ويعزز من ذلك كون المتحف يعمل كموقع يعاد فيه تجميع صورة الإنسان من شظاياه المتفرقة. ووحدة الإنسان لم تعد شيئا بديهيا فالمتحف سمح لتلك الوحدة بإعادة بناء الإنسان كمشروع يجب ان يكتمل مع الزمن، هذا البناء يكون بما يتوافق مع فكرة الإسقاط والاظهار لبعض الأحداث، والتي تقوم فيها المتاحف بحسب ما تقتضيه الحاجة.
تقمص المتحف أدواراً متعددة، لم تقتصر على تنظيم الأحداث فحسب، بل تخطى ذلك، ليصبح وسيلة للتحقيق في الحدث، وحدوده، وهيكله، باعتباره حدثًا طارئًا بشكل جذري ولا رجعة فيه وسط عالمنا، الذي يتم التحكم فيه رقميًا، والذي يقوم على تتبع، وتأمين، آثار وجودنا الفردي، على أمل، صنع كل شيء، يمكن من السيطرة على عالمنا، من خلال وسائط متعددة. وخلال تسعينيات القرن العشرين أضحت أنشطة النماذج المتحفية تجارية، بصفة متزايدة مع تبنيها مبادئ المؤسسات التجارية، فأقامت تحالفات مع الشركات التجارية، وجعلت منتجاتها أقرب إلى الثقافة التجارية، وحاكت المحال التجارية والمدن الترفيهية أكثر مما حاكت المكتبات، وهذا ما تشهد عليه عدة نماذج متحفية حول العالم منها مثلاً لا حصراً، نموذج بانكسي، الموجود في بيت لحم، إلى جانب جدار الفصل العنصري، الذي لم يعد ينتج الأشياء والصور فقط ؛ بل تخطاه الى تحليل شيئية الأشياء، وهيكل الصورة. مع الحرص على مراعاة رغبة المتلقي ومتطلباته بحيث أصبح أقرب إلى موضوع العرض والطلب، والذي يتناغم، مع طبيعة التغيرات، التي تزامنت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وامتدت إلى عالمنا اليوم، اذ اصبح الانسان، كثير الطلبات والمتطلبات، سريع الملل، راغبا في التجديد باستمرار، مطالبا بالتطوير، على الدوام، في عصر يبدو فيه كل شيء في طريق التطور المستمر والتجدد الدائم(1)؛ لذا نجد المتاحف، بنماذجها، ومعارضها، المتعددة تحرص على أن تتطور وتتجدد، كي تحافظ على مكانتها بين المؤسسات الثقافية الهامة ذات الإسهامات الحضارية الكبيرة في عصر شعاره التطور، والتحديث، والتخصص الدقيق، والرغبة، في الثقافة العامة، والمعرفة الشاملة، لمختلف ميادين الحياة، والحرص على الوقت.
وفي الوقت نفسه، اتجه الفن المعاصر، نحو اتصال أقرب، بعناصر منتقاة، لثقافة جماهيرية، أضحت متغلغلة للغاية، لدرجة أن هذا التوجه يختلط أحياناً مع ارتباط جديد بالواقع أو الحياة الواقعية(2). وعند التفكير في العلاقة بين الأصل وإعادة إنتاجه الذي كان مركزيًا في فن الحداثة وما بعد الحداثة. نجد من خلال معروضات نموذج بانكسي أن حجم التوثيق الفني يتزايد بشكل دائم، لكن وفق نمط إنتاجي جديد، بقوالب تتناغم مع السياق العالمي الذي تحول إلى السلعية. فهذا النموذج يتناغم مع عصرنا، بما يحويه من مرافق مثلاً مطعم، بار، كافيه، فندق للمبيت، وهذا يعطيه فرصة أكبر لجذب جمهور، وضمان استمرارية، المكان، وكسر فكرة كون المتحف معبد، مرتبط بفئة محددة، ويرى أن المتحف أو النماذج الفنية في فلسطين، مجبرة على المضي في هذا النهج، لكونه أكثر جاذبية واستمرارية. يرتبط هذا التصور بالتّطرف النيوليبرالي في تناوله للثقافة كبضاعة، وتسليعه الأعمال الفنية، وتشتيتها، ونشوء احتكارات حول بعض الرموز، أو تهميشها واخفائها، عن السطح(3). لتتناغم مع حاجة السوق، وتلقى قبول من قبل الآخر.
خلال منتصف التسعينيات، برزت إلى السطح أعمال متحولة صديقة للسوق، أضحت فيها الهويات اتحادات طيفية، وأضحى مزجها ودفعها في كافة الاتجاهات أمرا خاضعا للنزعة الاستهلاكية(4). هذه الأعمال أثرت على المجتمعات بعمق، حيث تعيد كل ظاهرة من هذه الظواهر الصناعة الثقافية، إعادة انتاج الناس، طبقا لنماذج الصناعة ككل(5). والتي تقوم على قيم الرأسمالية الغربية الهادفة إلى الربح، وتعظيم الثروة، وغرس ثقافة الاستهلاك التي سادت المجتمعات الغربية طويلاً، في صلب بقية المجتمعات، وجعل العالم ككل سوقاً كبيرة لترويج منتجاتها، جميع هذه التحولات تصب في نطاق إعادة تشكيل الإدراك والوعي، ومخيال الشعوب، وإضعاف مناعتهم الثقافية وإخراجها تدريجيا من دائرتها الهوياتية، من خلال اختزال القيمة الإنسانية إلى قيمة سلعية، بغزو الصيغة الاستهلاكية مجمل الظواهر الحياتية للمجتمع وتحوله إلى صورتها، وتحولها إلى إنتاج قيم استعمال، وهي قيم مادية ونفعية خاوية من الروح والهدف والقيمة والجذور الثقافية، مما يتسبب في إلغاء الخصوصيات والهويات وخلق "عالم اللا ثقافات(6). لأن كل مظهر من مظاهر الصناعة الثقافية تفرض على الضحايا مرة أخرى، دون مواربة إبراز الكبت الدائم الذي تفرضه الحضارة. وان إعطائهم شيء، وحرمانهم من شيء آخر، لهو أمر واحد(7). ذلك لأن الصناعة الثقافية، تجبر المتلقي على استقبال الأوهام، التي تقدمها له، ليس على أنها تعويضات، بل على انه عليه ان يكتفي بما يقدم إليه.
هذا الطرح، تم ترجمته في نموذج بانكسي، من خلال المكان، والأعمال الفنية، وطريقة عرضها، فقد فهم بانكسي، كيف يلعب مع سوق الفن، من خلال ذلك ومن خلال مسألة غموض الشخصية(8)، ووجود أعمال بانكسي أعطت اهمية ووزن للمكان بحسب وجهة نظر مالكه حيث يدرك أن سحب أعمال بانكسي يعني انهيار قوة المشروع(9). وهذه الأعمال لا تعكس طبيعة الوضع الفلسطيني بالضرورة، بل هي أقرب إلى الشكل العالمي المشترك، كما أن الواضح من خلال هذا الطرح أنه يتم التعامل مع هذا النموذج كونه مشروع اقتصادي. وللحفاظ على هذا الوضع يتم العمل باحترافية على كل الاصعدة التقنية اللوجستية ويتم وضع الكثير من الجهد لتحقيق الكمال. كما يتم عمل التحديثات المستمرة بما يتناسب والوضع والحاجة، حيث في فترة الجائحة تم اضافة غرفة قصص مشرقة للفلسطينيين، في الفن، الموسيقى، الرياضة، والتي تعطي دعم وظهور مشرق للقضية الفلسطينية. وتم اضافة قطعة جديدة تم استحضارها من المتحف البريطاني(10)، كما اضيفت أعمال فلسطينية. هذا التطور جاء، بعد الجائحة والاغلاقات، والتي خلقت حاجة لجمهور آخر وهو المحلي حتى يعود المكان للعمل. وهذا يصب في دائرة مواكبة في السرعة القصوى التي تقودها الثقافة العالمية حسب الظروف المحيطة، وتحولها الى سلع تحقق مكاسب حتى لو من خلال الأزمات.
وعندما يُنظر إلى المؤسسات الثقافية بما تشمله من ضروب الفن المعاصر، في كنف ديمقراطيات اليوم، والتي أصبحت وسيلة في يد رأس المال، سيتبين في الغالب، أن التزييف هو أحد أغراضها، لتحقيق مزيد من الأرباح، وأنه هدف يرجى منه في ظاهره، تحقيق مصلحتنا جميعا. في عالم يعج بكل ما هو مزيف يقتل المصلحة العامة باستمرار لصالح الخيال الخاص، وتبقى الحقائق التي نعتمد عليها لإنقاذنا دون تمحيص أو معرفة(11). وذلك لاختلاط المعرفة، بحاجة السوق، مما يصبح، عكس معرفة نقية بدون تدخلات رأس المال صعب، وهذا يؤثر على العمل الفني، أو المنظومة الثقافية بكلها، فكثيًرا ما يُساوى اليوم بين مجال الفن وسوق الفن، ويعَرف العمل الفني في المقام الأول كسلعة. وكون السياق الذي يؤدي فيه الفن وظيفته هو سوق الفن، وكون كل عمل فني سلعة، أمر لا يرقى إليه الشك(12). وعلى الرغم من كل ذلك فإن الزائر النمطي للمعرض نادًرا ما يشاهد العمل المعروض كسلعة.
وهذا التسليع الذي يتناغم مع نمط الحياة الاستهلاكية في العموم، وقد ادى الى تعزيز فكرة حبس العنف الثوري وعدم السماح فيه. حسب ما يشير ماركوز، وذلك من خلال أدوات متعددة، أحدها المتحف، والأعمال الفنية، التي تعزز الانزواء، والخلاص الذاتي، وتنسجم مع فكرة انتهاء الإيديولوجيات. واستخدام الفن كقوة لاختراق الواقع الراسخ وتعطيل الشكل الأيديولوجي المستقر نوعاً ما، للعالم الحالي(13).
ويعزز من ذلك كون المتحف يعمل كموقع يعاد فيه تجميع صورة الإنسان من شظاياه المتفرقة. ووحدة الإنسان لم تعد شيئا بديهيا فالمتحف سمح لتلك الوحدة بإعادة بناء الإنسان كمشروع يجب ان يكتمل مع الزمن، هذا البناء يكون بما يتوافق مع فكرة الإسقاط والاظهار لبعض الأحداث، والتي تقوم فيها المتاحف بحسب ما تقتضيه الحاجة.
المراجع: