«صور بلا ظل»: عن هيروكاوا الذي وجد فلسطين في بحثه عن المدينة الفاضلة

2018-02-08 14:00:00

«صور بلا ظل»: عن هيروكاوا الذي وجد فلسطين في بحثه عن المدينة الفاضلة

يروي هيروكاوا في الفيلم عن نقطة التحول الأهم التي حدثت في حياته، وذلك في الأشهر الأولى حين انتقل من كيبوتس داليا إلى كيبوتس ياد حنّا، وهناك أخبر أحدهم عن اهتمامه الكبير بمعرفة تاريخ قرية داليا التي يقوم على أنقاضها الكيبوتس الذي كان يسكنه، حينها أعطاه أحدهم خريطة وقال له: هذا ما تبحث عنه.

كان المصور الصحافي الياباني ريوتشي هيروكاوا (74 عاماً)، يبحث عن حلمِ أفلاطون بالمدينة الفاضلة أو المجتمع المثالي، حين التقى بالإسرائيلي مارتين بوبر، الذي حكى له عن مجتمع عادلٍ ومتساوٍ في داخل الكيبوتسات الإسرائيلية. استهوت الفكرة الشاب الياباني الذي كان في العشرينيات من العمر في حينها، فقرر السفر للبلد الذي يقوم على العدل والمساواة الاجتماعية.

وصل منتصف العام ١٩٦٧ إلى كيبوتس "داليا"، لم يكن قد مضى على وصوله إلا أسابيع حين شنت إسرائيل عدوانها على ما تبقى من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، وامتد عدوانها ليحتل الجولان السوري وصحراء سيناء، أو صحراء التيه اليهودي كما تقول الأسطورة التوراتية.

ولم يكن المصور الشاب حينها قريباً كفاية ليرى الحرب، ويقترب من الفلسطينيين الذين لم يكن يعرف عنهم أي شيء، لكنه وجد آثارهم في كل مكان حوله، حين بدأ باكتشاف آثار لقرية أقيم على أنقاضها الكيبوتس. بل إن الكيبوتس حمل اسم القرية المهجرة، وبدأ يتعرف أكثر على طبيعة المجتمع المعقد الذي وصل إليه، ظناً منه أن هذا هو مجتمع حلم أفلاطون، وبدلاً من ذلك بدأت تظهر الإشارات أينما ولى وجهه لأن هذا المجتمع الصهيوني الصغير داخل الكيبوتس ما هو إلا جزء من أبهارتيد لا يختلف عن مجتمعات المستوطنين الأوروبيين في القارة الأمريكية، وأن عملية تطهير عرقي تجري للسكان الأصليين وعملية منظمة لتهجير من تبقى منهم.

حكاية هيروكاوا مع فلسطين، يرويها المخرج عائد نبعة، في فيلمه الوثائقي «صور بلا ظلّ»، وهو يتابعه أثناء تجواله بين القرى الفلسطينية المدمرة والمهجرة، وأثناء تنقله والتقاط صوره؛ يروي هيروكاوا لنبعة حكايته منذ البداية، كيف جاء بحثاً عن المدينة الفاضلة، فوجد نفسه في نظام فصل عنصري. بلدٌ حديث النشأة، يخوض حرباً عدوانية بعد أسبوعين فقط من وصوله إليه، ويحتل أراضي الجوار. رغم أن هيروكاوا كما يقول في الفيلم، كان يعتقد في حينها أن من حق اليهود الدفاع عن نفسهم، لفت انتباهه وجود بعض الإسرائيليين الرافضين للحرب، والمناهضين لاحتلال ما تبقى من أراضي الفلسطينيين، فبدأ البحث عن هؤلاء الرافضين للحرب ليفهم أكثر دوافعهم.

أوصله بحثه إلى يساريين وشيوعيين إسرائيليين مناهضين للحرب،  ومن خلالهم تعرف إلى الشيوعيين العرب في الداخل الفلسطيني، وعبرهم تعرّف إلى تاريخ المكان، وبدأ البحث عن آثار القرى الفلسطينية المدمرة التي قامت على أنقاضها الكيبوتسات اليهودية، والمستوطنات التي أصبحت تكبر لتصير مدناً. واستمر بالبحث حتى قادته الأنقاض إلى الفلسطينيين أنفسهم في الشتات.

يعود المخرج عائد نبعة بهيروكاوا إلى البدايات، فيحمله في طائرة ويحلق به فوق القدس، ليعيد التقاط بعض الصور التي التقطها في السبعينيات واشتهرت كثيراً، للمسجد الأقصى وقبة الصخرة ومعالم المدينة المقدسة والمحتلة، ويمزج المخرج بين تلك المشهدية وبين أرشيف هيروكاوا القديم، وما بينهم يروي الحكاية من الذاكرة.

فعلى مدى سنواته الثلاث الأولى في فلسطين المحتلة التقطت مجموعة هامة من الصور للمدن الفلسطينية، وكذلك للقرى المدمرة، بل إنه استطاع توثيق عمليات التهجير والهدم التي قام بها جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب حزيران، ولأن الكاميرات لم يكن مسموحاً بها في ذلك الوقت من قبل سلطات الاحتلال، استغل هيروكاوا وجوده في الجانب الآخر، ووثق كل ما شاهده، وعاد بها إلى اليابان عام 1970، وحينها كانت معرفة اليابانيين قليلة جداً عن فلسطين وما يحدث فيها، فنشر أول كتبه عن فلسطين، كذلك نشر صوره في عدد من الصحف والمجلات اليابانية وبدأ المجتمع الياباني يتعرف إلى القضية الفلسطينية من خلال صوره ومشاهداته ومقالاته.

يعد هيروكاوا اليوم واحداً من الصحافيين اليابانيين المرموقين، حيث استطاع من خلال صوره ومعلوماته التأثير بالرأي العام الياباني تجاه القضية الفلسطينية، منذ أن نشر لأول مرة في اليابان عن القرى الفلسطينية المهجرة وكان حينها يبلغ من العمر 27 عاماً. كما تمكن الصحافي الياباني من أن يصنع أرشيفاً مصوراً عن القضية الفلسطينية يعد الأغنى في العالم، والذي استغرق فيه 50 عاماً.

تمكن فيه من تصوير وتوثيق 250 قرية هدمت في النكبة خلال أكثر من 50 عاماً، وذلك عبر التواصل مع أهلها وتوثيق أسماء عائلاتها وأماكن سكنهم الحالية، وكذلك مكان السكن الأصلي.

يروي هيروكاوا في الفيلم عن نقطة التحول الأهم التي حدثت في حياته، وذلك في الأشهر الأولى حين انتقل من كيبوتس داليا إلى كيبوتس ياد حنّا، وهناك أخبر أحدهم عن اهتمامه الكبير بمعرفة تاريخ قرية داليا التي يقوم على أنقاضها الكيبوتس الذي كان يسكنه، حينها أعطاه أحدهم خريطة وقال له: هذا ما تبحث عنه.

كانت خريطة قديمة لفلسطين قبل الاحتلال، ولاحظ أن مكان الكيبوتس كانت توجد قرية، وإلى جانب الكثير من القرى على الخريطة كتب بالعبرية (دمرت). 

على مدى زمن الفيلم لا ينفك هيروكاوا من التقاط الصور بكاميرته، كما لا تكفّ عدسة مخرج الفيلم عن متابعته أثناء التقاطه الصور، فتتابع العدسة العدسة الأخرى وما بينهما تظهر الصور القديمة من الأرشيف، وتروى حكاياتها وحكايات مصورها مع المكان، ليبدو الفيلم في جزئه البصري سرداً بصرياً جميلاً يعيد إحياء اللحظات التي التقت بها صور أصبحت مع الزمن مشهورةً عالمياً، وكما في كل أفلامه السابقة لا يكتفي عائد نبعة بالتوثيق العادي، بل يسعى لتحقيق الابهار البصري في زوايا لقطاته وحركتها وحيويتها.

من القدس، كيبوتس داليا، قرية كفر برعم التي يذهب المخرج وهيروكاوا إليها ليجدان المستوطنين قد هاجموا كنيستها ومقبرتها المسيحية وحطموا صلبانها وشواهد قبورها، إلى بيروت حيث صور هيروكاوا مذبحة صبرا وشاتيلا والاجتياح الإسرائيلي، ومن ثم إلى اليابان، وعودة لفلسطين المحتلة، حيث يلتقي هيروكاوا بسكان فلسطينيين هجروا من قراهم، يريهم صوراً لتلك القرى، ويوثق أسماء السكان قبل تهجيرهم.

أسس هيروكاوا في اليابان الهيئة اليابانية لدعم أطفال فلسطين، التي ترعى 247 طفلاً من أبناء المخيمات الفلسطينية، كما وساهم في تأسيس محكمة مجرمي الحرب في اليابان كذلك لمحاكمة أمراء الحرب الإسرائيليين.

ولأن البعد إنساني فلم تكن القضية الفلسطينية وحدها هي الحاضرة في وجدان هيروكاوا، فقد سافر كذلك في بدايات الحرب الأمريكية على أفغانستان لينقل من هناك أحداث الحرب من وجهة نظر الناس ومن زاوية مغايرة لوجهة نظر العدوان الأمريكي وآلته الإعلامية، ونقل لليابانيين صورة مغايرة عن تلك التي شاهدوها عبر الإعلام الأمريكي، صورة تنقل صوت الناس لا صوت آلة الحرب والدمار وماكينتها الإعلامية.