Abdul Rahman Katanani, olive tree, barbed wire, 100/90 cm, 2015
هذه الدولة بعد استواء تكوّنها المؤسساتي الديموقراطي إثر تفكيك دولة إسرائيل، دولة الأبارتهايد الكولونيالي، ستكون هي "دولة فلسطين العلمانية الديموقراطية" والتي سيتعايش فيها الفلسطيني مع اليهودي دون تمييز في الحقوق والواجبات بعد عودة اللاجئين واستعادة الحقوق المسلوبة للطرف الفلسطيني من قِبَل مؤسسات الدولة الصهيونية ذات الدور الأكبر في عملية النهب والسلب ومن قِبَل المُلاك اليهود، أفراداً كانوا و/أو مؤسسات وشركات خاصة.
تقديم
"الدولة شر لا بد منه"، والـ «دولة ـ الأمة" بالمعنى الأوروبي والفرنسي منه تحديداً (الدولة اليعقوبية) تبدو الآن وبوضوح كالمصدر الرئيسي للحركات الكولونيالية الماضية والراهنة ومصدراً لنشر العنصرية ولخوض حروب الإبادة الجماعية إبان الحربين العالميتين. هذه هي الفكرة الأكثر تداولاً الآن في العديد من محافل اليسار الراديكالي والشاب منه تحديداً.
هذه الدولة وإن وصفتها حنة أرندت (Hanna Arendt) بمصدر الاستبداد المُنَظَم تبقى شراً ضرورياً، وبالتالي لا بُدّ من مواصلة تلك الجهود العاملة على تقييدها ونزع هالة القداسة عنها وذلك لكونها في الجوهر سلطة القمع والقسر والإكراه واستتباع الفرد والمجتمع.
في هذا المناخ المعادي للدولة برز عدد من الجهود الفكرية لتفكيك الخطاب السلطوي الذي تُجسده ”الدولة ـ الامة" مُواصلاً لما قامت به حنة أرندت التي توصلت في الماضي إلى استنتاج يقول بأن "مبدأ السيادة" كواحد من المبادئ التأسيسية للدولة يتعارضُ من حيث الجوهر مع "مبدأ الحرية". سونيا دايان هيرزبرون (Sonia Dayan-Herzrun) ترى الْيَوْمَ بأن "الدولة ـ الأمة" لم تكن سوى "مشروع استعماري" في جوهره في "الداخل" الأوروبي المُستَعمِر كما في ”الخارج" المُستَعمَر (أو في "الطرف"). آن لورا ستولر (Ann Laura Stoler) بدورها ترى في إمبراطوريات الغرب الرأسمالي ـ النقدي ـ المالي المعولمة الحالية استمرارية طبيعية للإمبراطوريات الكولونيالية القديمة. ستولر ترى في الدولة الحديثة استمرارية للسلوك الكولونيالي الذي لم يتوقف رغم موجات حروب الاستقلال الوطني للمستعمرات، ذلك السلوك المُنتِج لدى المُستعمَر تاريخاً مغلقاً وحُطاماً وأطلالاً ومخيمات لجوء.
في هذا المناخ الفكري ليسارٍ أوروبي وغربي باحث عن مرجعيات جديدة للفكر وفي الممارسة، قد يبرُزُ التنظير الفلسطيني في "الدولة العلمانية الديمقراطية الواحدة" مُتناغماً مع هذه التوجهات الجديدة و/أو المُتجددة مما قد يجعل منه صوتاً مسموعاً من جديد بعد اضمحلال الحضور الفلسطيني على الصعيد الدولي بعد اتفاقيات أوسلو المشؤومة. طرح قضية "الدولة العلمانية الديمقراطية" قد يُمثِلُ من جهة استعادةً للمكانة المتميزة لقضية النضال الفلسطيني دولياً كما يُمثّلُ بالتأكيد محاولةً طموحة لتأسيس خطاب سياسي جديد ومقارباتٍ جديدة بخصوص الحقل السياسي والممارسة النضالية.
"دولة فلسطين "الأوسلوية
في سياق الحديث عن الدولة الفلسطينية، لا بُدّ من دراسة أو آليات تحوّل خطاب "بناء دولة فلسطين" إلى إطارٍ لتصفية "قضية فلسطين" إثر توقيع اتفاقيات "أوسلو" وذلك على يد من أعلى من شأن الكيانية الفلسطينية وحقها بالوجود. فشعار فتح التاريخي الذي شكّلَ حالة التفاف جماهيري واسع حول هذا البرنامج الوطني الفلسطيني المُتخَلّص من أوهام "الوحدة العربية" والتي ستأخذُ على عاتقها تحرير الوطن الفلسطيني، كان شعار "فلسطنة" النضال الفلسطيني المنفصل عن الحاضنة العربية المحيطة به وبالتالي، لم يكن هذا الشعار الاستقلالي بمواجهة الأنظمة العربية سوى تكريساً للانفصال عن الجماهير العربية وعن همومها وعن مساعيها المتعثرة لنيل الحرية ضد النظام العربي الاستبدادي.
شعارات الفلسطنة شَكّلت رغم ذلك رافعةً تاريخية للنضال الفلسطيني مما منحَ "حركة فتح" شرعية فلسطينية دون تقاسم مُشجعاً لها على تطبيق نظريتها الفلسطينية بالانفصال عن المحيط الإقليمي العربي تطبيقاً لشعار ”عدم التدخل الفلسطيني في الشؤون العربية".
في سياق هذه السيرورة التاريخية، اكتسى شعار بناء "الدولة الفلسطينية" أبعاداً "قُدسية" وهاجساً ثقيلاً يتربعُ على مركز الوعي الفلسطيني وكأن شعار استنهاض الكيانية الفلسطينية ليس سوى استنهاض لـ"قومية فلسطينية" تخيلية في خضم البحث الحثيث عن "دولتها" المنشودة.
وهكذا، كانت تلك "الدولة-الأمل" بمثابة صنمٍ قد نضحّي من أجله بالكثير وقد يكون هذا هو سر تماهي بعض القطاعات الاجتماعية في الضفة والقطاع تحديداً مع هذا المشروع الحاملِ زوال الاحتلال الاسرائيلي وأمالِ وأوهامِ وقف عملية الضم الزاحف وتوسع البناء الاستيطاني القاضم للمزيد من الأرض الفلسطينية.
"دولة فلسطين" ضمن هذا السياق الخصوصي، بدأت وكأنها تَستحضِرُ "جوانياً" في الوعي السياسي والشعوري الفلسطيني مفهوماً يقترِبُ من مفهوم "دولة-أمة" رغم انتقاصها أولاً لمقوماتٍ فعلية لكي تتشكلَ كدولة مستقلة بالفعل في الظل المشروع الصهيوني الذي لا يرى على أرض فلسطين التاريخية سوى دولته اليهودية الخالصة، ورغم عدم امتلاكها ثانياً للمقومات الضرورية لكي تُمَثّل "دولة-الأمة" التي لم تنظر بعد لكيانيتها ككيانِ أمة ناجزة (الشعب الفلسطيني الواعي لكيانيته منظوراً لها لا كأمةٍ وإنما كشعب ينتمي إلى "أمة" عربية بالأساس وعربية-إسلامية أحياناً أخرى ووصولاً للانتماء إلى "أمة إسلامية" في بعض الأحيان القليلة والجزئية).
ولكن، ورغم الشحنة المعنوية والشعورية القوية لدلات ووقعِ الآمالِ التي تثيرها وتستحضِرُها شعارات الاستقلال الوطني والدولة الوطنية والسيادة وما شابه، تبقى الحقائق عنيدة ألا وهي حقائق "موازين القوى" الفعلية على أرض المواجهة والتي لا ولن تسمح بتحقيق هذه الطموحات الوطنية في المدى المنظور (بناء دولة ذات سيادة فعلية في الضفة وغزة إضافةً إلى عودة اللاجئين الفعلية إلى ديارهم في فلسطين ٤٨ المُأسْرَلة).
برنامج أوسلو الذي لا تملك الأوساط المتنفذة في "فتح" سواه لتحقيق بناء "دولة فلسطين"، تحول مع مرور الزمن إلى أداة فعالة لتدمير "الكيانية الفلسطينية" الجامعة لكل أطياف الشعب في مختلف أماكن وجوده. وتلك الكيانية المُوَحِدة والتي كانت شعاراً فتحاوياً بامتياز تحولت إلى جهاز سلطوي مُلحَق بالمُحتل ومُنَفذاً لسياساتٍ تعمل على زرع الفرقة والتضارب في المصالح ما بين أبناء الوطن الواحد (ضفاوي وغزاوي ولاجئ في الداخل ولاجئ في الشتات وفلسطيني ٤٨).
أما جملة الامتيازات والتي حولت من بعض القيادات الفتحاوية إلى أشبه ما يكون بطبقة من الكمبرادور المعتاش على علاقاته المصلحية بالعدو الكولونيالي، فقد جاءت لكي تُفرغ المضمون الوطني المُفتَرَض لتلك الدولة المنشودة في برنامج تصفية القضية الفلسطينية تحت شعار "حل الدولتين".
ما بعد حل الدولتين: دولة علمانية ديموقراطية واحدة
في هذا السياق، قد نستطيع القول بأن التخلص من "النماذج والمقولات“ (البراديغم) المألوفة في الأدب السياسي الفلسطيني هي ضرورة حتمية للتقدم بالنضال الفلسطيني نحو الأمام ولكي يتخلص من مأزق النضال الفلسطيني الراهن. إزاحة المقولات والبراديغمات القديمة قد تتمُ من خلال العمل على صياغة منظومة فكرية جديدة لتوجيه العمل السياسي نحو اختطاط برامج استراتيجية وتكتيكية فاعلة نحو النضال لتحقيق نشوء دولةٍ واحدة ذات سمة علمانية ونظام سياسي ديمقراطي في فلسطين. دولة تتسعُ لجميع مواطنيها بعد عودة لاجئي فلسطين إلى ديارهم، كما تتسعُ أيضاً ليهود فلسطين المتخلصين من الصهيونية العنصرية والرافضين لها. دولة تضع قضايا وشعائر وطقوس الإيمان الديني بعيداً عن الدولة والمجال العام لتحصرها في المجال الخاص ولكي تصبح المرجعية القانونية المتجردة عن المرجعيات الدينية هي الحَكَم القاطع في تنظيم شؤون المجتمع والأسرة وقضايا الأحوال الشخصية.
"دولة المواطنة" في فلسطين بعد دحر دولة الأبارتهايد الإسرائيلية وهزيمة مشروعها الكولونيالي هي بحكم الضرورة "دولة علمانية-ما-بعد-قومية" في أرض فلسطين التاريخية (الانتدابية). هي إذن دولة "لا دين" لها بل إن دينها الوحيد هو "الحياد" بما يختص بقضايا المعتقدات الدينية وغير الدينية. دولةٌ تحمي وتصون معتقدات مواطنيها من دينية أو غير دينية أو فلسفية ولا تتدخلُ البتة في إدارة شؤونهم أو في توجيههم أو في تنظيمهم المؤسساتي. جوهر علمانية الدولة هو الحياد المطلق بخصوص المعتقدات والآراء والفلسفات وهو بالتالي، حمايةً للحريات الفردية والجماعية لـ «المواطن ـ الفرد" ولـ "المواطن كفردٍ في جماعة ذاتُ دينٍ ما".
الدولة العلمانية الفلسطينية هي أيضاً دولة "لا ـ مركزية ثقافياً" إذ لن تكون فقط الحامي والمُدافع عن "التنوع" الديني والمعتقدي لمواطنيها بل سوف تكون أيضاً الضامن للتنوع الإثني واللغوي والثقافي لمواطنيها وصولاً للسماح بنوعٍ من "الحكم الذاتي الثقافي واللغوي" لبعض التجمعات الكبرى المُعَبّرة عن تمايزها وخصوصياتها في مجالِ بُناها الثقافية والمعتقدية (جماعات الحريديم مثلاً الغيورة على خصوصياتها الدينية في أماكن سكنها في أحياء مُحَدَدة أو جماعات اشكنازية عاملة على المُحافظة على أنماطها الثقافية ولغتها العبرية المُأسرلة في أحياء أو مدنٍ تُمَثلُ فيها أغلبية واضحة).
هذه "الدولة المحايدة" سوف تدافع عن حقوق وحرية مواطنيها فلسطينيين (مقيمين ولاجئين عائدين) ويهود أُسْرِلوا وشُوّهَ وعيهم بفعل الآلة الأيديولوجية الصهيونية (يمكن العودة إلى أبحاث "تال دور" Tal Dor بخصوص نزع الوعي الاستعماري كخطوة أولى لإنجاز وعي تحرري). حريٌ القول هنا بأن المواطنة في شقها اليهودي سوف تتعلقُ من جهة بالمواطن ـ الفرد بالمُطلق كما تتعلقُ بـِ"الجماعات الطائفية، الإثنية واللغوية في قلب التجمع اليهودي من جهة أخرى. سياسياً، سوف يتساوى المواطن اليهودي مع المواطن الفلسطيني على قاعدة مواطن ـ مواطنة واحد (ة) = صوت انتخابي واحد مما سينأى بالمواطنة عن طُفيليات وتطفُلِ الانتماءات الإثنية والقومية الضارة. المواطنة السياسية هنا، سوف تكون مواطنة منفصلة عن عوامل الانتماء القومي والهوياتي والطائفي والديني. ولكن، إذا ما كانت هذه المقاربة للمواطن ـ الفرد سياسياً تُجَرّده من مواقعه "الجمعية" الضيقة مُحولةً له إلى "مُعطياً" تجريدياً (دون لونٍ أو رائحة)، لا بُدّ من الاعتراف بالقوة الصاعدة للنزعات الهوياتية وللخصوصيات الثقافية المُعَكّرة لانتماء الفرد إلى "الدولة الديموقراطية" المُتَرَفّعة عن "صغائر" و"ضغائن" الهويات المُتضاربة في رحمها وفي محيطاتها الاقليمية والدولية. هذه "النزعات الانغلاقية" تتكاثر طرداً مع اشتداد تيارات العولمة فالمزيد من الانفتاح يُولّدُ المزيد من الانغلاق خوفاً من تلاشي الهويات المحلية والخصوصيات الثقافية. هنا، وبوجود إرثٍ صهيوني قوي الحضور نحو المزيد من الانغلاق اليهودي بمواجهة "الآخر"، تُضافُ عوامل العولمة الزاحفة باضطراد لتخلق المزيد من العوامل المُعاكِسة للاندماج في ”مواطنة ـ المساواة" الكاملة.
على ضوء هذه الصورة المُعَقَدة، لا بُدّ أن يُقَدّم الخطاب السياسي العلماني الفلسطيني تعريفاً واضحاً لجوهر المواطنة منظوراً لها من زاوية الفرد المُجرد ومن زاوية الفرد المرتبط بجماعة خصوصية. علاقة الفرد بالمؤسسة السياسية وبالحقل السياسي عموماً هي علاقة لا تحكمها أية اعتبارات متعلقة بالهوية أو باللون أو بالعرق القومي أو بالدين أو باللغة أو بالجنس، فالمواطنون سواسية كأسنان المشط. أما علاقة الفرد بالحقل السياسي منظوراً له كجزءٍ من "جماعة" خصوصية، فهو الفرد المُتَمَتّع بحماية الدولة لثقافته وللغته المُستَمَدة من انتماءٍ حصري لطائفة و/أو لجماعة ثقافية ولغوية.
هذه الدولة بعد استواء تكوّنها المؤسساتي الديموقراطي إثر تفكيك دولة إسرائيل، دولة الأبارتهايد الكولونيالي، ستكون هي "دولة فلسطين العلمانية الديموقراطية" والتي سيتعايش فيها الفلسطيني مع اليهودي دون تمييز في الحقوق والواجبات بعد عودة اللاجئين واستعادة الحقوق المسلوبة للطرف الفلسطيني من قِبَل مؤسسات الدولة الصهيونية ذات الدور الأكبر في عملية النهب والسلب ومن قِبَل المُلاك اليهود، أفراداً كانوا و/أو مؤسسات وشركات خاصة.
"الدولة شر لا بد منه"، والـ «دولة ـ الأمة" بالمعنى الأوروبي والفرنسي منه تحديداً (الدولة اليعقوبية) تبدو الآن وبوضوح كالمصدر الرئيسي للحركات الكولونيالية الماضية والراهنة ومصدراً لنشر العنصرية ولخوض حروب الإبادة الجماعية إبان الحربين العالميتين. هذه هي الفكرة الأكثر تداولاً الآن في العديد من محافل اليسار الراديكالي والشاب منه تحديداً.
هذه الدولة وإن وصفتها حنة أرندت (Hanna Arendt) بمصدر الاستبداد المُنَظَم تبقى شراً ضرورياً، وبالتالي لا بُدّ من مواصلة تلك الجهود العاملة على تقييدها ونزع هالة القداسة عنها وذلك لكونها في الجوهر سلطة القمع والقسر والإكراه واستتباع الفرد والمجتمع.
في هذا المناخ المعادي للدولة برز عدد من الجهود الفكرية لتفكيك الخطاب السلطوي الذي تُجسده ”الدولة ـ الامة" مُواصلاً لما قامت به حنة أرندت التي توصلت في الماضي إلى استنتاج يقول بأن "مبدأ السيادة" كواحد من المبادئ التأسيسية للدولة يتعارضُ من حيث الجوهر مع "مبدأ الحرية". سونيا دايان هيرزبرون (Sonia Dayan-Herzrun) ترى الْيَوْمَ بأن "الدولة ـ الأمة" لم تكن سوى "مشروع استعماري" في جوهره في "الداخل" الأوروبي المُستَعمِر كما في ”الخارج" المُستَعمَر (أو في "الطرف"). آن لورا ستولر (Ann Laura Stoler) بدورها ترى في إمبراطوريات الغرب الرأسمالي ـ النقدي ـ المالي المعولمة الحالية استمرارية طبيعية للإمبراطوريات الكولونيالية القديمة. ستولر ترى في الدولة الحديثة استمرارية للسلوك الكولونيالي الذي لم يتوقف رغم موجات حروب الاستقلال الوطني للمستعمرات، ذلك السلوك المُنتِج لدى المُستعمَر تاريخاً مغلقاً وحُطاماً وأطلالاً ومخيمات لجوء.
في هذا المناخ الفكري ليسارٍ أوروبي وغربي باحث عن مرجعيات جديدة للفكر وفي الممارسة، قد يبرُزُ التنظير الفلسطيني في "الدولة العلمانية الديمقراطية الواحدة" مُتناغماً مع هذه التوجهات الجديدة و/أو المُتجددة مما قد يجعل منه صوتاً مسموعاً من جديد بعد اضمحلال الحضور الفلسطيني على الصعيد الدولي بعد اتفاقيات أوسلو المشؤومة. طرح قضية "الدولة العلمانية الديمقراطية" قد يُمثِلُ من جهة استعادةً للمكانة المتميزة لقضية النضال الفلسطيني دولياً كما يُمثّلُ بالتأكيد محاولةً طموحة لتأسيس خطاب سياسي جديد ومقارباتٍ جديدة بخصوص الحقل السياسي والممارسة النضالية.
"دولة فلسطين "الأوسلوية
في سياق الحديث عن الدولة الفلسطينية، لا بُدّ من دراسة أو آليات تحوّل خطاب "بناء دولة فلسطين" إلى إطارٍ لتصفية "قضية فلسطين" إثر توقيع اتفاقيات "أوسلو" وذلك على يد من أعلى من شأن الكيانية الفلسطينية وحقها بالوجود. فشعار فتح التاريخي الذي شكّلَ حالة التفاف جماهيري واسع حول هذا البرنامج الوطني الفلسطيني المُتخَلّص من أوهام "الوحدة العربية" والتي ستأخذُ على عاتقها تحرير الوطن الفلسطيني، كان شعار "فلسطنة" النضال الفلسطيني المنفصل عن الحاضنة العربية المحيطة به وبالتالي، لم يكن هذا الشعار الاستقلالي بمواجهة الأنظمة العربية سوى تكريساً للانفصال عن الجماهير العربية وعن همومها وعن مساعيها المتعثرة لنيل الحرية ضد النظام العربي الاستبدادي.
شعارات الفلسطنة شَكّلت رغم ذلك رافعةً تاريخية للنضال الفلسطيني مما منحَ "حركة فتح" شرعية فلسطينية دون تقاسم مُشجعاً لها على تطبيق نظريتها الفلسطينية بالانفصال عن المحيط الإقليمي العربي تطبيقاً لشعار ”عدم التدخل الفلسطيني في الشؤون العربية".
في سياق هذه السيرورة التاريخية، اكتسى شعار بناء "الدولة الفلسطينية" أبعاداً "قُدسية" وهاجساً ثقيلاً يتربعُ على مركز الوعي الفلسطيني وكأن شعار استنهاض الكيانية الفلسطينية ليس سوى استنهاض لـ"قومية فلسطينية" تخيلية في خضم البحث الحثيث عن "دولتها" المنشودة.
وهكذا، كانت تلك "الدولة-الأمل" بمثابة صنمٍ قد نضحّي من أجله بالكثير وقد يكون هذا هو سر تماهي بعض القطاعات الاجتماعية في الضفة والقطاع تحديداً مع هذا المشروع الحاملِ زوال الاحتلال الاسرائيلي وأمالِ وأوهامِ وقف عملية الضم الزاحف وتوسع البناء الاستيطاني القاضم للمزيد من الأرض الفلسطينية.
"دولة فلسطين" ضمن هذا السياق الخصوصي، بدأت وكأنها تَستحضِرُ "جوانياً" في الوعي السياسي والشعوري الفلسطيني مفهوماً يقترِبُ من مفهوم "دولة-أمة" رغم انتقاصها أولاً لمقوماتٍ فعلية لكي تتشكلَ كدولة مستقلة بالفعل في الظل المشروع الصهيوني الذي لا يرى على أرض فلسطين التاريخية سوى دولته اليهودية الخالصة، ورغم عدم امتلاكها ثانياً للمقومات الضرورية لكي تُمَثّل "دولة-الأمة" التي لم تنظر بعد لكيانيتها ككيانِ أمة ناجزة (الشعب الفلسطيني الواعي لكيانيته منظوراً لها لا كأمةٍ وإنما كشعب ينتمي إلى "أمة" عربية بالأساس وعربية-إسلامية أحياناً أخرى ووصولاً للانتماء إلى "أمة إسلامية" في بعض الأحيان القليلة والجزئية).
ولكن، ورغم الشحنة المعنوية والشعورية القوية لدلات ووقعِ الآمالِ التي تثيرها وتستحضِرُها شعارات الاستقلال الوطني والدولة الوطنية والسيادة وما شابه، تبقى الحقائق عنيدة ألا وهي حقائق "موازين القوى" الفعلية على أرض المواجهة والتي لا ولن تسمح بتحقيق هذه الطموحات الوطنية في المدى المنظور (بناء دولة ذات سيادة فعلية في الضفة وغزة إضافةً إلى عودة اللاجئين الفعلية إلى ديارهم في فلسطين ٤٨ المُأسْرَلة).
برنامج أوسلو الذي لا تملك الأوساط المتنفذة في "فتح" سواه لتحقيق بناء "دولة فلسطين"، تحول مع مرور الزمن إلى أداة فعالة لتدمير "الكيانية الفلسطينية" الجامعة لكل أطياف الشعب في مختلف أماكن وجوده. وتلك الكيانية المُوَحِدة والتي كانت شعاراً فتحاوياً بامتياز تحولت إلى جهاز سلطوي مُلحَق بالمُحتل ومُنَفذاً لسياساتٍ تعمل على زرع الفرقة والتضارب في المصالح ما بين أبناء الوطن الواحد (ضفاوي وغزاوي ولاجئ في الداخل ولاجئ في الشتات وفلسطيني ٤٨).
أما جملة الامتيازات والتي حولت من بعض القيادات الفتحاوية إلى أشبه ما يكون بطبقة من الكمبرادور المعتاش على علاقاته المصلحية بالعدو الكولونيالي، فقد جاءت لكي تُفرغ المضمون الوطني المُفتَرَض لتلك الدولة المنشودة في برنامج تصفية القضية الفلسطينية تحت شعار "حل الدولتين".
ما بعد حل الدولتين: دولة علمانية ديموقراطية واحدة
في هذا السياق، قد نستطيع القول بأن التخلص من "النماذج والمقولات“ (البراديغم) المألوفة في الأدب السياسي الفلسطيني هي ضرورة حتمية للتقدم بالنضال الفلسطيني نحو الأمام ولكي يتخلص من مأزق النضال الفلسطيني الراهن. إزاحة المقولات والبراديغمات القديمة قد تتمُ من خلال العمل على صياغة منظومة فكرية جديدة لتوجيه العمل السياسي نحو اختطاط برامج استراتيجية وتكتيكية فاعلة نحو النضال لتحقيق نشوء دولةٍ واحدة ذات سمة علمانية ونظام سياسي ديمقراطي في فلسطين. دولة تتسعُ لجميع مواطنيها بعد عودة لاجئي فلسطين إلى ديارهم، كما تتسعُ أيضاً ليهود فلسطين المتخلصين من الصهيونية العنصرية والرافضين لها. دولة تضع قضايا وشعائر وطقوس الإيمان الديني بعيداً عن الدولة والمجال العام لتحصرها في المجال الخاص ولكي تصبح المرجعية القانونية المتجردة عن المرجعيات الدينية هي الحَكَم القاطع في تنظيم شؤون المجتمع والأسرة وقضايا الأحوال الشخصية.
"دولة المواطنة" في فلسطين بعد دحر دولة الأبارتهايد الإسرائيلية وهزيمة مشروعها الكولونيالي هي بحكم الضرورة "دولة علمانية-ما-بعد-قومية" في أرض فلسطين التاريخية (الانتدابية). هي إذن دولة "لا دين" لها بل إن دينها الوحيد هو "الحياد" بما يختص بقضايا المعتقدات الدينية وغير الدينية. دولةٌ تحمي وتصون معتقدات مواطنيها من دينية أو غير دينية أو فلسفية ولا تتدخلُ البتة في إدارة شؤونهم أو في توجيههم أو في تنظيمهم المؤسساتي. جوهر علمانية الدولة هو الحياد المطلق بخصوص المعتقدات والآراء والفلسفات وهو بالتالي، حمايةً للحريات الفردية والجماعية لـ «المواطن ـ الفرد" ولـ "المواطن كفردٍ في جماعة ذاتُ دينٍ ما".
الدولة العلمانية الفلسطينية هي أيضاً دولة "لا ـ مركزية ثقافياً" إذ لن تكون فقط الحامي والمُدافع عن "التنوع" الديني والمعتقدي لمواطنيها بل سوف تكون أيضاً الضامن للتنوع الإثني واللغوي والثقافي لمواطنيها وصولاً للسماح بنوعٍ من "الحكم الذاتي الثقافي واللغوي" لبعض التجمعات الكبرى المُعَبّرة عن تمايزها وخصوصياتها في مجالِ بُناها الثقافية والمعتقدية (جماعات الحريديم مثلاً الغيورة على خصوصياتها الدينية في أماكن سكنها في أحياء مُحَدَدة أو جماعات اشكنازية عاملة على المُحافظة على أنماطها الثقافية ولغتها العبرية المُأسرلة في أحياء أو مدنٍ تُمَثلُ فيها أغلبية واضحة).
هذه "الدولة المحايدة" سوف تدافع عن حقوق وحرية مواطنيها فلسطينيين (مقيمين ولاجئين عائدين) ويهود أُسْرِلوا وشُوّهَ وعيهم بفعل الآلة الأيديولوجية الصهيونية (يمكن العودة إلى أبحاث "تال دور" Tal Dor بخصوص نزع الوعي الاستعماري كخطوة أولى لإنجاز وعي تحرري). حريٌ القول هنا بأن المواطنة في شقها اليهودي سوف تتعلقُ من جهة بالمواطن ـ الفرد بالمُطلق كما تتعلقُ بـِ"الجماعات الطائفية، الإثنية واللغوية في قلب التجمع اليهودي من جهة أخرى. سياسياً، سوف يتساوى المواطن اليهودي مع المواطن الفلسطيني على قاعدة مواطن ـ مواطنة واحد (ة) = صوت انتخابي واحد مما سينأى بالمواطنة عن طُفيليات وتطفُلِ الانتماءات الإثنية والقومية الضارة. المواطنة السياسية هنا، سوف تكون مواطنة منفصلة عن عوامل الانتماء القومي والهوياتي والطائفي والديني. ولكن، إذا ما كانت هذه المقاربة للمواطن ـ الفرد سياسياً تُجَرّده من مواقعه "الجمعية" الضيقة مُحولةً له إلى "مُعطياً" تجريدياً (دون لونٍ أو رائحة)، لا بُدّ من الاعتراف بالقوة الصاعدة للنزعات الهوياتية وللخصوصيات الثقافية المُعَكّرة لانتماء الفرد إلى "الدولة الديموقراطية" المُتَرَفّعة عن "صغائر" و"ضغائن" الهويات المُتضاربة في رحمها وفي محيطاتها الاقليمية والدولية. هذه "النزعات الانغلاقية" تتكاثر طرداً مع اشتداد تيارات العولمة فالمزيد من الانفتاح يُولّدُ المزيد من الانغلاق خوفاً من تلاشي الهويات المحلية والخصوصيات الثقافية. هنا، وبوجود إرثٍ صهيوني قوي الحضور نحو المزيد من الانغلاق اليهودي بمواجهة "الآخر"، تُضافُ عوامل العولمة الزاحفة باضطراد لتخلق المزيد من العوامل المُعاكِسة للاندماج في ”مواطنة ـ المساواة" الكاملة.
على ضوء هذه الصورة المُعَقَدة، لا بُدّ أن يُقَدّم الخطاب السياسي العلماني الفلسطيني تعريفاً واضحاً لجوهر المواطنة منظوراً لها من زاوية الفرد المُجرد ومن زاوية الفرد المرتبط بجماعة خصوصية. علاقة الفرد بالمؤسسة السياسية وبالحقل السياسي عموماً هي علاقة لا تحكمها أية اعتبارات متعلقة بالهوية أو باللون أو بالعرق القومي أو بالدين أو باللغة أو بالجنس، فالمواطنون سواسية كأسنان المشط. أما علاقة الفرد بالحقل السياسي منظوراً له كجزءٍ من "جماعة" خصوصية، فهو الفرد المُتَمَتّع بحماية الدولة لثقافته وللغته المُستَمَدة من انتماءٍ حصري لطائفة و/أو لجماعة ثقافية ولغوية.
هذه الدولة بعد استواء تكوّنها المؤسساتي الديموقراطي إثر تفكيك دولة إسرائيل، دولة الأبارتهايد الكولونيالي، ستكون هي "دولة فلسطين العلمانية الديموقراطية" والتي سيتعايش فيها الفلسطيني مع اليهودي دون تمييز في الحقوق والواجبات بعد عودة اللاجئين واستعادة الحقوق المسلوبة للطرف الفلسطيني من قِبَل مؤسسات الدولة الصهيونية ذات الدور الأكبر في عملية النهب والسلب ومن قِبَل المُلاك اليهود، أفراداً كانوا و/أو مؤسسات وشركات خاصة.