وساهم العملُ الجماعيّ في إتمام العمل بأقل التكاليف الممكنة، بفضل الأفكار المبتكرة، وتأهّب المتطوعين للمساعدة، والأهم: الورشة. تقول لبنى الصانع إنَّ مستلزمات المعرض كانت "تُخترع" في ورشة دار قنديل، وتزوّد المعرض بالأعمال الخشبية، وكلّ ما يلزم لإعادة إنتاج الأعمال وتوزيعها على الحيّز بأفضل طريقة.
بعد انتهاء الجولة في معرض "من الحجر إلى البحر" في مؤسسة دار قنديل، وبينما اتجهت كلّ الأنظار نحو الأمسية الموسيقية، تأخرت طفلتان في حديقة المؤسسة خلف الجمهور، تبنيان قلعةً رملية. جلبَت دار قنديل البحرَ إلى طولكرم، وصنعت شاطئًا مصغّرًا تحدّه بركةٌ صغيرة، وحولها ألعابٌ وأدوات للنحت في الرمل. تفاعل معها الأطفال، في ورشاتٍ سابقة، وفي الافتتاح، فكوّنوا علاقةً مع الرمل، ومشاعر جديدة اتجاه البحر الذي لا يعرفونه.
بين الاتساع والضيق
البحرُ رحبٌ واسعٌ، سماؤه مفتوحة، في زرقتِه راحةٌ للناظرين. يبدو لِمن يحدّق فيه أنّ الكوْن قد انفتح واتّسعَ تحت قدميْه. وليس غريبًا أنّ هذا البحر ذاته كان ثيمةً متكررة في عدّة إنتاجات فنيَّة خلال جائحة كورونا. كانت قصص البحر اشتياقًا لذلك الاتساع، ففي الحَجْرِ الذي علِقنا فيه -جميعًا- داخل المنازل، ضاقت الجدران وأطبقت العزلة على أصحابها، ثم طال الوقت وتمدد بطريقةٍ غير مبرّرة.
بين هاتيْن الصورتيْن المتناقضتيْن، بين الضيق والرحابة، يتحرّك معرض "من الحجر إلى البحر". افتتحت مؤسسة "دار قنديل للثقافة والفنون" هذا المعرض الفنيّ البصريّ يوم 18 أيلول 2021، واستمرّ حتى 18 تشرين الأول من العام ذاته. ونُفِّذ بدعمٍ من مؤسسة عبد المحسن القطان، عبر منحة مشروع "الفنون البصرية: نماء واستدامة" الممول من السويد.
قيّمات المعرض
حين بدأ مسؤولو المشروع عمليَّةَ البحثِ عن قيّمٍ للمعرض، رُشّحت كالعادة أسماء لمحترفين بارزين في المشهد الفني الفلسطيني، لكنّ هذا المعرض بالذات احتاجَ روحًا جديدة. تقول زينة زعرور، مسؤولة مشروع الفنون البصرية في دار قنديل، إنّ هذه المؤسسة الصغيرة والحيوية تحتاجُ تجربة تقييمٍ جماعية تفاعلية، لا تشبه التجارب المتحفيّة الصرفة.
لا سيما أنَّ المعرض نتاجٌ لرحلة طويلة من التجريب، خاضتها المؤسسة مع فنانين وفنانات من مدن فلسطين كافة، ومن الشتات، بعضهم يشاركُ في معارض فنية للمرة الأولى. كما يشمل المعرض أعمالًا لمجموعةٍ من الشباب والأطفال والعائلات، أنتجوها على مدار عام ونصف، ضمن برامج ونشاطات ومنح إنتاجية نظمتها المؤسسة.
ضمن هذه الرؤية، رُشّحت للمهمّة قيّماتٌ تنتمين إلى "حراك صدى"، وهي مجموعة مستقلة من فنانات وفنانين فلسطينيين، بدأها طلبة فنون وخرّيجون متطوعون من أجل خلق مساحة حرَّة للعمل الفنيّ. ويتنوّع المنتمون إلى المجموعة في اختصاصاتهم بين التصوير والعمارة والفنون التشكيلية، ويعملون معًا دون الفصلِ بين تلك الاختصاصات، بل بخلق نسيجٍ وصلاتٍ بينهنّ.
يعتمد "صدى" على فكرة الحراك المستمر، على الفعل، دون حيزٍ ثابت، فهو يطمح للمساهمة في تحرير الفن من العمل المؤسسي، والسوق، وأكاديميات الفن الصهيونية، وعمليات التنميط التي تعيقُ الفن والثقافة في فلسطين. لذا تخلقُ مبادراتُ "صدى" الجماعية مساحاتِ عملٍ في مناطق مختلفة، آخرها كانت مؤسسة دار قنديل في طولكرم.
صدى دار قنديل
التقى حراكُ صدى بمؤسسة دار قنديل عبر المعرض "من الحجر إلى البحر"، لكنَّ نقاط الالتقاء جمعتهما قبل ذلك. إنّ دار قنديل مؤسسة مستقلة غير ربحية، أسسها فنانون وناشطون، وتسعى إلى أن تكون فاعلة في المجتمع، بشكلٍ أساسي. ومثل حراك صدى، تهتمّ بتعزيز العمل التطوعي، فتعطي للمتطوعين دورًا رئيسًا في قيادة مشاريعها. كما واجه الحراكُ والمؤسسة تحديّاتٍ متشابهة، متعلقة بالتمويل وعدم وجود مكانٍ ثابت في مرحلةٍ ما، وبالتأكيد، تغيب عن كليْهما هيكلية العمل التقليدية، وما يترافق معها من التراتبيَّة الهرميَّة.
تقول لبنى الصانع، إحدى قيّمات المعرض، إنّ الحراك يعتمدُ على المسؤولية المشتركة والوفاء لفكرة المجموعة وقوتها. وبعد إنجاز "صدى" أكثر من معرض بالاعتماد الأساسي على المتطوعين وشبكة العلاقات "عرفنا إنه فيه تدابير، وصار فيه جرأة".
"من الحجر إلى البحر" كان أول معرضٍ تقيّمه الفنانات ضمن صدى، دون أن يكنّ مشاركاتٍ فيه بأعمالهنّ الخاصة، فهنّ وصلنَ إلى مدينةٍ لا يعرفنها، وحيّزٍ لم يزرنَه من قبل، وأعمالٍ لم يساهمن في إنتاجها. قد نظنّ أنّ تلك العوامل خلقت إرباكًا، لكنها على العكس، خلقت حريَّة أكبر في العمل، بالتحديد لأنّ طاقم دار قنديل ومتطوعيه كانوا منفتحين للتجريب.
جعل انطلاق صدى ودار قنديل من القيمِ ذاتها العملية أكثرَ تجانسًا، نتجَ عنها شهران طويلان من العمل والنقاشات والتجريب وصولًا إلى افتتاح المعرض الرسمي.
الحيّز
حاولت القيّمات في هذا المعرض أن يُعدْنَ تأهيل فضاءات المؤسسة لتناسب "من الحجر إلى البحر"، مع اعتبار ميزاتها الموجودة في الأساس. أردْنَ تصميم تجربةٍ حسيَّة مميزة لزوّار المعرض، وفي الآن ذاته الحفاظ على مكونات الحيّز الخاصة، كإنتاجات دار قنديل الفنية ذاتها في الحيّز وجماليات المبنى.
وساهم العملُ الجماعيّ في إتمام العمل بأقل التكاليف الممكنة، بفضل الأفكار المبتكرة، وتأهّب المتطوعين للمساعدة، والأهم: الورشة. تقول لبنى الصانع إنَّ مستلزمات المعرض كانت "تُخترع" في ورشة دار قنديل، وتزوّد المعرض بالأعمال الخشبية، وكلّ ما يلزم لإعادة إنتاج الأعمال وتوزيعها على الحيّز بأفضل طريقة.
خلال العمل على تصميم الحيّز، واجهت القيّمات تحدياتٍ تتعلق بالمساحة. فتقول الصانع إنَّ المركز الفضائي في حوش المؤسسة كان ميْتًا، مثلما يحدث في أغلب المعارض، حينما تُعلَّق الأعمال على الجدران كالجثث، وتموت المساحة المفتوحة المتبقية. ثم إنّ المساحة صغيرة على عددِ الأعمال المشاركة وأحجامها، يصاحبها قلق من دخول الزوّار وخروجهم الفوري إلى الاستراحة في الساحة الخلفية للمركز. لذا قررت القيّمات خلقَ حدثٍ وهميّ بوضعِ ثلاث مرايا طوليَّة في مركز الحيّز لتوسيع المساحة، وتصميم رحلة الزوّار للتجول بين الأعمال ضمن ترتيبٍ معيّن.
كما أنّ تصميم الحيّز حاكى علاقة المتطوعين والطاقم بالمبنى، فتبنّى تصرفاتهم في كلّ غرفة بشكل عفويّ. مثلًا، يجلس أفرادُ الطاقم في مدخل المركز، ويعلّقون أعمالهم في الردهة المركزيَّة- وكذلك فعل "من الحجر إلى البحر". ثم يلجؤون إلى غرفة الموسيقى لإجراء المكالمات الخصوصية، فتوزّعت الأعمال الحميمة- الأقل كشفًا- في تلك الغرفة بطبيعة الحال.
تعتقد الصانع أنَّ طابع المعرض الأبسط، مقارنةً بالمعارض المتحفية عالية الكلفة، أنشأ رابطًا حقيقيًّا بين الأعمال والزوّار، وأصبح الزائر قادرًا على تلقي المشاعر والرسائل التي يبثها الفنانون في أعمالهم. حقق المعرض هذه الغاية، وشكّل معها رابطًا جديدًا بين الفنانين أنفسهم، في مناطق فلسطين كافة وفي الشتات، وجمعهم في مساحةٍ صغيرة واحدة. لذلك، يتخذ المعرض شعار عصفورٍ ملوّن، مرسال يوصل حجارة البناء عبر البحر وعبر الحجْر.
الأعمال الفنيَّة
أنتِجت أعمال هذا المعرض عبر 18 منحةً إنتاجية نفّذتها دار قنديل، واختيرت بعد تقييم لجنةِ تحكيم مستقلة، ثم خاض الفنانون المختارون مجاوراتٍ فنية لتطوير أعمالهم. وتشارك في المعرض كذلك أعمالٌ نتجت عن ورشات عمل وتدريباتٍ للأطفال، إضافةً إلى مبادرة "خلينا نشوف" التي استهدفت العائلات وعرضت إنتاجاتها الفنية خلال الجائحة.
مسافات
قماش وكولاج وأساليب طباعة
يضمّ هذا العمل ثلاث لوحاتٍ لسالم عوض، وصلت من غزَّة إلى طولكرم، وتطرح مفهوم التباعد الاجتماعي وتأثيره على النفس البشرية وعلاقاتها بمحيطها. يعتبر عوض الحياة سباقَ مسافات طويل، يعتمد على التحمل والتعايش والتروي، وعلى البحث المستمر عن الإيجابية. لذا قرر أن تكون أعماله مساحةَ فرح يصنع منها واقعًا جماليًا زاهيًا ومعاكسًا للأزمات والانتكاسات.
برودكاست
فيديو
يعيش مؤيد أبو أمونة في غزَّة، حيث لا تتوقف التغطية الإعلامية أبدًا، ويشعر بأنَّ البث يحاصره بلا انقطاع. في هذا العمل، يعرض رؤيته لتأثير الإعلام على الأفراد والمجتمع، وضخّه المستمرّ للأفكار التي يصنعها. ويعتبر أبو أمونة "برودكاست" دعوة للبحث عن الحقيقة، والتفكّر بمصداقية ما يبثّه الإعلام.
علبة سردين
عمل تركيبي
أراد محمد جحلش، بهذا العمل، أن يترجم حالة الاختناق التي يشعر بها في غزَّة. تُشبه عُلب السردين المعدنية المحاصرة داخلَ علبة من الصفيح. من يخرج منها، يؤكل. منع الاحتلالُ وصول العمل من غزة إلى طولكرم، فأعادت قيّماتُ المعرض إنتاجه بإطارٍ جديد، ومواد مبتكرة، وعُرض في دار قنديل وهو يحملُ بُعدًا إضافيًا من الحصار المفروض على غزة.
وجه المدينة
حبر على ورق
كالـ"سردين"، لم يصل العملُ الأصلي لـ"وجه المدينة" من غزَّة، فأعيدت طباعته في طولكرم بالأبيض والأسود. يقدّم ميسرة بارود في هذه اللوحات اسكتشات لمدن غارقة في الموت، تبدو فيها ندوب الحرب حاضرة على واجهات المباني. لوحاته، كما يصفها بارود، وجه المدينة المحترق.
بورتريهات
أكريليك على قماش
اختيرت ثلاثُ لوحاتٍ حميمة من مجموعة أحمد سعدون، تبيِّن كيف أصبحت الحياةُ مغرقةً في التفاصيل خلال الحجر الطويل وشهور الجائحة.
أطفالي في الحجر
أكريليك على قماش
تشارك هبة زقوت في لوحاتها الحيَّة مشاعرَها كأمّ خلال الحجر المنزليّ مع أطفالها، بكلّ ما تحمله من تناقضات بين الحبّ والضيق والقلق.
يوميات الشارع الموبوء
فيديو
يقدّم فراس أبو هيبة صورةً للشارع في ظلّ إجراءات الوقاية من فيروس كورونا. يركّز في عمله على الباعة في الأسواق، وتدخلاتهم في المشهد الطبيعي للمدينة، ناقلًا بذلك امتزاج المشاعر في تلك الفترة بين الخوف والقلق والتفاعلات الحذرة بين الناس، وتأثيرها على الفضاء العام.
ملصق فاكتوري
ملصقات
ملصق فاكتوري هي منصة تسعى إلى خلقِ حالةٍ رافضةٍ للواقع، وإلى خلقِ بدائل، عبر إعادة الاعتبار لأدوات التعبئة الوطنية التي عاصرها الفلسطينيون منذ بداية الاستعمار الاستيطانيّ. ومن تلك الأدوات الملصقات الثورية، ورسم الجداريات.
يشارك أديب حمدان، ومجموعة ملصق فاكتوري في معرض "من الحجر إلى البحر" ببوسترات تشبه تلك التي صُممت في فترة الانتفاضة الأولى، وتُعرَض كما لو أنها عُلقت في الشارع.
الدالية
فيديو وأداء
تقدّم شيماء حمد، الطاهية والباحثة، قصَّة دالية العنب. عبر أطباقٍ مرتبة بشكلٍ حلزوني على الطاولة الدائرية المطرّزة، نرى التطورات الزمنية لحياة الشجرة الموسمية، بين مخلل الحُصرم والعنبيّة والدبس وورق العنب. هذا العمل هو جزء من سلسلة أعمالٍ فنية ومصورة عن الموروث الغذائي الفلسطيني وما يتعلق به من موروثٍ ثقافي. وتعتمدُ فيها حَمد على البحث والمجاورات مع المزارعين والباحثين الثقافيين.
عطش
طباعة على قماش
لوحات مختارة من أعمال أماني البابا، تحكي قصتها كلاجئة فلسطينية من الجيل الثاني، وارتباطها بكل بلد سكنته. كما تروي تفاعلاتها مع بعض الأحداث المفصلية في حياتها وتقاطعاتها مع تجارب الآخرين حولها. تعتبر البابا هذا العمل تعبيرًا عمّا يراودها من أسئلة وجودية، كفلسطينية أثقلها حِمل الغربة بين فلسطين والأردن وسوريا وليبيا واليمن ومصر وتونس.
رحلة سابا
فيديو وأداء
يحضر جريس أبو جابر إلى معرض "من الحجر إلى البحر" ومعه الدمية "سابا"، التي صنعها خلال الحجر المنزلي. سابا رجل عمره 82 عامًا، عاد إلى مدينته بيت لحم بعد سنوات طويلة من الاغتراب. وتستعيد هذه الشخصية، عبر حلقاتٍ مصورة ينتجها أبو جابر، تاريخها وذكرياتها في المدينة وتحاور ضيوفًا من فنانين ومثقفين.
لوحات تدوم لأكثر من 450 سنة
عمل تركيبي
يرصد العلماء مدّة تحلل "زجاجة بلاستيك" واحدة بنحو 450 سنة، أو أكثر. صمم محمد بشارة هذا العمل ليكون صندوقًا زجاجيًّا من الخارج، وفي داخله طبقات متراصة متعددة من البلاستيك. بينما يظهر في داخله تمثال لسلحفاة بحريّة، ترمز إلى الكائنات البحرية والأسماك التي يقتلها البلاستيك كلّ عام.
دون عنوان
أكريليك على قماش
تقدّمت خولة كحلة للمشاركة في مبادرة "خلينا نشوف"، المخصصة للعائلات وإنتاجاتها الفنية خلال الحجر. إلّا أنّها قدّمت أسلوبًا فنيًّا احترافيًّا عاليًا، ما استدعى ضمّها لبرنامج المنح الإنتاجيَّة. فأنتجت بذلك 4 لوحات تستكشف فيها تفاصيل الجسد وتعبيراته، عُرضت منها لوحتان في "من الحجر إلى البحر".
وشارك فنانون آخرون في برنامج المنح الإنتاجية، بتقديمهم أعمالًا منوعة من حيث الوسائط المستخدمة والثيمات. من بينهم يوسف عبد الرحيم، الذي صمم بطاقاتٍ بريدية فنية، يُحاكي فيها تجربة اللجوء. إضافةً إلى رغدة سفاريني، بتصميمها لوحاتٍ للتطريز، ترتكز فيها إلى المعالم والجماليات المحلية الفلسطينية. بينما صممت شذى دحيدل مجموعتها الخاصة من المجوهرات التي تدمج فيها الخط العربي بالهندسة.