لا تكمن المشكلة في إقامة مهرجان سينمائي خلال واحدة من أعنف الحروب في القرن الواحد والعشرين، بل المشكلة حين تقيم المهرجان وتتجاهل هذه الحرب وويلاتها وضحاياها الذين هم بالآلاف، فهنا تغدو السينما والمهرجانات بعيدة عن الروح الحقيقية لصناعة الأفلام، كالمشاركة الإنسانية للألم وتتبع جروح الفقد البشري على مر التاريخ، وفضح الآلة الاستعمارية المتوحشة.
المقصود هو “مهرجان البحر الأحمر” في السعودية، الذي بدأت أولى أيامه مع آخر أيام الهدنة خلال الحرب في قطاع غزة المستمرة منذ ثمانية وخمسين يومًا، وكأن الحرب تحدث في الفضاء الخارجي وليس في بلد مجاور، تمثل تراثاً عربياً وإسلامياً وثقافياً ووطنياً مشتركاً في أمة ذات مصير واحد، إلا إذا كانت السعودية تريد أن تبدأ التاريخ منذ اليوم الذي خلعت فيه ثوب الوهابية وارتدت ثوب التطوير والاستغراب والحداثة الشكلية، وبذلك بصقت على كل ما يتعلق بهويتها العروبية والقومية ورموزها وأولها فلسطين.
كل مقطع فيديو يظهر لعائلات تباد بالقنابل الإسرائيلية يظهر أمامه على وسائل التواصل الاجتماعي عشرات من مقاطع وصور فعاليات “مهرجان البحر الأحمر”، المهرجان الذي استطاع شراء ظهور ممثلين عالميين ليس بعراقته وأهمية جوائزه ونبل مواقفه، بل لأن أمواله كثيرة، أموال جعلت شارون ستون وويل سميث وميشيل ويليامز وجوني ديب يخطون على سجادته. وفي الوقت الذي أجلت مهرجانات عربية عالمية عريقة، ظهورها السنوي بسبب الحرب على قطاع غزة مثل “قرطاج” و”الجونة” ومهرجان “أيام فلسطين السنيمائية” – وكانت ستكون مقدرة أيضًا لو بقي موعد المهرجان على حاله طالما خصص جزءًا منها لمساندة فلسطين وأهالي غزة- نجد “مهرجان البحر الأحمر” ابن العامين، المستحدث ليناسب وجه السعودية الجديد، لم يؤجل يوماً واحداً في دورته الثالثة.
الشيء ذاته حدث قبله مع “موسم الرياض” واحتفالاته وأغانيه ومسرحياته والظهور الباذخ للفنانين العرب خاصة المصريين منهم في ثاني أسبوع للحرب على قطاع غزة حين اقترب عدد الشهداء من ستة آلاف شهيد وشهيدة، بل إن عراب صناعة الترفيه في السعودية تركي آل الشيخ ظهر يعلن عن صفقة كبيرة مع مطاعم ماكدونالدز التي قدمت وجبات مجانية لجيوش الاحتلال خلال الحرب. ولولا هجمة الشعوب العربية التي أصبحت أوعى من عرابيها وصناع الفن لديها على منشوره، لكان استمر في غروره وإلغاء قضية فلسطين المحتلة في عقول جيل شاب سعودي لا يعرف الكثير عنها، فاضطر إلى حذف الفيديو من وسائل التواصل الاجتماعي لكن كانت إسرائيل أعلنت سعادتها به ونشرته لديها وطلبت من تركي أن يذهب لمقهى ستار بوكس ويتصور هناك بالمرة.
هنا ينبت سؤال العار المخجل إلى أي مدى يمكن أن يبلغ سعر شراء الفنان العربي والفنان العالمي؟ على الرغم من أنه يبدو واضحًا أيهما أرخص ثمنًا، وأي الجنسيات المستعدة لتبيع نفسها ولو على حساب زملائها ممن اتخذوا موقفًا إلى جانب أهالي قطاع غزة. وكي نسمي الأشياء بمسمياتها ولا نتردد في أن نعمم ونكون عنصريين أيضًا، هناك فنانون قدموا أنفسهم للفن الرخيص والنكتة الرخيصة والمسرح الأرخص والأجندة الرخيصة بأقل الأثمان. بل يكاد يكون مجانًا كما قال بنفسه بيومي فؤاد “ولو من غير فلوس”، فخرج ينتقد بابتذال وتصنّع البكاء زميله محمد سلام الذي رفض أن ينضم للمسرحية، وقد أعلن سلام رفضه السفر إلى السعودية لأنه لا يمكن أن يصنع نكتة ورقصة بينما شعب آخر يموت غير بعيد عنه، وجاء ذلك في مقطع فيديو صوره لنفسه. ولم يقبل بيومي فؤاد أن يُظهر شخص شاب كمحمد سلام بتلك البراءة مدى “ندالة” الآخرين، فأوغل بهذه “الندالة” بانتقاد سلام علنًا على خشبة مسرح موسم الرياض، وكانت النتيجة كما تابعنا على وسائل التواصل الاجتماعي بأن نبذت مصر بيومي فؤاد بل وأصبح ترند بالتذلل للمال السعودي والسيد السعودي والفن السعودي.
ذهبت الأمور أبعد من ذلك حين تم تداول أنباء أن منصة “شاهد” السعودية لن تتعاقد على الموسم الرمضاني القادم من مسلسل “الكبير أوي”، والذي يلعب فيها الكوميدي محمد سلام دورًا مهمًا إلى جانب الممثل أحمد مكي. وخرجت منذ تلك اللحظة حملة ضد “منصة شاهد”، وألغى بالفعل المئات الاشتراك ضمن فعل المقاطعة الشعبي العربي وخاصة في مصر. ففي الوقت الذي يباع ويشترى الممثل والممثلة دون أي وعي بأهمية القضايا والأحداث حوله، بل ينقادون لمنافذ المال والسلطة كالخرفان، نجد الشعب المصري يضرب أقوى الأمثال في المقاطعة التجارية الشعبية للمطاعم الأميركية والمقاهي التي تدعم إسرائيل وكذلك المنتجات المطبعة. وفي الوقت الذي نرى الشعوب العربية تعيد التحامها بالصورة الأولى النقية للقضية الفلسطينية يلفظ الفنان أو الفنانة المصرية أي مقدار للقيمة الأخلاقية لعمله ونجوميته، وليس آخرهم بيومي فؤاد.
ولأن الرداءة لا تحضنها سوى الرداءة، نجد الممثلة المصرية ياسمين صبري التي يشهد على فشلها في التمثيل نقادٌ عرب كثر، تتربع على كرسي حوار الماستر كلاس في مهرجان “البحر الأحمر”، وتزيد من “المفهومية” بالقول بكل ذكاء خلال الحوار أنها تكره أفلام المهرجانات المملة وتفضل أفلام الأكشن، لينال المهرجان ما سعى له من السطحية والصورة المبهرة، وهو ما كان سهلًا مع كل تلك الملايين، فأبسطها أن يشتري ظهور أسماء كبيرة من هوليود على سجادته.
لذلك من المحبب و”الترند” مشاهدة صبري تختال بفستانها الأسود اللامع وتنشر القبلات ضاحكة، وتنتشر صورها في كل مكان فتكون فرصة للمواطن السعودي -ويا ليت العربي أيضًا- بأن لا يرى طفلاً فلسطينياً أشلاء تحت الأنقاض، بل تحميه سياسات الترفيه السعودية عبر صور الفساتين والنجوم وتخفف معاناته من أن يصادف صورة من فلسطين، إنه تسويق التفاهة، وليست صبري وحدها، بل هناك مئات غيرها من ممثلين وممثلات كنا نتوقع منهم المزيد من المسؤولية مثل أمينة خليل ويسرا ولبلبة وظافر عابدين، الأمر الذي يدعم نظرية كون الفن للتسلية بل يقع في مكان خاص من الضحالة، ولا يمكن أن ينقذ هذا العالم أبدًا أو يسعى لكي يكون أفضل.
ولأن الصورة ليست كلها سعودية، وليست بتلك القتامة من محو ممنهج لألم إنساني عظيم في غزة من صنع البشر والسياسة يجب تذكر كل أولئك الذين وقفوا في وجه إغراء المال والصلاحيات ومن أولهم محمد سلام وأحمد فهمي وسوزان نجم الدين، وليام كونينغهام وجون كوزاك ومارك روفالو وسوزان ساراندون وجينا أورتيغا.
بل كتبوا في 20 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، رسالة إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن يحثونه فيها على الضغط من أجل وقف إطلاق النار في قطاع غزة وإسرائيل، نشرها موقع “أرتيستس فور سيزفاير دوت أورغ”، واختتموا رسالتهم بالقول: نرفض أن نروي للأجيال القادمة قصة صمتنا، وأننا وقفنا مكتوفي الأيدي، ولم نفعل شيئا، ووقع عليها 60 فنانا وفنانة أبرزهم الكوميدي جون ستيوارت، والممثل الحائز على جائزة الأوسكار خواكين فينيكس.