كما أن التاريخ الجمعي والذاكرة الفردية يتداخلان، فكذلك ينتقل سؤال الهوية من الثقافة الجمعية إلى الفرد، يتجلى ذلك في المقطع البديع الذي تكتبه ماريان عن ذلك: "من أنا ؟ أتخيل نفسي في قاعة للمرايا، ولكن كل مرة تعكس لي وجهاً مختلفاً. إنهم جميعاً نفسي، ولكن أيهم يتعين عليّ اختياره، لأن الإختيار واجب".
قد يفاجأ المطلع على كتب ألبرتو مانغويل غير الروائية، وعلى دراساته النقدية الأدبية، حين التعرف على روايته الأولى التي نشرها في العام 1991، "أخبار من بلاد أجنبية" (دار الساقي، ٢٠١٨). فالرواية لا تحوي ملامحاً من الأدب الفانتازي، الحكايات الشعبية، أو تقارباً مع أي من الأعمال الأدبية الكبرى التي طالما كتب عنها مانغويل كمرجعياته الأدبية المفضلة. بل على العكس، الرواية مغرقة في الواقعية، توظف بعض التقنيات السردية في تغيير صوت السارد بين الفصل والآخر، والانتقال في زمن الرواية بين الحاضر، الماضي، والتاريخ لمعالجة موضوعتها.
وإن بدا مانغويل في كتبه النقدية مهتماً بتاريخ السرد، تاريخ القراءة، تاريخ المكتبات، وتاريخ الأدب، إلا أنه في هذه الرواية يركز على أحداث من التاريخ السياسي، ليطرح عليها سؤال الرواية الأعمق: ازدواجية الإنسان بقدرته على الإتيان بالخير لكن أيضاً ابتكار الشر؟ كيف تروى أفعال الإنسان وسلوكياته حين يتراوح دوره بين المتنور والجلاد؟ لماذا تنقل الحضارة بأدوات القمع والموت؟ هذه الأسئلة لا تعالجها الرواية بأسلوب الإدانة المطلقة، بل إمكانية التفهم لآليات سلوكيات البشر العنفية والقمعية.
شخصيات الرواية هي أفراد عائلة أينما حلوا سيكونون في بلاد أجنبية. في الجزائر هم الفرنسيون المستعمرون، في باريس هم ذوي الأقدام السوداء، أي الفرنسيون المولودون في الجزائر، في الأرجنتين هم العسكر الأوربي، وفي كيبك الكندية الفرنسية هم الإسبان القادمون من بوينس آيريس. كل ذلك من خلال حكاية عائلة أنطوان بيرنس الضابط الفرنسي الذي يكلف بمهمات سرية في العديد من البلدان.
كل فصل من الرواية يجري في مدينة، وبالتالي لكل منها ملامح سياسية وأحداث تاريخية مختلفة عن الأخرى. الفصل الأول بعنوان "هنا"، تجري أحداثه في كيبك الكندية، ونتابع الحكاية من منظور الطفلة آنا، التي تعاني من الإختلاف الثقافي بين الأرجنتين التي أتت منها وكيبك القادمة إليها، بين الثقافة الإسبانية والثقافة الفرنسية، هي حكاية القادم الجديد المختلف ثقافياً. فحين تطرح آنا في المدرسة سؤالاً في الصف بالإسبانية، تبقى الكلمات معلقة بالهواء، ويضحك زملاء الصف، ويخبرها المعلم بأن عليها التكلم بالفرنسية فقط في الصف، فتقطع آنا وعداً على نفسها بأنها مذاك فصاعداً، طوال ماتبقى من أيام حياتها لن تتكلم الإسبانية أبداً.
الفصل الثاني بعنوان "هناك" يروى بضمير الأنا على لسان الأم ماريان، نعود إلى الماضي، إلى الجزائر التي تناضل في سبيل التحرر من الحكم الفرنسي، يفتتح الفصل بحكاية مأساوية تشير إلى الكراهية المتبادلة بين المجتمع الجزائري والفرنسيين في البلاد، حادثة يستدرج ثلاثة صبية جزائريين صديقهم الفتى الفرنسي إلى التلة ليقوموا بإضرام النار في جسده، انتقاماً لقتل الفرنسيين للجزائريين.
برهافة، ترصد الرواية التحولات التي يعيشها المجتمع الجزائري في تلك الفترة، وكذلك الفئة الفرنسية التي تعيش في الجزائر والتي أطلق عليهم لاحقاً "ذوي الأقدام السوداء". التبدل الذي يشوب العلاقة بين المجتمع الجزائري وبين تلك الفئة الفرنسية التي طالما عاشت في الجزائر واعتبرتها جزءاً من الوطن، بينما الآن يُفرض عليهم الرحيل، وتتكاثر الظواهر التي تبين كراهية الجزائريين لوجودهم. تروي ماريان عن طفولتها في الجزائر: "كنا نلعب مع الفتيات العربيات الكثيرات. كنا نغني بالعربية أغنيات القفز على الحبل، نلعب وأعيننا معصوبة بوشاح. لكننا كنا، وظللنا، فرنسيين. كان كل تعارف بيننا وبينهن يتوقف بعد انتهاء دوام المدرسة"، والآن، تلك النسوة المنقبات الوجوه، وعلى رؤوسهن مناديل سود، يتجمعن في الشوارع ويطلقن عويلاً مولولاً طويلاً كان بمقدوره الدفع بالجنود الفرنسيين إلى الجنون، إنها رغباتهن في طرد الفرنسيين.
عبر متابعة حكاية الجزائر في تلك المرحلة من وجهة نظر إحدى العائلات الفرنسية، تسمح لنا الرواية بالتعرف على الصورة النمطية التي كان يسم بها الفرنسيون أهالي الجزائر الأصليين: "العرب لايعرفون الجنس، بل إنجاب الأطفال فقط، إنهم يتكاثرون كالأرانب. آه تعرفون ليس لديهم إحساس بالملكية، وهم أكسل شعب على الأرض" إنها الصورة الإجبارية التي يفرضها الأقوى ثقافياً وعسكرياً على الثقافة الأضعف، لقد كتب عنها إدوارد سعيد في "الإستشراق"، وكتب عنها صادق جلال العظم في "ذهنية التحريم"، وركز عليها سلمان رشدي في أدبه. في مسرحية "الزنوج" لجان جينيه، يصبح على السود أن يتلبسوا الصفات التي فرضها عليهم البيض ليصبحوا سوداً، الأسود صورة ثقافية يرسمها الأبيض، ويصبح الأسود مضطراً لتجسيدها، فيخاطب أرشبالد مجموعة الممثلين السود في المسرحية بالقول: "آمركم بأن تكونوا سوداً إلى حد شرايينكم التي يجري فيها دم أسود. وأن تجري فيها أفريقيا. على الزنوج أن يتزنّجوا، وأن يتشبثوا إلى درجة الحمق بكل ما يُتهمون به: في سوداهم، في رائحتهم، في عيونهم الصفراء، في أذواقهم لأكل لحم الإنسان"
هذا يشبه ما يرد في رواية مانغويل أيضاً، فالضابط الفرنسي يعتقد أن الفدائيين الجزائريين المناضلين من أجل الإستقلال لم يكونوا مجرمين بقدر ما كانوا "مفتقدين إلى الخلاص"، يروي لماريان: "لم نعلمهم شيئاً، بإستثناء الطاعة، لقد علمناهم أن الطاعة حسنة، بغض النظر عمن يتولى القيادة. علمناهم أن يرفعوا عيونهم ويشخصوا بأبصارهم. اليوم نحن الأسياد، في الغد قد يكون السيد واحداً منهم"، ويذكر قصة لكافكا يختطف فيها الحيوان السوط من يد سيده، ويجلد نفسه لكي يصبح سيداً بدوره. كما يفعل جينيه في "الخادمتان" اللتان تتماهيان في لعبة السيدة والخادمة إلى درجة أن تقتل الأخت التي تلعب دور السيدة، أختها التي تلعب دور الخادمة.
يعود فرنسيو الجزائر إلى الإستقرار في جنوب فرنسا، لكنهم يعاملون بتمييز وعنصرية من قبل الفرنسيين، الذين يسمونهم بالعنف والقبول بالعيش كمستعمرين في ماضيهم في الجزائر، مما يضطر الضابط العائد إلى بلاده للتساؤل عن هويته: "ماذا يعني أن يكون المرء فرنسياً؟ نحن بحاجة إلى تعريف هويتنا، فمن دون تعريفات ليس ثمة فهم ولا إنجازات. التعريف يقتضي الرقابة والتشويه، ولكن سنكون منافقين لو أدعينا أن بإمكاننا التوصل إلى أي شيء من دون تعريفات".
تتقرب ماريان من المجتمع الباريسي بانخراطها في صداقة مع أعضاء فرقة مسرحية يتدربون على عرض، تشتري أيضاً آلة تصوير فوتوغرافي، ستتحول صورها حاملة لسرد الرواية عن الأحداث التي تعيشها باريس في صيف 1968، ماعرف بثورة الطلاب احتجاجاً على اعتقال السلطات الفرنسية لطلاب جامعيين أبدوا مناهضتهم لحرب فيتنام. وفي الفصل التالي تتنقل الرواية إلى بوينس آيريس، أيضاً لنتابع مرحلة إشكالية من تاريخ الأرجنتين، والتي تدخل دوامة من الحكم العسكري والعنف، ويعيش المجتمع آلام الاختفاءات القسرية للمعتقلين والمخطوفين. والمعروف أن الأمهات الأبناء المختفين قسرياً رحن يتظاهرن بإستمرار أمام المقار الحكومية وفي الساحات الرئيسية في البلاد لكن الجنرال بيديلا أشاع بين الناس بأن هؤلاء الأمهات لم تملكن أولاداً بالأصل، وما هن إلا "أمهات بالوهم"، وهو اللقب الذي أطلق عليهن.
الفصل الأخير من الرواية يحمل طبيعة خاصة، فهو مروي بلسان الضابط الفرنسي نفسه، الأب الذي تابعنا حكايته على طول الرواية، مروي بطريقة المونولوج الطويل، مروي إلى ابنته التي تكبر وتنضج، يخبرها فيها عن ماضيه، عن أفعاله كضابط عسكري فرنسي في الجزائر وفي الأرجنتين، يبرر الفظائع المرتكبة، ويبين حتمية أحكام السياسات التي نفذها، لتنتهي الرواية بطلب البنت من والدها أن يوقف السيارة وتخرج منها وحيدةً في الطريق. إنها ترفض فظائع السياسة في القمع والتعذيب والخطف، مازالت مقنعة بإمكانية أخرى لبناء العالم.
الذاكرة والهوية موضوعتان بارزتان أيضاً في الرواية، الذاكرة المرتبطة بالسرد، ذاكرة الأماكن أو الأحداث، وبالأدق ذاكرة المدن الأربعة في ذهن الشخصيات التي تروي لنا الأحداث. فالأحداث السياسية والتاريخية تروى من خلال ذاكرة الأفراد، ذاكرة الشخصيات، من ذاكرة آنا نتعرف كيبك، ومن ذاكرة الأب أنطوان نتعرف الجزائر، أما باريس وبوينس آريرس فنكتشفهما من السرد الذاتي لماريان. وعند سرد ماريان مثلاً، يداخل النص بين الأحداث الواقعية في ذاكرة ماريان وبين أحلامها الشخصية: "كانت لدي المقدرة على صياغة أحلامي في أشكال مقصودة، على المزج بين الذاكرة والاختلاق، وكنت قادرة على تلوين الماضي في نومي أحياناً. كنت أرغب في تذكر الأشياء كما ينبغي لها أن تكون، كما أردتها أن تكون"، إذاً يبقى السؤال كيف تروى الأحداث السياسية من ذاكرة الأفراد، دون أن يدخل وجهة نظرهم الأخلاقية في رؤية التاريخ؟
كما أن التاريخ الجمعي والذاكرة الفردية يتداخلان، فكذلك ينتقل سؤال الهوية من الثقافة الجمعية إلى الفرد، يتجلى ذلك في المقطع البديع الذي تكتبه ماريان عن ذلك: "من أنا ؟ أتخيل نفسي في قاعة للمرايا، ولكن كل مرة تعكس لي وجهاً مختلفاً. إنهم جميعاً نفسي، ولكن أيهم يتعين عليّ اختياره، لأن الإختيار واجب".