أفكر أن استعادة معرض من الماضي أهم من الكتابة عنه في زمن انعقاده. يسمح ذلك بوضع المعرض مقابل ظروف زمانية وسياسية مغايرة قد تسمح بتفسيرات أخرى، ويسمح ذلك للناقد بربط الخاص والشخصي بالعام والعالم. لكن هنا مفارقة؛ يمكن التفكير بالمعرض الفني من وجهة نظر زماني
هدفت ورشة الكتابة الفنية في مركز خليل السكاكيني إلى تدريب مجموعة من كتاب المقال النقدي من مستويات مبتدئة ومتوسطة على كتابة نصوص نقدية عن الفن المعاصر باللغة العربية، فعقدت جلسات متنوعة شكلًا وموضوعًا ضمن أربع محاور أساسية هي الرؤية والشعور والتفكير والكتابة، وبدأت بنقاشات حرة ومفتوحة قبل أن تتخذ شكلًا تعليميًا مع بقاء جانب الحوار والمداخلات من المشتركين مفتوحة حتى لا تتحول إلى محاضرة تلقينية. تناقشنا أنا والطلاب في قراءات باللغة العربية تنوعت بين مقالات صحفية ونصوص طويلة شخصية أو نقدية ومقابلات ونصوص تجريبية أخرى تناسب موضوع كل جلسة بهدف المطالعة والفهم أو التساؤل وليس الحفظ: قراءات عن الكتابة وأنواعها وعن الصوت والأسلوب والنقد والتحرير، وعن الفن المعاصر ومواضيع أخرى متنوعة قد تبدو غريبة أو لا صلة لها بالكتابة بشكل مباشر، مثل الطعام والطهي والبطء والملل والروتين، وحتى تصميم كراسي الأطفال.
اختار الكتاب الأربعة (وهم ثلاث كاتبات وكاتب) مواضيع نصوصهم جميعها مستقاة من أرشيف معارض مركز خليل السكاكيني كمحاولة لاستعادة أرشيف المعارض والكتابة عنها من زوايا مختلفة وراهنة؛ عن علاقة الفن المعاصر بالأحداث السياسية الراهنة بين سوريا وفلسطين، وعن أماكن الذاكرة والأماكن المغايرة والذاكرة الجمعية الفلسطينية من خلال استعادة النكسة والنكبة، وعن الأرض كحقيقة تحتاج إلى سرد كثيمة غير مرمزة على عكس المألوف في السياق الفلسطيني ودور ذلك في تحفيز المخيال والسرد، وأخيرًا عن الحكاية الشعبية وأشكالها كعوامل اغتراب في المجتمع المعاصر.
بشكل عام، فضّلت التعامل مع الورشة كمحرر أكثر من كاتب، فمحدودية فترة الورشة لا تكفي بطبيعة الحال لتغطي كل ما يتعلق بالكتابة النقدية عن الفن المعاصر؛ أي عن عملية الكتابة نفسها وعن النقد ومدارسه ومفاهيمه وعن تاريخ الفن وصولًا إلى الفن المعاصر ومواضيعه التي تشمل الفلسفة والنظرية والتاريخ والسياسة. أؤمن أن مشكلة النشر العربي ليست في أو نقص الكتاب أو جودة الكتابة، بل نقص في التحرير الجيد، من فهم لوظيفة المحرر وعلاقته بالكاتب وأنواع خطوات عملية التحرير، بدءًا من تقديم الكاتب للمقترح ثم التعاون مع المحرر على تطوير النص وانتهاء بالتدقيق اللغوي قبل النشر. من ناحية أخرى، اعتبر عملية التحرير تشبه تفسير التاريخ من جوانب عدّة. في كلا الحالتين، هناك مادة تركت معلقة في الزمن يمكن استعادتها تحريرًا أو تفسيرًا.
أفكر أن استعادة معرض من الماضي أهم من الكتابة عنه في زمن انعقاده. يسمح ذلك بوضع المعرض مقابل ظروف زمانية وسياسية مغايرة قد تسمح بتفسيرات أخرى، ويسمح ذلك للناقد بربط الخاص والشخصي بالعام والعالم. لكن هنا مفارقة؛ يمكن التفكير بالمعرض الفني من وجهة نظر زمانية كتفسير ابداعي لتاريخ أو حاضر ما، لكن ذلك التفسير بذاته كوجود مؤقتي لم يكن حاضرًا أبدًا؛ أي أن أرشيف المعارض يؤرشف أيضًا تفسيرات مؤقتة مرهونة بظروفها السياسية-الزمانية بالضرورة.
الأرشفة كعملية تأريخ ترمي ما كان حاضرًا إلى الماضي، واستعادته للنظر فيه تنطوي على تهيئة لمستقبلية جديدة. بهذا المعنى، تنطوي استعادة معرض على مستقبليّة أيضًا، فالنظر في الروابط وتحطيمها ووضع غيرها وكذلك النقد والنقض عمليات تعيد تأويل الماضي لتقديم رؤى مختلفة للمستقبل. في نصها "الأرشفة كمعارضة واسعة النطاق"، تسترجع آن ستولر عبارة لمارلو بونتي عندما عدّ الحاضر مثقلًا بمؤقتيات متعددة موزعة بشكل غير متساو. في الحالة الفلسطينية، الحاضر مليء بشتى المؤقتيات السياسية والاجتماعية المعقدة، لذا، ولتهئية المستقبل، تكون في هذا السياق عمليات استعادة التاريخ/الأرشيف راهنة دائمًا. تفكر ستولر من خلال بونتي في احتمالية مستقبل يستند إلى تاريخٍ لم يكن حاضرًا أبدًا. هنا، ليس التفكير بما لم يكن حاضرًا مجرد مشروع استعادة بقدر ما يشكل فرصة للتأمل، وكما أن الحاضر مثقل بكل تلك المؤقتيات المعقدة، فهو أيضًا مليء بكل السيناريوهات المستقبلية كذلك.
المقالات:
أراض منقلبة: تحت الأرض وإمكانيات السرد
أماكن مغايرة: الذاكرة ما بين الخرسانة والحرير