يصل بنا فيلم "فلسطين الصغرى" (عبد الله الخطيب، لبنان) إلى المخيم في تجربة الحصار، إنه مخيم اليرموك في دمشق، أكبر مخيّم للاجئين الفلسطينيين في العالم خلال الفترة الممتدة بين ١٩٥٧ و٢٠١٨، تعيش الكاميرا في تجربة الحصار اليومية التي عاشها أهالي المخيم في العام 2014،
هنا، في هذا المكان، الذي ليس بمكان،
حيث تكّثّف الماضي، حدّ الانفجار
حيث خفّت الأرواح
ووُلدت الرّوايات كالألواح
حيث ستولد من بعدها أخرى.
من النص الافتتاحي للمهرجان
يركز مهرجان أيام بيروت السينمائية هذا العام 2022، على الأفلام المتعلقة بموضوعة المكان، وبالعبارة الافتتاحية المذكورة أعلاه يفتتح المهرجان سلسلة من الأفلام العربية والعالمية والتي تعالج بشكل خاص موضوعة المكان، تنويعات على موضوعة المكان تناولتها عدة أفلام: المكان المدمر، المكان الأصل، المكان الحنين، المكان الانتقالي، المكان الجمالي والمكان المصير.
المكان والعلاقات الإنسانية: الحياة في المكان الانتقالي
فيلم "إلياس" (مناف الشامسي، لبنان) عن حكاية عائلة سورية في علاقتها مع المكان الانتقالي الذي أصبح هو بذاته، امتدادً مستمراً، فالحكاية عن ذلك العيش المستمر لعائلة سورية مع المكان المؤقت لبنان بين أرض الأصل وأرض الرحيل، اثنان من أفراد العائلة غادرا إلى أماكن أخرى الأخت إلى كندا والأخ في تايلندا. باقي أفراد العائلة كالأب والأم وبعض الأحفاد ينتظرون أوراق الهجرة في لبنان. بعد 11 عاماً من آخر ولادة، يأتي طفل جديد إلى العائلة، سيحمل الفيلم اسمه، يقول الأب: "الياس ليسهل له حياته فالأسماء المسيحية أفضل"، لكن كيف يمكن ولادة طفل جديد للعائلة في مكان انتقالي؟ لبنان الذي يعاني من أزمات اقتصادية، وانعدام فرص التعليم والعمل؟ إن قرار العائلة في ولادة طفل جديد لأفرادها يظهر ضمن هذه الشروط كمغامرة غير منطقية، لكنها تحمل للعائلة لحظات من الأمل، والمفارقة بين الولادة والمكان الانتقالي واحدة من موضوعات الهجرة والنزوح القسري في العالم.
وفي فيلم "القاهرة برلين" (أحمد عبد السلام، مصر)، وبينما يرقص ثنائي في أحد بارات ليالي القاهرة، تكشف سرقة جزدان نور (29 عاماً) أنها كانت ليلة الوداع الأخيرة لحبيبها وللمدينة دون أن تخبره، فاعترافها في تحقيق الشرطة عن امتلاكها جواز سفر وكرت الطائرة يكشف لحبيبها مخططها للهجرة من المكان. الفيلم هو الليلة الأخيرة التي تخفي فيها نور عن حبيبها قرارها النهائي بالسفر، لذلك تتطرق الحكاية إلى العلاقات العاطفية الثنائية في ظل الظروف القاهرة التي تفرض على الشخصيات السفر. وهو بلا شك، عن صعوبة الارتباط العاطفي في ظل الظروف القاهرة على هجر المكان والبحث عن مصير جديد. لكن ماذا عن العلاقات العائلية والاجتماعية المرتبطة بالرحيل؟ هذا السؤال المضمر هو المحرك المحوري لفكرة السيناريو.
في "غرفتنا" (صفاء مقدة، لبنان)، تعيش صفاء 11 عاماً في غرفة واحدة مع كامل عائلتها منذ انتقالها إلى لبنان، داخل هذه الغرفة الواحدة يقوم كل أفراد العائلة بأنشتطهم/ن، الطعام والشراب والنوم والعزف على الموسيقى والدراسة والأحاديث والنقاشات. صفاء التي تحاول النجاح والدراسة في هذه الظروف المنزلية، يعزف أخوتها في الغرفة ذاتها المخصصة للدراسة تمارين مدرسة الموسيقى التي انضموا إليها. تحاول صفاء الدراسة في الحمام وتظهرها الكاميرا وهي تقرأ في الكتب المسنودة على المغسلة، بينما تلعب الموسيقى في الخارج من قبل أخوتها الثلاثة، إيقاع وعود وغناء. المكان الغرفة يختزل الحالة الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية للاجئين/ات في لبنان، والشرط الحياتي للمكان الذي يحد من الطموحات وإمكان التقدم التعليمي والمهني. والمكان الغرفة في الفيلم يختزل كل الأنشطة العائلية، في إشارة إلى فقدان الخصوصية الفردية وإمكانية التميز، مما يذكر بمقالة فرجينيا وولف عن الكتابة النسائية وضرورة أن تمتلك المرأة "غرفة تخص المرء وحده". أيضاً فيلم "لذا نعيش" (رند أبو فخر، بلجيكا) عن حكاية عائلة تدور أحاديثهم بين الأمور العادية. عائلة تعيش في بلد مزقته الحرب، تقضي ما يبدو أمسية عادية للحياة اليومية وبين البقاء على قيد الحياة.
يحضر المكان في فيلم طحكايا بيتية" (نضال الدبس، سورية) على عدة مستويات: هناك المكان المدينة بين دمشق والقاهرة، فبينما تعيش القاهرة فترة الاحتفالات السنوية بالثورة يهرب إليها المخرج من تجربة القمع والعنف الذي تعيشه دمشق، وهناك المكان البيت الذي يتركه خلفه في دمشق بما يحمله من ذكريات وأغراض وأداوت العمل والسهر والزينة المهدورة، بينما يقابلها المكان المنزل في القاهرة الذي يبدأ أن يكون مكاناً مؤقتاً ثم لا يلبث أن يحتل مساحة أكبر من الاستمرارية والعيش، المكان في المستوى الآخر يأتي من موضوعة الفيلم الأول الذي كان يحققه نضال عن صالات السينما المهجورة في أحياء حمص ودمشق، ومن ثم يتابعه تصوير موضوعته في صالات السينما المهجورة في القاهرة. إذاً، هو المكان الصالة السينمائية. فبينما يُطرد المخرج من الحياة الفنية والسياسية في بلاده، فإن يجد نفسه منخرطاً في تصوير الفرح الثوري في مدينة القاهرة، أما المفارقة الأخرى فهي في التعارض بين علاقة الحنين إلى منزل العائلة في دمشق، وبين محاولة بناء ذاكرة وحياة تراكمية في المنزل الجديد في القاهرة، وحدها تيمة المكان في صالات السينما المهملة والمدمرة هي الموضوعة الممتدة على أكثر من مدينة، من حمص إلى دمشق فالقاهرة، حيث يتابع الفيلم إعادة تأهيل صالة سينمائية في حي شعبي وإعادة شاشتها إلى الدوران وصالتها إلى العروض الثقافية.
المكان كفضاء فني، المكان كفضاء صوتي
رغم إن فيلم "1941" (عاصم عبد العزيز، اليمن) يفتتح بتساؤل: "ماذا فعلت الحرب فينا؟" إلا أن المقاربة السينمائية للمكان تتسم بالطابع الفني، تظهر المشهدية المسرحية أمام الكاميرا من خلال تصميم في المكان لمجموعة من الرجال مكشوفي الصدور وحليقي الرؤوس تتخلل أجسادهم أقمشة حمراء حريرية متطايرة من على أذرعهم وأكتافهم ممتدة خلال المكان، المختار من قبل المخرج ليكون البيوت اليمينية القديمة بين الأعمدة المتوازية من الحجر الصلد، عند أطراف النوافذ والشبابيك ذات الزخرفات التقليدية. إن اللغة السينمائية التي تجمع بين المسرح الحركي وفنون الفيديو آرت، تنحو إلى الفن التشكيلي وتقدم الجسد الذكوري في جمالية المكان، وهو يقوم بحركة مكرورة، يكتب المخرج: "بعد استمرار الحرب في اليمن، يعتمد الناس على الحياكة لصرف انتباههم عن الواقع، مع حركاتها المتكررة الإيقاعية التي تضعهم في اللحظة الحالية، وتشتت انتباههم عن التفكير في الماضي أو الخوف من المستقبل".
فيلم "سكون" (يارا الضهر، لبنان) هو صراع العالم الصوتي الفردي مع العالم الصوتي القادم من الفضاء العام، فالشخصية الأساسية، رمزي، المؤلف الموسيقي وعازف البيانو يعيش في لحظات من الإلهام داخل الأستديو الموسيقي الخاص به، لكن لا عزلة صوتية للمكان، فالمستويات السماعية في الفيلم مقسمة إلى ثلاثة: أصوات الإلهام داخل رمزي، الأصوات الموسيقية لعملية التأليف الموسيقى، والأصوات القادمة من المدينة. تتفاعل هذه العالم الصوتية الثلاثة، أحياناً تنجح الأصوات الداخلية بالوصول إلى الشريط الصوتي للفيلم، لكن الأصوات القادمة من حركة المدينة وضجيجها لا تلبث أن تعلو مجدداً على أي محاولة موسيقية تولد في ذهن المؤلف. إنها العلاقة التفاعلية والصراعية بين ثلاثة عوالم صوتية في مكان منفرد هو الأستديو مع مكان جمعي هي المدينة.
المكان الانفجار والأسطورة
عنوان فيلم "حبال الهوا" (غنوة مروة، لبنان) يحمل الاستعارة الرمزية التي أرادت المخرجة أن توصف فيها حال الشخصيات التي تظهر في الفيلم وتروي عن يومياتها، مشاعرها وتجربتها، أفكارها وخططها في العلاقة مع المكان- المدينة بيروت في ظل الانهيار الاقتصادي التي تشهده البلاد، وبالتركيز على التجربة الجسدية والنفسية والذهنية التي عاشتها الشخصيات في انفجار مرفأ بيروت في العام 2020. تقترب المخرجة من أسلوب البوح الداخلي الذي ترويه الشخصيات التي تتنوع في مداخلتها بين الروي الذاتي، التحليل السياسي، ومحاولات من توثيق تجربة الانفجار. المكان في الفيلم هو موضوعة ملحة، الشخصيات تتراوح في قرارها بين البقاء والرحيل.
يربط فيلم "زوجة لوط" (سابين الشمعة، لبنان) بين الحدث اللحظي والحكاية الأسطورية، والتي تختارها المخرجة مرتبطة بالمكان، فزوجة لوط الواردة حكايتها في الإنجيل، وبينما كانت هاربة من الانفجارات الضخمة التي دمرت مدينتها نظرت خلفها فتحولت إلى تمثال من ملح، تتوقف الحكاية عند طبيعة الالتفاتة إلى الوراء، هل هو التعاطف مع المدينة المدمرة أم الفضول على مصيرها الأخير، لكن المكان في الحكاية يتحول ليمتد أثره إلى تحويل الإنسان الجسد إلى رماد مماثل لحاله، وكأن في هذه الاستعارة تربط المخرجة بين احتراقها الداخلي واحتراق المدينة. الفيلم يحمل لغة سينمائية تجمع بين المشهدية المسرحية والأسلوب التقليلي المينمالي حيث تستعاد الصور في محاولة شعرية سينمائية لرواية الحكاية – الأسطورة وأثرها الذاتي على الشخصية الحاضرة في الفيلم. هو تجسيد سينمائي للحظة التفاتة زوجة لوط المتحولة داخلياً وخارجياً بين الأصوات والصور التي يغلب عليها الأبيض والأسود. وتظهر لقطات فنية كالصحراء الخالية التي تعبر عن احتراق المدينة الأسطورية والحالية بيروت. ويتضمن الفيلم أداءات كريوغرافية بين النار، واللهيب، والرماد، والورق. والفيلم مستوحى من قصيدة للشاعرة (آنا أخماتوفا).
المكان المصير: المخيم بين الحصار والإنتماء
في الفيلمين القصيرين الذين يقدمها المهرجان للمخرج مهدي فليفل يتابعان حكايات الشخصية ذاتها من خلال علاقتها مع المكان. المكان الأصل مخيم عين الحلوة، ومكان الهجرة اليونان، والمكان الحلم مكان الهجرة المأمول. في الفيلم الأول "عودة رجل" (2016، هولندا، لبنان)، نتابع حكاية رضا، الشاب الفلسطيني العشريني الذي أمضى ثلاث سنوات في اليونان، دون أن يتمكن من تحقيق حلمه بالفرار من مخيّم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان والذي يعود إليه مجدداً. تصبح حكايته حكاية المصير العالق في الشروط التي يفرضها المكان، انعدام فرص العمل، والغرق في تعاطي المخدرات وتجارتها، عاد الشاب مدمنًا على الهيرويين، ليجد مخيّمًا مزّقته الفتن الداخلية وبدّلته تداعيات الحرب في سوريا وعلى الرغم من كل الصعوبات، يقرر رضا الزواج من حبيبته منذ الطفولة ويتابع المتلقي عبر الفيلم المصير الثنائي للعاشقين في ظل عجز الزوج رضا التسلل من المراقبة الأمنية المفروضة على المخيم. بينما تجري أحداث الفيلم "٣ مخارج منطقية" (لبنان) الثاني بعد 4 أعوام، فيتابع المخرج حكاية الشاب الفلسطيني رضا في العام 2020، وفي محاولاته المستمرة للهجرة بغاية تأمين حياة أفضل لعائلته. كما يتخلل الفيلم حوارات يجريها المخرج مع عالمة الاجتماع والباحثة "ماري كورتام" التي توضح أن الظروف المعيشية القاسية في المخيم تفرض على الشباب ثلاثة مخارج حتمية للتكيف والاستمرار، فالمخرج الأول هو الغرق في تعاطي المخدرات، والمخرج الثاني هو الانتماء إلى الفصائل المسلحة العلمانية أو الإسلامية المتطرفة، أما المخرج الثالث فهو الهجرة.
يصل بنا فيلم "فلسطين الصغرى" (عبد الله الخطيب، لبنان) إلى المخيم في تجربة الحصار، إنه مخيم اليرموك في دمشق، أكبر مخيّم للاجئين الفلسطينيين في العالم خلال الفترة الممتدة بين ١٩٥٧ و٢٠١٨، تعيش الكاميرا في تجربة الحصار اليومية التي عاشها أهالي المخيم في العام 2014، وبذلك ينضم إلى سلسلة من الإنتاجات السينمائية السورية التي عالجت موضوعة الحصار. تروي المشاهد المصورة في الفيلم مجموعة من الحكايات تشكل كليته، كل منها تظهر صعوبة الاستمرار في ظل الحصار من حيث الحصول على الدواء، والحصول على الطعام، وحقوق الطفولة، وصولاً إلى الحضور المستمر للموت عبر القصف المتواصل أو عبر النقص في احتياجات استمرارية الحياة. يستدرج الفيلم عدة مستويات لمفهوم المكان – المخيم، فرغم أنه يظهر المكان – الحصار – المأساة في ظل غياب كل مستلزمات البقاء والعيش، إلا أنه يظهر أيضاً كمكان ابتكار موسيقي مثل تأليف الأغنيات وتصويرها، والأعمق بأنه يظهر كمكان انتماء، فتمتلئ الجدران المحاصرة بنداءات استغاثة، لكن أيضاً بعبارات: "لا لتهجيرنا من مخيمنا". هكذا يتحول مكان الانتقال مخيم اللجوء إلى مكان انتماء، لتعدد في تجربة الفلسطيني – السوري مكانات التجربة، العيش، النضال، والانتماء. المشهد الأخير في الفيلم حيث يؤدي أحد سكان المخيم أغنية النضال المستمر رغم الدمار والخراب، أغنية التغني بفلسطين في اللحظات الأخيرة من الموت تحت الحصار.