأساس، والثاني استمرار المقاومة كي لا يرتاح الاحتلال لاحتلاله أرضنا، إلى أن تتاح لنا الفرصة لتغيير موازين القوى، ونستطيع التحرير الكامل، والتغيير قد بدأ وهو عبارة عن معركة طويلة، حفاظنا خلالها على شعبنا و على قدرته على الصمود أساسي والذي لن يتحقق إلا بالوحدة.
وأسئلة الضحايا ومعاناة الناس؟
قرار حماس بالمواجهة في تلك اللحظة -والذي تحاسبها الناس عليه – يشبه القرار الذي اتخذه أبو عمار في نهاية السبعينات بمواجهة إسرائيل في لبنان، ومثل لحظات مختلفة كثيرة اتخذت فيه المقاومة في بلاد أخرى قرارات مشابهة، والمقاومة اليوم حماس، وهي رأت وأنا أتفق معها بأن الصمود معرض للخطر إذا لم تتصاعد المقاومة. أقصد اضطر الشعب الفلسطيني ولن أقول حماس، تحت كارثة السلطة الفلسطينية المستمرة منذ 20 عامًا، والمؤامرة الدولية والعربية، اتخاذ قرار ممكن يهدد قدرة الناس على البقاء والصمود، بتفجير مقاومة نوعية جدًا في اتجاه العدو، وعلينا الحفاظ عليها، والحفاظ على مكاسبها، ولكن عبر سرعة الاستثمار في عودة الصمود وتضميد جراح المجتمع وإعادة بناء غزة.
شكل الخروج من المعركة
بناء غزة… كيف؟
قصة صعبة، التمويل لإعادة الإعمار في المستقبل القريب، سيكون قصة حساسة جدًا لأنه جزء رئيسي من التمويل الذي سيأتي أوروبي وغربي، ومن صندوق النقد الدولي والإمارات والسعودية، وسيأتي باشتراطات سياسية حول أمنك ومستقبلك ومشروعك الوطني، لذلك وجب علينا بناء أدوات تمويل بديلة وعلينا بناء قيادة سياسية وطنية، وتشمل الجميع تستطيع إدارة هذا الملف.
لكن من يملك المال هو القامع القوي..
ممكن جمع المال، فهناك ملايين البشر المتعاطفين مع الفلسطينيين، ولو كل متظاهر خرج في مظاهرة تبرع بعشر دولارات ستتم إعادة بناء غزة. وأن يتم ذلك بشكلٍ مؤسساتي، وهذا يتطلب قرار قيادي ذا شرعية من الشعب الفلسطيني وبالتالي الشعب يعطي الشرعية للمجتمعات بالعالم، ولو بنينا مؤسسات في الخارج تجمع منذ اليوم التمويل الفردي من أماكن مختلفة لمشاريع إعادة البناء، وكفل الأيتام، وبناء اقتصاد بديل، وتبني هوية وطنية وترسخها، وجميع أنواع المشاريع التي لن تصرف عليها الأموال الدولية، على سبيل المثال من المهم جدًا دعم قطاع الصحة وسط المذبحة بسبب الحصار، لكن ثاني يوم بعد توقف المذبحة، لا أحد يصرف على الصحة، لأنه ستتكفل بها الأموال الدولية من كل مكان. وهذا كله يحتاج إلى قرارات قيادة، وتوازن استراتيجي، وشكل خروجنا من المعركة وإعادة بناء مشروعنا الوطني وليس فقط الوحدة السياسية، عن نفسي لا تهمني المصالحة نهائيًا بين أبو مازن وخالد مشعل، ولا توجد قيمة لهذه المصالحة، أنا أريد إعادة بناء شعبي، قيادة جديدة، خارج الاثنين.
هل اشتقت إلى غزة؟
اشتقت إلى كل شيء في غزة، أعرفها بيتتً بيتاً وشارعاً شارعاً، غزة كلها صغيرة، ولي ذكرياتي في كل مكان، ورغم مدة العيش القصيرة والتي استمرت 3 سنين ونص، وسنتين متقطعتين، لكن أتذكرها جيدًا، وقد دُمر بيت العائلة في هذه الحرب مثل كل البيوت، ولدينا عائلة ممتدة من آل شعث ما بين خانيونس ورفح، وكنت أتابع عدد الشهداء والجرحى والآن فقدت الحصر، وفي الحقيقة لم يعد سؤالي له معنى من استشهد اليوم؟ لم تعد لدي القدرة على سؤاله من جديد.
هل تستطيع أن تميز شوارع غزة بعد الدمار من الصور المعروضة على الشاشات؟
سأقول لك قصة عن قريب من عائلتنا بعد أن دخل إلى خانيونس المدمرة عقب خروج الجيش منها، ليس أنه لم يجد البيت، بل الأسوأ لم يعرف موقع البيت ومكانه وهو ولد وعاش فيه، فالشجر مقتلع، والبيوت بجانبه مهدمة، والشوارع تم تجريفها، وقد اختفت كل العلامات الدالة على المكان، مجرد صحراء عليها ركام، وأخبرني أنه بالنهاية تعرّف إليه من التدقيق في بقايا ركام منزله مثل إطار الشباك أو الباب.