خرجتُ مضطرة ليلًا، هبّت النسمات رقيقة على وجهي، لم أخرج من البيت ليلًا منذ شهور، أشعر أنّ الحياة تجري حولي، بينما توقف بي الزمن، تجمد كل شيء، كل ما يسير على جانبي يملأه الضباب. مرت الفصول وكبر أطفال الجيران، ولم أشعر بشيء، أشاهد المطر فأتفاجأ هل نحن في الشتاء؟ تضرب الشمس في البلكون، فاحتار متى وصلنا الصيف؟ أبنائي انتهت سنتهم الدراسية ولم أذهب إلى مدرسة أحدهم هذا العام، لقد غاب عني العالم وغبت عنه.
أعيش في مكان وزمان لا ينتميان لواقعي هنا في غربتي بفرنسا. أعيش إبادة وقلق في حياة موازية، أنشغل بكل ما يخصها وبحاجة الناس وألمهم وفقدانهم، وأنا التي قررت قبل عام أن أنسى غزة وأمضي قدمًا في حياتي البعيدة، لكن كل مرة غزة لن تسمح لك بذلك، وإذا فلت منها فلن تفلت من حرب أخيرة تعيد إليك كل الألم وأرواح الشهداء السابقين.
دائمًا كان هناك شعور أنّ لديك مكان ترجع إليه يومًا ما، يخفف كثير من شعور الغربة، خاصة لو أنك ترى المغتربين حولك يسافرون بلادهم في إجازة نصف العام وإجازة ما قبل نصف العام وإجازة نهاية العام، كل ما يحتاجونه تذكرة طائرة لا تتجاوز مائتي دولار، أو حتى يمكنهم العودة بسياراتهم دون أي مشاكل، فتصيبك حسرة كبيرة وألم، وهذا إحساس ينتابك حتى قبل الإبادة، بسبب الحصار والعدوان المتكرر.
والآن أصبحت بلادك المستحيل بذاته، ذكرى في رأسك، ماضي تشتاق له، حكاياتٍ قديمة تحدثها لمن حولك، لم تعد واقع على الإطلاق. أماكنك التي اعتقدت أنها مؤقتة أصبحت دائمة، المدينة التي تعيش بها، غرفتك، سريرك، مخدتك، رقم هاتفك الذي لم تحفظه بعد، كل ما كنت تمني نفسك به أنك يجب أن تتحمله حتى تعود قد أصبح سجنك للأبد.
كما لا يوجد حولك من يشبهك أيضًا ليفهمك، فلا بلاد أبيدت كما يحدث لغزة الآن ولا أحباب قتلوا وتحللوا كما يحدث لأهل غزة الآن، ولا أكارم جاعوا وذلوا كما يعيش الصابرون والصابرات تحت قيظ الشمس في خيام غزة الآن.
راح الوطن، وأماكن ذكرياتك أينما كانت، أبيدت العائلات، توحش الاستعمار ليستحل الأرض والسماء والبحر، ويصنع أمريكا جديدة على حساب السكان الأصليين، ونحن من الأصليين في الخارج نعاني غربة مضاعفة، فلا بلد أصلي ولا بلد مؤقت، تمشي بين الضباب لا أحد يراك وأنت لا ترى سوى الماضي.
وصلني بالبريد من صديقة عزيزة وزوجها؛ قهوة وبزر بطيخ ومكسرات من غزة جميعها صنعت قبل الحرب، شعرت وأنا أتلقى الصندوق كأنها وصلتني رسالة من ميت أرسلها قبل وفاته، فمجرد أن تفتح الظرف يعود إليك الشخص مع كل كلمة، ولكنك لن تستطيع الرد، وأنا مع كل شفة قهوة عادت لي غزة من الموت، ومع كل حبة بزر، رجعت لي مئات الصور من زمن غزة الماضي، وجلساتها الجميلة، فطعم القهوة أمام البحر، ليس هو طعمها في الشتاء حين تشتريها عند “رمزون” السرايا من الكشك الصغير، كما أنه ليس هو طعمها في مقهى مزاج بحي الرمال، كل مرة عالم مختلف، مفتوحًا على الحنين في عقلك.. لتعود الآن كل تلك المذاقات من جميع اللحظات مرة واحدة، كيف يمكن لحاسة التذوق أنْ تصبح هي وطنك البديل، كيف يمكن لطعم المكسرات التي كانت تملأ الساحة في شارع فهمي بيك ويسميها البائع جمبري، أن تنقلك إلى الشارع والساحة والسوق، كأنك دخلت فتحة الزمن، فتلمح تمثال العنقاء، وترى ضحكات المارة، وتتسرب لأنفك رائحة البهارات قادمة من المحال المجاورة.
إلا أنّ موطني ليس طعم ورائحة فقط، إنه العمر والتجربة والناس، والإخلاص للمكان، وفوق كل هذا الحب، كيف لك أن تحب مدينتك التي ظلمت فيها؟، لكن هذا ما يحدث لك مع غزة، بل هي لازمة الأوطان.
أجسادنا تتبدل وأسماؤنا إذا أردنا أيضًا، وقد نصبح غيرنا في الغربة إلا الذاكرة هي هويتنا التي لا يغيرها شيء. واليوم نعرف جميعنا جيدًا أننا لا نستطيع تجديد كل تلك الذكريات فكل شيء اختلف للأبد، وستظل هوياتنا معلقة في الزمن، وقد تقترب منا في كل مرة نبوح عنها لأطفالنا وأحبائنا.
قرأت اسم شهيد “محمد جهاد عابد” شعرت أنني أعرفه، إن قراءة أسماء الشهداء في غزة تشبه لعبة الروليت الروسية، فلا تعرف متى تخرج الطلقة ومن ستصيب؟ تذكرته فجأة، لكني قلت غير معقول إنه يبلغ من العمر 6 سنوات وفي الخبر كتبوا إنه في بداية العشرينات، كيف؟ أنا أتذكر صديقتي إيمان تذاكر له دروسه مع شقيقه منذر! فجأة استوعبت أن هذا كان عمره حين تركت البلاد وأني لم أحسب سنين الغربة من عمره كأنها مرت علي ولم تمر عليه، توقف الزمن في ذاكرتي عند تلك اللحظة، لحظة تركت مدينتي، فبقي فيها كل شيء على حاله. إنني أعيش ثلاثة أزمنة وأمكنة متداخلة؛ زماني بالغربة الآن، وزمن الإبادة بغزة، والزمن الذي خرجت فيه من القطاع.
نعم الشهيد كان طفلًا.. والآن شابًا انتهى من دراسته ثم عمل بالهلال الأحمر الفلسطيني وقد كان خير مغيث للناس في الحرب، إنه ابن جهاد وسمية جيران الطفولة والمراهقة اللذين كنت التقيهما في كل مرة أزور صديقتي، بحثت عن صور الشهيد وجدته جميلًا رقيق الملامح يشبه عمته، صديقتي الأبدية مهما غيرتنا الحياة وهُدرت السنوات دون أن نتقابل.
حين نسافر تبقى البلاد التي نحب والأشخاص الذين نألفهم في عقولنا كما تركناهم، لكنهم في
الحقيقة يكبرون، ويتغيرون، كل ما في الأمر أنك لم تعد جانبهم كي تلاحظ ذلك.
كم يخدعنا العقل كي يحمينا من الألم، محمد لم يعد ذاك الطفل الذي يجلس إلى الطبلية مع
أخيه منذر وتعلمهما إيمان وأنا أضحك عليها وأنتظر بفارغ الصبر أن تنتهي كي نجلس معًا
ونأكل ما اشتريناه من شيبس وجلي “الحيايا” الملون.
الآن أخذت الحرب محمد ولن أعود أتذكر ضحكة والدته سمية، من سرق ابتساماتنا حتى من الماضي؟ قُصف البيت فوق محمد، بل هدمت الحارة، لم أجرب من قبل.. أن تمسح منك ذاكرة مسحّا تامّا كما يحدث الآن في غزة، كأنك كنت تعيش سرابًا.. بل هو زمن غزة الذي لن يعود.