يستحقّ كلّ إنسان إمتلاك قصة ما والأجمل أن تكونَ قصة حبّ يرويها بحريّة مطلقة، ربما تكون الحريّة الوحيدة المطلقة والكاملة التي ليس بمقدور أحد أن يسلبها منه. أن يحكي قصته ويظلّ يجرّب فيها ويخلقها ويشكلها بالقدر وبالشكل الذي يحلو له. ويدعو سامعه الى تلمّس الإنفعال الجسدي الذي رافقه في وقت حصول الحدث لكن هذه المرّة عبر الإنفعال الفكري. كما لو أن للأفكار قدرة على الإنفعال تماثلُ قدرة الجسد عليه. الأفكار تنفعل. انتهى السرد.
ينطلق السرد..ثم فجأة انقطاع في نبرة الصوت مترافق بجدية تحيط بظاهر الخطاب الذي كان ما زال يتابع، الى النقطة تلك، مساره بسلاسة. فتأخذ الجملة منحى من يريد الاعلان عن شيء مذهل قد حدث له. كيف ولد الاحساس بالحب؟ هكذا تماما "شيء ما قد حدث". لقد ولد الحب.
قصص الحب دائماً ما تتحيّن الوقت منتظرةً امكانية للبوح. تعبق برائحتها الأمكنة الداخلية الى الحدّ الذي يصعب حتّى على تلك الأمكنة إحتوائها، فتنسلّ خارجاً الى العلن. في بنيّتها، ما يشبه النزعة تدفع بها إلى ضوء الافصاح إن استحالت ذكرى لماضٍ أو بقيت وميض أملٍ للآتي من الأيام. تدرك تلك القصص أنها لن تستطيع البقاء متواريةً طويلاً، وأن عليها الخروج يوماً ما الى إطار التواصل الرحب بكلّ ما أتيح لها من عناصر البلاغ والتعبير.
تتقاطع الصور والأحداث في السياق السرديّ لأي رواية حبّ بهدف القبض على تلك اللّحظة-الإحساس التي تشكلّ محور السؤال. تتكثّف مع ظهور، فجأة، لفكرةٍ جديدة تكونُ في غاية الدقة منفصلة الى الآن عن ألفة الأفكار المتداولة عادة عن مثل هذا الموضوع في روايةٍ محكيّة، مكتوبة، أو في استراقٍ لذيذ للسّمع. يكفي أن يثير الإنتباه، بشكل مباغت، تفصيل صغير، حدث عابر او ضجة خافتة لإستخراج ما كان الى الآن دون إسم، ومن المتعذّر تمييزه في مجرى الحياة الداخليّة. يتحوّل النظر اليه، يدركه، ثم يبرزه ويعطيه إسماً وبالتالي معنى، لتظهر بعده كلمة "أحبّ" محدثة تشوّشات، في التوقيت ذاته، في نفس من يروي ومن يتلقى.
تنتقل "أحبّ" من صمت الأحاسيس الى صدى الكلمة التي تطلقها. تعبرُ، فجأة، كحدثٍ نفسيّ أتى على حين غرّة، دون إستعداد له.
لعبارة "حدث نفسي" دلالة محدّدة في علم النفس. لكونها تشير الى أن الحدث الوحيد المخوّل إطلاق عليه هذه التسمية، هو "التروما" أو الصدمة النفسيّة. حين يتعرّض الإنسان لحادثة مدمّرة، يشعر معها أن فكرة الموت لم تعد مجرد تصوّر، أصبحت واقعاً مرعباً في قربه منه، يختلّ على إثرها توازنه البسيكولوجيّ. يؤخذ بعين الإعتبار، عند معالجة حالات التروما، أنها كيان مقفل على ذاته، يعجز المرء عن هضمه وبالتالي مزجه كمكوّن إضافيّ في حياته الداخليّة. يبقى هكذا على حاله لحين توفّر إمكانية إسقاطه ضمن بنية سرديّة.
هكذا هو الحبّ على لسان من دُعيَ الى سرد وقائع ولادته، لحظة إنقطاع. تنكسر عندها سلسلة الأحداث والسرد، مع حيّزٍ دائم لكلمة "فجأة"، وفجأة تعني بعد مسار باطنيّ طويل، لكن إيرادها في معرض روايته، يكون لهدفِ إضفاء شحنة عاطفيّة مركّزة على الحدث، كمن يتقصّد مماثلة لحظة ولادة الحبّ باللّحظة الصادمة.
أما لحظة إنتهاء الحبّ “Le désamour” هي الأخرى تُروى على أنها لحظة مباغتة، ربما لأن ذاكرة الإنسان تعمل بتواتر وتقطّع، تراكمُ الأحاسيس والإنطباعات ليَفيق المرء على واقعٍ أن الحبّ انتهى.
تفرض هذه المحاولة على نفسها وصف للطريقة التي يُروى بها الحبّ في السرد الحكائيّ، مستلهمةً من نتاجَين ثقافيَّين. الأول، دراسة للناقد الأدبي السويسري Jean Rousset بعنوان «Leurs yeux se rencontrèrent» عن مشهد اللقاء الأول بين الحبيبين في أهمّ الروايات التي تنتمي الى الكنز الأدبي الفرنسي مثل أعمال روسو، رابليه، اندريه بروتون، غوتيه، فلوبير، ايليودور، كريتيان دو تروا. يلفت الكاتب الى شبه حتمية وجود مشهد تلاقي العيون للمرة الأولى كتقليد يتكرّر كحدث إفتتاحي وسببيّ في غالبية الروايات، لما له من تأثير في تتابع واستيلاد للأحداث اللاحقة.
أما العمل الثاني الملهِم هو «L’usage de la parole» للأديبة الفرنسية من أصل روسي Nathalie Sarraute حيث تتناول الكاتبة بشكل دراميّ، بين جملةِ كلامٍ آخر، كلمة "حبّ" لأنها تنطوي على احتماليّة عالية غالبا ما تكون غير منتظرة أو غير معروف تأثيرها على القارئ. تدعو الكاتبة قارئها الى زهو الدخول الى أماكن حميمة، دون جرأة التلصص على مضمون ما يقال. أصلاً ليس مهماً ما يقال. بين شخصان وجوههما ممحيّة، هنالك همس فقط، تمتمات لأكثر الكلمات خفراً وحذراً. هوائيّة، رشيقة، ترفرف على مسافات قصيرة كأشعة شمسٍ عكستها من زاوية واحدة، مرايا وُضِعت من جهة وأخرى، كالذبذبات هي. هنالك في لحظة معينة، ستمدّ كلمة حبّ ذراعها تجاهنا نحن القرّاء، ستجذبنا اليها، لنشهد على ولادته. ولادة الحبّ.
يستحقّ كلّ إنسان إمتلاك قصة ما والأجمل أن تكونَ قصة حبّ يرويها بحريّة مطلقة، ربما تكون الحريّة الوحيدة المطلقة والكاملة التي ليس بمقدور أحد أن يسلبها منه. أن يحكي قصته ويظلّ يجرّب فيها ويخلقها ويشكلها بالقدر وبالشكل الذي يحلو له. ويدعو سامعه الى تلمّس الإنفعال الجسدي الذي رافقه في وقت حصول الحدث لكن هذه المرّة عبر الإنفعال الفكري. كما لو أن للأفكار قدرة على الإنفعال تماثلُ قدرة الجسد عليه. الأفكار تنفعل. انتهى السرد.