هذه الطبيعة ذاتها تحتضر، في عمل كل من رنا بطراوي و شريف سرحان والمعنون بـ "وادي غزة" والذي استعرض السيرة الذاتية لوادي غزة، والتحولات التي جرت فيه، منذ الاعلان عنه كمحمية طبيعية، تحوّل في أعقابها إلى مكبّ نفايات ومجرى للمياه العادمة.
معرض "عِرافات: فن تذكر المستقبل"، هو النِتاج المنبثق عن مسابقة اليايا التي تنظمها مؤسسة القطان منذ العام 2000. وتعد هذه النسخة الحادية عشرة، وقد أشرفت عليها، كقيمة الكاتبة والباحثة: عدنية شبلي، التي انطلقت في فكرتها، من خلال استحضار الثورة عبر الأدب والفن وذلك في محاولة منها لاستعادة ما طمح إليه الرصيفيون من تثوير للثورة عبر الأدب والفن للنهوض بحركة احتجاج ثقافية وفكرية، على هوامش حركات التحرر والمقاومة التي كانت تقوم في الماضي. وجوهر هذا النهوض هو نسف البيروقراطية الثورية وما يحيط بها من أشكال مؤسساتية متعددة.
ومن خلال النقاشات المتعددة التي انطلقت منها نسخة اليايا الحالية بمشاركة مجموعة من الفنانين والفاعلين في الحقل الثقافي والفكري، تم محاولة تخيل مستقبل منسلخ عن الإطار البيروقراطي الفلسطيني القائم حاليًا بكله تجاه جميع القضايا، بما في ذلك الثورة على البنيوية السائدة. وارتكزت هذه النقاشات على قصة "قط مقصوص الشاربين اسمه ريّس" للقاص رسمي أبو علي، هذه القصة التي بكلمات أبو علي "ثوّرت صورة الثوري والثورة، من خلال إرساء الرغبات الإنسانية، والحياة بحد ذاتها كقاعدة لكسر القوالب الجامدة والمثالية".
أفلت الثورة تدريجيًا، وعادت القوالب الجامدة لتعتلي الواقع الفلسطيني نتيجة البنيوية التي شُكِّلت من خلال منظومة استعمارية عززت بدورها السلطة لتقوم بمهام المستعمِر، مع حرصها على التمسك ببقايا شعارات الثورة، حتى تجعل منها أداة سيطرة على الشعب، الذي ما زال مشدوهًا بضوئها المنحسر. في معرض "عِرافات" تحاول المشاريع الفنية المشاركة استعادة الفعل التثويري، ليقدّم هذا المعرض محطة تأملية فارقة لتخيل شكل المستقبل بعيداً عن القوالب الجامدة والبيروقراطية.
هذا الشكل يتناغم مع ما تسعى إليه بعض المعارض الحديثة، في محاولتها مساءلة ما هو معتاد عبر تفكيكه، للإيحاء بفكرة ضرورة نسف الأدوات التي وفرتها النيوليبرالية اليوم لتحييد خيار الثورة والاعتراضات، هذه الأدوات المتمثلة بالعدمية والعبثية والتهرّبية. وفي محاولة منها للثورة على هذه الأدوات، سعت المشاريع المشاركة في المعرض إلى إعادة تأمّل الفضاء والحيز الاجتماعيين، عبر دمج الفنّ في الحياة والأطر المعرفية اليومية ، مقلّصةً بذلك التّفاوت بين المُتلقي، والفنانين، وحتى قيمة المعرض، مع هجر العلاقة الهرمية بينهم.
تبلور كل هذا في المعرض بأشكال متفاوتة، منها ما تزامن مع خلق حالة من الفضول أو حتى التلصص من قبل المتلقي كما هو الحال مثلاً في العمل الفني المعنون بـ " تجمع" للفنان روبرتو سانتاغويدا، ويتكوّن من أربعة مقاطع فيديوهات مركبة تجمع لحظات ومواقف مركزها هو المشاعر الإنسانية بتناقضاتها واختلافاتها. تتناول واحدة من مقاطع الفيديو المركّبة هذه الضوء الساطع المنبعث من العتمة، والمتزامن مع ضوضاء السيارات، قائدًا المشاهد نحو فتاة تجلس في وسط حديقة، تدرس محاطة بضوء الشمس والهدوء. وفي فيديو آخر ينبعث حوار حول التدخين يدور بين فتاتين لا نراهما أبدًا، ذلك قبل دخولهن الى قاعة الامتحان، أو الدرس التي فجأة يخيّم عليها الصمت، بينما يدور فيها أنحائها المراقب أو المعـلّم، وهو ما يستحضر الرغبة الدائمة في التخلص من الرقابة، والتعبير عن الذات بحرية، بعيداً عن شروط المنظومة المجتمعية التي تنتج تصرفاتنا الظاهرة للعلن، وما زلنا نستنير بها في كل خطوة من خطواتنا وبالتالي تتحكم في مخيلتنا للمستقبل. هذا المستقبل على الرغم من كونه شبكة من الاحتمالات المحكومة بالبنية المجتمعية، إلا أن ثمة احتمال أن يكمن فيه، هذا المستقبل، خلاصنا، عبر تخيل ومن ثم بناء مسارات جديدة لأرواحنا نبتدعها نحن، تحررنا من الماضي المقفل المفروض علينا، والذي نخشى الفكاك منه.
هذه المسارات المبتدعة امتدت في المعرض إلى النصوص أيضاً، والتي عكست نسفاً حقيقاً لشكل النص الأدبي التقليدي، كما يظهر في مشروع داليا طه ومجد كيال المعنون "المستقبل كبناء يخبىء العجائب". في ركيزة هذا المشروع نصوص أدبية انطلقت من خمس مفاهيم وهي: النميمة التي تظهر قدرة الناس جميعًا على القص والسرد، والمسرح باعتباره فضاء للقاء جماعي محتمل، أو امتداد بين الوهم المسرحي والواقع، والبارودة بدلالاتها لإمكانية الثورة، أو لقمعها في الوقت ذاته، وتل أبيب باعتبارها مساحة العدو/ الآخر، الذي لا نستطيع التفكير بأنفسنا بمعزل عنه، أخيرًا الليل بوصفه مساحة المجهول الممكن، بتباشيره أو إنذاراته. هذه المفاهيم التي عالجتها النصوص بأشكالها المتعددة جلبت إلى مركز التساؤل فكرة الالتزام بأنماط أدبية بعينها ووسائط الكتابة التقليدية وعنصر الخيال. أحد هذه النصوص وكتبه الأسير طارق أبو مطر من سجن النفحة، يستحضر في عمقه الصراع الذي نعيشه، عندما نحاول تخيل المستقبل، إذ نجد أنفسنا مجبرين على الجمع بين السجن والمستقبل، حيث إذا أردنا القفز نحو المستقبل، أمامنا طريقين، إحداها مخيلة الهروب من السجن، والأخرى، تحويل الزنازين بعد التحرر إلى فضاء معرض وشواهد تذكارية على الحقبة الاستعمارية. ونص آخر، لعبد المعطي مقبول يعرض حوارًا بين ابن ووالدته، ويتناول حالة الصراع في الاعتراف بالمرض وإنكاره، ومستقبل البوح وعدمه. ونص ثالث لسارة أبو غزال بعنوان "تفضيل" يعكس الصراع مع ما هو متخيّل عبر شطب كلمات وجمل ما زالت داخل النص. أما نص "من الدفاتر" لآلاء قرمان، والذي يزاوج بين الكتابة والرسم، لوصف ما تختلجه النفس من صراعات، بما فيها تلك التي تعجز فيها الكلمات عن وصفها. وغيرها من النصوص التي تناولت المفاهيم الخمس المذكورة أعلاه على اختلافها، معتمدة على تفكيك الواقع والرغبة بالتمرد، من أجل تخيل المستقبل.
هذه الروح المتمرّدة امتدت أيضاً إلى عمل "نحو الأثير، وبعيداً عن كربنا" للموسيقية دنيا جرار. ويحوي العمل على عشر مقطوعات موسيقية المعنونة كالآتي: المجمّعون، وادي الغرق، أثير، العطايا، حديقة مونرو، الخزان، وادي الغرق، ماء، الإنقراض، أرض، الرصيفيون، هواء. وقد جاء الإلهام لهذا المشروع الفني إضافة إلى قصة رسمي أبو علي، من رواية " مثل الزارع" للكاتبة أوكتافيا بلاتر. وفي الرواية تترك الشخصية الرئيسية وراءها وجودا بائساً، بحثاً عن مستقبلٍ أفضل وأكثر إشراقاً. وتستند جرار في عملها على التمثيل الموسيقي للروايات الفلسطينية المعاصرة من منظور نسوي، مفكك للاستعمار، عابر للحدود، وتقاطعي، يساهم في ترك الواقع نحو مستقبل يقدّم متنفساً وحقيقة، وليس خيالاً فحسب، بل بديل ملموس لواقع بائس. يمكن القول بأن عمل جرار الموسيقي يحفّز على النجاة عبر تخيّل ملموس للمستقبل، يتضمّن رغبة بالقطيعة عن الكرب، من خلال الأثير باعتباره الفضاء الصوتي الخاص بالمستقبل. إنه صوت المستقبل، حيث توجد فلسطين، خارج حدود وسياسات الدولة القومية، والتحالفات المادية الأرضية؛ مكان تُحترم فيه الطبيعة أيضًا، وتحفظ من الهدر والاستنزاف. وربما أن جرار ترى أن القدرة على تخيّل مستقبل أفضل، يكمن بالدرجة الأولى في الطبيعة أكثر منه في بني البشر.
هذه الطبيعة ذاتها تحتضر، في عمل كل من رنا بطراوي و شريف سرحان والمعنون بـ "وادي غزة" والذي استعرض السيرة الذاتية لوادي غزة، والتحولات التي جرت فيه، منذ الاعلان عنه كمحمية طبيعية، تحوّل في أعقابها إلى مكبّ نفايات ومجرى للمياه العادمة. ويقول الفنانان أنهما اتخذا من حالة الهشاشة التي يعيشها الوادي والكل الفلسطيني مرتكزا لإعادة تصور إطار سياسي مستقبلي مغاير، عبر عملية تفكيك تأملية لواقع الوادي، في محاولة لإستعادة "حرمته"، وتقديم أدوات تساعد في تخيل مستقبل أفضله، نجمت بعد رحلة طويلة من البحث والتمحيص في ماضي وحاضر الوادي. وقد عُرضت هذه الأدوات والتحولات بتفصيلاتها، وحكاياتها وأطرافها المتعددة، لتشق سبيلاً لصناعة المستقبل، على الرغم من كون الِنتاج المطروح في المعرض، أقرب ما يكون إلى بحث، يعرض تاريخ الوادي وحياته بتجلياتها المختلفة.
الحالة البحثية الشاقة هذه انقلبت تماماً في العمل الفني المعنون بـ"دليل المتوتر واللامعتمد من حب الأرض (مستقبلاً)" للفنانة ألاء يونس، حيث اتسم العمل، بطرحه الفوضوي التفكيكي للرموز، والذي يدخل المتلقي في دوامة، قد لا تصل به إلى مكان. وقد استندت يونس في عملها الفني إلى تخيل عملي لفلسطين مستقبلاً، عبر التساؤل عن العجز، والثغرات، والفشل، والفساد، والنزوح المتكرّر، حيث انطلقت محاولتها التفكيكية من التساؤلات، في محاولة منها لتخيّل حب الارض. وهنا تستعيد يونس فكرة الانغلاق، التي يناقشها جلال توفيق حول الشعور بالانغلاق الجذري وما ساهم به هذا الشعور في تأخر قرار المقاتلين الفلسطينيين مغادرة بيروت في العام 1982. بدورها يبدو أن ما تحاول يونس طرحه في عملها هو أن الانغلاق لا يتيح فرصة للتخيّل، وأنه لا بد من النظر إلى جميع المنافذ، حتى لو كان الثمن هو الفوضى. وهذه الفوضى لا يمكن لها أن تنجم بمعزل عن المنهج التفكيكي للواقع، الذي كان من السمات الظاهرة للأعمال الفنية التي طُرحت في المعرض، والتي ابتعدت عن النمط الفني البصري التقليدي المرتبط بالقوة. في معرض "عِرافات"، يمكن القول بأنه انعكس نمط معرضي له ثيمته المتفردة التي أتاحت فرصة الانغماس الحاد في الأعمال المعروضة، ليس من منطلق السؤال الجمالي، بل ارتكازاً على ما اشتملت عليه من خلق حالة من الفضول والتساؤلات المربكة. بعض هذه الأعمال لا نستطيع الجزم أنها أعمال فنية بقدر ما نستطيع الجزم أنها محاولة تفكيك أي قضية من القاعدة كسبيل لطرح المستقبل أكثر قابلية للتخيّل.