أما اصطلاحاً فاستعادة المادة هنا يعني استعادة مضامينها لتتوظّف في خدمة الجديد، وربّما يمكن إدراجها هنا ضمن خانة "الإحياء" والذي كان المصطلح الدقيق لتوصيف النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر.
قد يثير إعادة طباعةِ كتابٍ ما نوعاً من الحديث عن المادة المطبوعة بأنها نالت استحسان القارئ وحققت مبيعات جيّدة وما إلى هنالك، فجميعنا نلاحظ افتخار الكاتب بالرقم الموجود أعلى غلاف كتابه الذي يرقّم عدد طبعات المؤلّف، وأيضاً يشكّل ذلك حافزاً للقارئ الذي -بطبعه- يميل لكتاب الـ Best seller فتجده يتشجّع أكثر على قراءته.
غير أنّ طباعة «مقالة في التربية» بعد نحو 120 عاماً على نشرها أمرٌ يجبرنا على طرح السؤال التالي: هل نحن في بداية ما يمكنُ تسميته "استعادة عصر النهضة" لأجل نهضةٍ جديدة؟
عن سلسلة "كتاب الدوحة" التي توزّع مع مجلة الدوحة الصادرة عن وزارة الثقافة والرياضة في دولة قطر، صدر كتاب "مقالة في التربية" للكاتب والصحافي السوري الحلبي عبد الله المراش (حلب 1839-مرسيليا 1900)، في خطوةٍ ليست بجديدةٍ على هذه السلسلة، فقد قامت سابقاً بطباعة عدةِ أعمالٍ تنتمي إلى فترة عصر النهضة العربية منها «طبائع الاستبداد» لعبد الرحمن الكواكبي، و«لطائف السمر في سكّان الزهرة والقمر» لميخائيل صقال. غير أنّ الفرق بين هذين العملين والكتاب الذي نتناوله هنا هو أنّ مؤلفي الكواكبي وصقال كانا قد ظهرا على شكلِ كتب، الأول عام 1902 في مصر والثاني عام 1907 في مصر أيضاً، أما هذه المقالة فقد ظهرت للمرة الأولى في مجلّة البيان المصرية التي كان يرأسها إبراهيم اليازجي، ونشرت على شكلِ أجزاءٍ بين مارس ونوفمبر سنة 1897، ولم تصدر بكتابٍ مستقل بعد ذلك لا في حياة المراش ولا بعد موته، بل بقيت ضمن مجلد السنة الأولى من مجلّة البيان (1897-1898) وربما نُسيت تماماً، حتى جاء شهر ديسمبر عام 2019 حاملاً العدد 146 من مجلة الدوحة، والأخير كان مرفقاً بطبعةٍ مستقلّة لهذه المقالة، أي صدرت بعد نشرها بـ 122 عاماً.
هذا وتنقسم هذه المقالة إلى مقدّمةٍ عن تكوين الرجال وصعوبة هذه الغاية، وتسعة مطالب وهي: في غاية التربية، في المربّين، في تربية البدن، في التربية الذهنية، في ابتداء تنوير الذهن، في التربية باعتبار الصناعات والحرف، في طريقة ابتداء التعليم، في تقويم سيرة الولد وتهذيب أخلاقه، وفي شوائب الأولاد وعيوبهم وطريقة إصلاحهم وعقابهم عليها. وختم المقالة بمقاربة بين الغريزة عند الإنسان في "ولدنته" وأثر التربية الصحيحة على تكوين الإنسان وتحديد سلوكه في المجتمع.
لوهلةٍ أولى يبدو الكتاب/المقالة وكأنّه أشبه بكتب التربية المتداولة اليوم المباعة في أكشاك الكتب ومكتبات القرطاسيّة المتعددة، غير أنّ الوالج فيه يلمسُ ثقافة كاتبه ومعارفه المكتسبة في حياكة المادة المطروحة، فالمراش لم يكنُ كاتباً غرّاً حين كتبها، بل صحافياً مرموقاً له مساهماتٌ عديدة في الصحافة العربية آنذاك وقد تولّى تحرير «مرآة الأحوال» في لندن، و«مصر القاهرة» التي كانت تصدر في باريس، كما أنّه سبق له نشر كتابه «مختصر تاريخ حلب» وترجم بعض خواطر الدوق دولاروشفوكو.
أما عن استعادة هذه المقالة، والتي بإمكاننا وضعها ضمن خانة التراث النهضوي العربي اليوم، فينبغي أولاً تعريف مصطلح استعادة لغة، فقد ورد في معجم اللغة العربيّة المعاصر فعل استعاد ويستعيد، استعد، استعادة، فهو مستعيدٌ والمفعول مستعاد: استعاد حقّه، أي استرجعه، ويقال استعاد صحّته أي تعافى، واستعاد أنفاسه أي عاد إليه هدوءه واستراح.
أما اصطلاحاً فاستعادة المادة هنا يعني استعادة مضامينها لتتوظّف في خدمة الجديد، وربّما يمكن إدراجها هنا ضمن خانة "الإحياء" والذي كان المصطلح الدقيق لتوصيف النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر.
في قراءة سريعة لعصر النهضة الأوروبية، نلحظ أن المصطلح التعريفي الأساسي لهذه الحقبة هو Rinascimento ويقابله بالفرنسية Renaissance، وبترجمة دقيقةٍ له للعربية "إحياء". وبالفعل فإن سمة هذا العصر كانت إحياء الثقافة الكلاسيكية الإغريقية والرومانية لتجديد الفكر والحياة في أوروبا عقب قرونٍ طويلة من الجمود اللاهوتي الكنسي فترة العصور الوسطى. وربما لا تختلف بدايات النهضة العربية (أو التنوير العربي بشكلٍ أدق) عن مثيلتها الأوروبية كثيراً، فالعديد من المستشرقين اعتنوا بالشعر العربي القديم والمؤلفات العربية الكلاسيكية في فتراتٍ زمنيّة متباعدة بدءاً من العصور الجاهلية حتى العصر الأندلسي، ونقلوا لبعض العرب فن تحقيق المخطوطات والاعتناء بها، غير أنّ العوامل السياسية والاجتماعية في تلك الفترة (الحكم التركي للشام يلخصها) قسمت هذه الظاهرة في البلاد العربية، ففيما كانت تزدهر في مصر تحت حكم أسرة محمد علي الداعية للتنوير، بالكاد كانت تلمع في باقي البلدان، وحتى مبدعي بلاد الشام ومفكريها انتقلوا لمصر بحكم مناخها الثقافي المنفتح والمزدهر (إبراهيم اليازجي، خليل مطران، جرجي زيدان....)
فيما يتعلّق بالتراث، فقد ناقش محمد عابد الجابري في كتابه "التراث والحداثة" مضامين هذه الكلمة ولخّصها بأنّها "ثقافة الأسلاف" وأنها حديثة العهد وقد رأت النور عقب صدمة اللقاء مع الغرب (حملة بونابرت عام 1798). وقد أعطى تفسيراً دقيقاً للتراث في الخطاب النهضوي بأنّه عنوان حضور الأب في الابن، والسلف في الخلف، والماضي في الحاضر، وهو برأيه ليس حاصل الممكنات التي تحققت فقط، بل يشملُ أيضاً حاصل الممكنات التي لم تتحقّق وكان ينبغي تحقّقها. ومما يحسب للجابري رفضه لتجزئة التراث وفق اعتبارات سياسيّة دينية حقلية، فالتراث واحد بنظره ولا يمكن تقسيمه إلى تقدّمي ورجعي كما أشار المستشرقون الماركسيون تحديداً، وعناصر التقدّم والعناصر المعاكسة له موجودة في كافة أشكال التراث وأصنافه.
قد يمكن التكهّن بأن طباعة مقالة المراش اليوم هو حالة من استعادة لتراث عصر النهضة عبر الانتساب إليه نشأةً وتكويناً ليعطي تأثيره في حياتنا الحاضرة، لربما لاحظ النخب المثقفة العربية صعوبة تمكين الأفراد في المجتمع وهشاشة تكوينهم التربوي والثقافي اليوم جراء اجتياح وسائل التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي للمشهد وتحولها إلى خبز يومي مما أدى تدريجياً لعدة مشاكل منها انكماشٍ حادٍ ومخيفٍ في تداول المشهد الثقافي، فلعلّهم أرادوا استعادة المراش محاولة لتقويم ما أمكن واضعين حجر أساسٍ لإنعاش هذا المشهد، غير أنّ تضاؤل أعداد الفئة القارئة اليوم وانكفاء أفرادها ليشكلوا نوعاً من الحالة النخبوية الخاصة سيترك أثره على التربية ككل، وستشهد المجتمعات تفاوتاً حاداً في كيفية تفكيرها وخصالها وتربيتها، ليكون الأثر ليس فقط على التربية العربية فحسب، بل أيضاً على المحاولات الجادة لإعادة النهضة إلى الحياة وتمكين حداثة جديدة للحركة الثقافية.