وهذا يذكر بما كتبه ألكسندر بومغارتن في أولى كتب علم الجمال، الذي حمل عنوان «الإستطيقا»، الذي كتب فيه: "الفن، هو أن أرى العالم على نحو ما أنا عليه، لا على النحو الذي عليه العالم. والفنان هو من يمنحنا عيوناً نرى بها العالم."
"عل العكس من الأفكار السائدة، لا يكفي أن نرى حتى نكون في مستوى الحكم على ما نرى، ذلك لأنه حتى نرى جيداً، يجب أن نعرف، نعرف إلى ماذا ننظر وكيف ننظر في ما نرى." بهذه العبارة المقتبسة من دينيس ريهو، يقدم المؤلف خليل قويعة كتابه بعنوان «العمل الفني وتحولاته بين النظر والنظرية: محاولة في إنشائية النظر» الصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في ٢٠١٩. يهتم الكتاب بالبحث في إيجاد مقاربة إنشائية للعمل الفني في الفن المعاصر، إنطلاقاً من التحولات التي تخوضها عملية النظر بين مسار الإنتاج ومسار القراءة.
يتألف الكتاب من ثلاثة فصول رئيسية. الفصل الأول: ثقافة النظر في ثقافة الفكر الجمالي، الفصل الثاني: إنشائية المرئي بين الذات والعالم، الفصل الثالث: العمل الفني في عالم الفن بين النظر والنظرية. ومن هذه العناوين نتلمس رغبة المؤلف في تأسيس إنشائية فنية/جمالية لا تحتكم إلى متابعة مسار الإنتاج أو الفعل الفني في ورشة الفنان، بل الكتاب يقترح إنشائية تختبر مسار الإنتاج وتشارك في تأسيسه ورسم خطوطه انطلاقاً من متابعة مسار النظر وسلوك العين. هذا يعني انتقالاً في دراسة العمل الفني من أساليب الإبداع والابتكار إلى أساليب التلقي والمشاهدة: "إن الناظر هو من يصنع اللوحة"، على غرار مقولة خورخي لويس بورخيس: "القارئ مشارك في إبداع النص"، ما يجعل من النظر والمشاهدة والمشاركة أفعالاً من صميم الإشتغال الإبداعي الذي يتحقق من خلاله العمل الفني كعمل فني. لذلك يركز الكتاب على النقلة التي حققتها الكتابات النقدية والأطروحات المفاهيمية التي نقلت الأبحاث الفنية من جمالية الإنتاج إلى جمالية التلقي.
يطرح المؤلف ألا يبقى النظر على هامش مجريات الحادث الإنتاجي في ورشة الفنان (أي دوره في إنتاج العمل الفني)، بل الذهاب في التفكير بدور النظر أبعد من عملية الإنتاج الأولي. الذهاب إلى التأمل في العين التي تفكر، والعين التي تعكس كون الأنا الداخلية، هي التي تضمن الحوار الخصب بين اللوحة الفنية وجمهورها. يكتب ميرلو بونتي في كتابه «العين والعقل»: "ليس المهم العالم/الموضوع، بل المهم هو طريقة إدراكنا له."
فعل "النظر" في ثقافة الفكر الجمالي
في الفصل الأول ينطلق المؤلف من المعاني المعجمية لفعل النظر، ليوسع مدارك القارئ حيال المدركات العديدة المتعلقة بهذا الفعل: "فعل النظر يتجاوز البصر الفيزيائي ليحتمل تدخل ملكات أخرى ذهنية، مثل التذهن والتعقل والتفكر." يعمل المؤلف على تفنيد مفهوم النظر إلى معانيه الحسية، التأملية، وما يحمله من معاني التأمل والإدراك، أي النظر الذهني، وبالتالي دور النظر في الحكم والتقويم: "أن ننظر هو أن نقوم، أن نثمن ونحكم ونأخذ مأخذاً، على نحو ما ورد في المعجم الفرنسي". هنا، التساؤل الذي يطرحه المؤلف بشكل مباشر: "كيف نستثمر هذه المعطيات المعجمية؟ هل لها أن تخدم محاولة تنزيل النظر تنزيلاً إنتاجياً وإبداعياً؟"
يرى المؤلف أن العين كانت منسية في فن القرون الوسطى، بل إنها لم تكن سوى نافذة وسيطة للروح تمكننا من التواصل مع اللامرئي الذي ندركه ذهنياً ورمزياً في شكل صور وأيقونات، فيما أصبحت مع النهضة أداة للإدراك والملاحظة والقياس، واتخذت العالم الطبيعي موضوعاً للنظر.
يقترح علينا المؤلف العودة إلى كتابات ماري آن لاسكوريه عن جمالية التلقي، التي تفترض النظر الجديد في ماهية الفن وتحديد مفهومه فالسؤال الجمالي التقليدي "ما هو الفن؟" ينزع إلى إتخاذ شكل جديد ليصبح "متى يكون هناك فن؟"، وهنا يستشهد المؤلف بما كتبه غيوم آلاري في بحثه بعنوان «عين الجمهور»: "أن نفكر في الفن، لا أن ننكب على أعماله وآثاره، بقدر ما نتجه إلى الإنعكاس الذي توقده هذه الأعمال في عين الجمهور. تلك هي إضاءة الفلسفة الجمالية الحديثة."
أيضاً لتأكيد محورية النظر في إدراك العمل الفني، يعود بنا المؤلف إلى الفلسفة الكانطية في «نقد ملكة الحكم»، حيث يبرهن إلى أي مدى تكتسب الذات المتذوقة منزلة مهمة ورئيسة في علاقتها بالأثر الجمالي مع موضوع فني ما، وكان أوسكار وايلد قد ذهب إلى أبعد الحدود في مقاربته هذا الطرح الحداثي حين قال: "إن الأشياء توجد لأننا نراها"، وبناءً على ذلك، فقد أكد كانط أن الحكم الجمالي، هو حكم ذاتي مستقل، عمد إلى تسميته بـ "حكم الذائقة"، فأصبح الحكم الجمالي عند كانط هو إحساس، لذلك نفى عجز المرء عن تكوين حكم جمالي تجاه أي عمل فني، مؤكداً أن موضوع اللوحة التي نراها ليس مسألة معرفة وتفكير حتى نعجز عن إبداء تفاعلنا معها، بل هي تجربة وجدانية يتم الحكم عليها بناءً على أثرها الحسي.
الفن كتجربة إدراكية
كما رأينا، فإن الحداثة التنويرية قد حولت موضوع النظر من كونه موضوع معرفة حسية، فيزيائية من جهة، وموضوع معرفة روحانية، ميتافيزيقية من جهة أخرى، إلى كونه موضوعاً تتدبر أمره الذات المتذوقة في تواصلها مع الجميل، حتى وإن كان هذا الجميل متمسكاً بمنطلقاته الفيزيائية على نحو ما يراه دينيس ديدرو الذي ميز الكائن الجميل: "بالقياس إلى ما نلاحظه فيه من علاقات وتناسبات، إنها علاقات واقعية موجودة فيه، نلاحظها ذهنياً بواسطة حواسنا."
بالاستناد إلى مثل هذه الأطروحات، يطرح المؤلف لإنشائية النظر ودوره الأنطولوجي في رؤية الأعمال الفنية وتأويلها وإعادة خلقها داخل النظرية، أو تأسيسها الثقافي داخل "عالم الفن"، فالنظر ليس طريقاً للنفاذ إلى العمل الفني فحسب، بل هو أيضاً ما يتمظهر من خلاله العمل الفني عملاً فنياً. وبالتوازي، هناك أعمال فنية، لأن هناك ذواتاً تدركها، تنظر إليها وفيها، وليس العكس، والمتلقي هو المبدع وذلك من خلال عملية ودور النظر، أي التلقي.
وهذا يذكر بما كتبه ألكسندر بومغارتن في أولى كتب علم الجمال، الذي حمل عنوان «الإستطيقا»، الذي كتب فيه: "الفن، هو أن أرى العالم على نحو ما أنا عليه، لا على النحو الذي عليه العالم. والفنان هو من يمنحنا عيوناً نرى بها العالم."
وعلى هذا الأساس يهتم فيلسوف آخر وهو ميرلو بونتي بعمل الرسام/المصور بصفة خاصة، فالفنان لا يفصل الأشياء التي تظهر أمام أعيننا ثابتة، عن وضعيتها المتحركة التي رافقت عملية ظهورها، بل إنه يقدم لنا المادة وهي بصدد الظهور في شكل ما، كما يقدم لنا النظام البصري للأشياء وهو بصدد التكون بفعل ترتيب تلقائي. لذلك وجد ميرلو بونتي في التجربة الفنية مجالاً خصباً لتأكيد قدرات العين المفكرة فينومينولوجياً. فالمصور منخرط فيما يرى من العالم، ولا يلتزم بمسافة مشروطة بين الذات والموضوع لإقامة فعل تفكري أو تعقلي. إنه يفكر بصرياً وجسدياً داخل معيش التجربة المحايثة من دون تعال أو موضعة، من خلال هذا التماس المباشر مع مادة العالم، فيكتب ميرلو بونتي: "إن الرسام هو الوحيد الذي له الحق في النظر إلى جميع الأشياء من دون التزام بتقويم ما ينظر إلي."
على هذا النحو تتجلى إنشائية التجربة الفنية من داخل إنشائية النظر هذه، بما هي مسار معيش يخوضه الجسد بفضل العين داخل عالم حسي، يكتب خليل قويعة: "أن أرى ليس أن أتمثل صورة خارجية أو أن أتلقاها، بل أن أوجد في عمق هذه الصورة، وذلك هو بمنزلة كوجيتو جمالي يعيد إلى حياة الجسد في العالم اعتبارها من خلال إنشائية النظر هذه. إن رؤية المصور هي ولادة مستمرة." وفي السياق ذاته يكتب ميرلو بونتي: "إن فن التصوير يشحذ الهمم، ويحمل ضمن أقصى قدراته ذلك الهذيان الذي ليس سوى الرؤية نفسها، ذلك أنه برؤيتي للأشياء فإنني أمتلكها عن بعد، ويعمل فن الرسم على توسعة هذه الملكة الغريبة في جميع خاصيات الوجود."
في كتابه «الفن كتجربة» يفرق جون ديوي بين ما هو فني متعلق بفعل "الإنتاج"، وما هو جمالي متعلق بفعل "الإدراك والمتعة". ويرى أنه ومن خلال الإدراك، يستمد العمل الفني قيمته الخاصة، سواء من جهة المشاهد/المتلقي أو من جهة الفنان. يرى جون ديوي أن الجمالية هي تجربة إدراكية شديدة الصلة بالحياة، وإن كان ديوي يعترف للفنان بتلك الخاصية الإنتاجية المتميزة والفريدة، لكنه بالمقابل، يركز على دور الإدراك في التجربة الفنية الحسية، أي على دور المتلقي. ويعتبر ديوي أن الإدراك لدى المتلقي الجمالي هو انخراط في مسار الإبداع، إلا حد يعتبر فيه أن العمل الفني لا يوجد، إلا حين تترافق معه استجابة وجدانية حية من المتلقي.
هكذا يتحول الإدراك من مجرد فعل تعقل استذكاري/استنتاجي/تأويلي، إلى فعل إبداعي، يكتب جون ديوي في هذا الخصوص: "حتى يتسنى للمشاهد أن يدرك، يجب أن يبدع تجربته الخاصة. من دون فعل إعادة الخلق هذه، لا يمكن للموضوع أن يدرك من حيث هو عمل فني"، ويكتب جون ديوي رأياً عن العلاقة بين الإدراك والتجربة الجمالية: "إن التجربة الجمالية، أو العمل الفني في راهنية حضوره، إدراك."
وبناءً عليه، فإن مشاركة الجمهور أو المتلقي في العمل الفني مكنت من تجاوز موضوعات الفن التقليدي، لتفسح المجال لظهور أشكال فنية جديدة من قبيل: الفن البصري Optical art، والفنون التفاعلية Interactif arts، وفن الحدث Happing art ، أو الأشكال اللعبية والإبداعية التي تقوم على مشاركة الجماعة، أو الفن الحركي Art of Movement. وهكذا ما عاد مجال الفن منحصراً في الموضوع نفسه بل في التجربة الدرامية التي يخوضها الجمهور في وضعية إدراكية ما، بينه كمتلقي وبين العمل الفني.
"العمل الفني لا يوجد إلا مؤولاً"
في كتابه «تجلي التافه» يرى «جان ماري شيفر» أن العمل الفني لا يمكن أن يوجد إلا بوصفه عملاً مؤولاً، وبناءً على لذلك يمكن اعتبار المتلقي مشاركاً في خلق العمل الفني كما يكتب الناقد آرثر دانتو: "فعل التلقي لعمل فني ما هو مكمل لفعله الإبداعي، فالجمهور يتخذ علاقة تعاون تلقائية مع الفنان، على غرار العلاقة التي بين القارئ والكاتب." أما هانز ياوس فقد ميز في كتابه «من أجل جمالة التلقي»، بين التلقي المنفعل السالب، والتلقي الفاعل والحر أي المشارك. وبالتوازي، فصل هانز ياوس بين الفعل الذي ينتجه العمل الفني وعملية التلقي في حد ذاتها، فالمنفعل هو ما يقتصر على تلقي هذا الفعل الناتج، بينما الفاعل هو ما ينتج فعلاً جديداً من داخل عملية التلقي. هذا، يحوّل مسار التلقي من التماس المباشر مع العمل الفني إلى التأويل، ويحول مسار التلقي من تجربة جمالية ممتعة ومعيشة، إلى تجربة في الفهم والتبصر وإنتاج المعنى المحتمل.
ليس العمل الفني، قبل فعل التأويل، شيئاً آخر سوى موضوع من جملة الموضوعات العادية التي تحتكم إلى معناها المباشر، فلا سبيل إلى تعيين قيمته الفنية سوى من خلال التأويل، وهذا ما قصدته جوليا كريستيفا حين كتبت: "ليس العمل الفني سوى النصوص التي حيكت حوله". وهنا يراهن آرثر دانتو على ما يطرحه التأويل من أفق ثوري يخالف ما هو مألوف من القناعات السائدة أو المتوقعة، فهو تجاوز لأفق الفهم العادي وتأسيس لحقيقة جديدة: "في مجال الفن، كل تأويل جديد هو بمنزلة ثورة كوبرنيكية، بمعنى أنه يؤسس لعمل فني جديد، حتى وإن بقي الموضوع هو هو عند تغير التأويل."
دور النقد الفني
في القسم الأخير من الكتاب، يتطرق المؤلف إلى دور النقد الفني الذي يعتبره بمنزلة تفكير منهجي يرصد شروط التذوق الفني، ويقيم جمالية العمل الفني بعد النظر في وحدته المادية والتقنية في أبعاده الثقافية المتماسكة. ويجد أن النقد الفني قد نشأ بين أحضان الفكر الفلسفي منذ بواكيره، من حيث هو فحص للعمل الفني وتفكير فيه. ويرى خليل قويعة أن القيمة الجمالية للعمل الفني يؤسسها الناقد عندما ينتقل من مرحلة التلقي المنفعل إلى مرحلة التلقي الفاعل، مستنداً بذلك إلى ما يكتبه بيرجيه في كتابه «الفن والتواصل»: "إن بمقتضى الفعل النقدي، يتأسس الفعل الجمالي." وأخيراً، يؤكد خليل قويعة إلى حاجة الجمهور العربي العريض إلى ثقافة جمالية تواكب تطورات تاريخ الفن المعاصر وتمكن من تكوين تلقي عربي فاعل للأعمال التشكيلية التي تقدمها إنتاجات الفن المعاصر، وذلك يتحقق عبر نقدي فني عربي يفعل دور التلقي في بناء التجربة الفنية الإبداعية.