مع قيس الزبيدي: إعادة النظر في السينما البديلة

2022-09-03 05:00:00

مع قيس الزبيدي: إعادة النظر في السينما البديلة
من فيلم: اليازرلي

خصائص السينما البديلة المنشودة التي نوقشت في دمشق تعرضت للنقد من قبل بعض المشاركين. وبخصوص فيلم "مائة وجه ليوم واحد" من إخراج كريستيان غازي والذي قام بمونتاجه قيس الزبيدي وحصد جائزة النقاد للأفلام الطويلة في مهرجان دمشق لسنة 1972، فلمح الناقد الفرنسي غي هنبيل إليه:

كتبتها آناييس فارين وترجمها عن الفرنسية بيير جيرار
 

قد تم إعادة اكتشاف فيلم "اليازرلي" في السنوات الأخيرة وهو الفيلم الروائي الطويل الوحيد للمخرج السينمائي قيس الزبيدي الذي مُنع من العرض بعد فترة وجيزة من إخراجه سنة 1972. تتناول هذه المقالة الأكاديمية التي كتبتها المبرمجة والباحثة في الدراسات السينمائية آناييس فارين خصوصيات الجماليات لهذا الفيلم وعلاقاته بمشروع "السينما البديلة" الذي شاركت مجموعة من المخرجين من السبعينيات في تأسيسه. نُشرت المقالة باللغة الفرنسية في مجلة Ecrans (شاشات) "Lisières esthétiques et culturelles au cinéma" عدد 12، 2019، وهذه ترجمتنا لها.

في عام 1972، نظّم في دمشق، المهرجان الأول لسينما الشباب، وأعلن خلاله هؤلاء السينمائيون الشباب بإرادتهم في خلق وإحياء أو تأسيس "سينما بديلة". كما تشرح سيسل بويكس، الهدف المنشود هو "صياغة لغة سينمائية جديدة قادرة على التعبير عن الواقع السياسي والاجتماعي للمجتمعات التي كانوا يشهدونها. ولقد غدت "المؤسسة العامة للسينما" مركز استقطاب ومختبر للسينما البديلة والملتزمة" وقامت هذه المؤسسة بإنتاج فيلم "اليازرلي" وهو الفيلم الروائي الطويل الوحيد للمخرج السينمائي قيس الزبيدي. ولقد منع الفيلم من العرض بذريعة "محتواه الجنسي الصريح" وتم تهميش هذا الفيلم ضمن تاريخ السينما العام لأسباب خارجة عن مستواها الجمالي والإبداعي ونوعيتها الذاتية، كما حصل مع أعمال عدد من السينمائيين الآخرين، ما يندرج على نحو ما، في سياق تلك التجربة أو المحاولة لخلق وتقويم سينما عربية بديلة والتي أصبحت مهمشة.

ولد قيس الزبيدي في العراق وتميز بصفته مونتيراً في السينما السورية من خلال عمله وتعاونه مع عدد من المخرجين من أمثال نبيل المالح وعمر أميرالاي ومحمد ملص. كما قام بمونتاج فيلم "مائة وجه ليوم واحد" سنة 1969 و فيلم "بيروت يا بيروت" سنة 1975 للسينمائيين اللبنانيين كريستيان غازي ومارون بغدادي. وبسبب مواضيع أفلامه القصيرة الأولى، وعمله في منظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم نشاطه ومشاركته الفعالة في البحث عن الأفلام الضائعة سنة 1982 إثر الغزو الإسرائيلي للبنان فاسمه مربوط بصفة عامة بالسينما الفلسطينية.

رغم أن هذه الدراسة التي تستند على الأرشيف لا تختصر كل التوجيهات المقدمة من قبل قيس الزبيدي خلال الحوار معه بمناسبة حضوره أثناء مهرجان سينما فلسطين، يسترشد البعد أو المدى التاريخي لهذه الدراسة بالأخص بوجهة نظر مخرج فيلم "اليازرلي". غير أنّ طموح هذا البحث، المرتكز على عمل هذا السينمائي، ليس بالضرورة مونوغرافياً، بل خلال استذكار مسار قيس الزبيدي المقصود أكثر من ذلك، هو تحليل أشكال التعبير في الفيلم بتركيز الاهتمام على تداول المفاهيم في المونتاج، باعتبارها تكوينات تنظم إنتاج المعاني وإقامة علاقة جدلية حساسة مع العالم. وبالاستناد إلى تعبيرات وأقوال المخرجين والمخرجات ونصوص النقّاد المنشورة في مجلة الطريق، سوف أعرض كيفية الابتكار الشكلي لفيلم "اليازرلي"، فهو مندرج ضمن ظروف جمالية وسياسية وطنية وإقليمية ودولية. بتنويع مستويات التحليل، سأحاول كذلك أن أشرح وأوضح صيرورة أو عملية التهميش للسينما البديلة التي كانت مشروعاً حمله العديد من السينمائيين الذين تشكل إبداعاتهم وإنتاجاتهم نوعاً من مجموعة أعمال غير المتجانسة وغير المحددة بدقة، كما سأوضح كيفية إدراجها في تاريخ السينما.

تأسيس لمشروع: التاريخ العابر للحدود الوطنية والتحولات غير مباشرة

في مقابلة، أعرب قيس الزبيدي في ذاكرته عن نص كتبه بودوفكين ومترجم للعربية، وبالتحديد جملة تقول "إن المونتاج هو القوة الخالقة للفيلم"، الجملة التي دفعته لاختيار دراسة المونتاج في المعهد العالي للسينما في بابلسبيرغ/بوتسدام في جمهورية ألمانيا الديمقراطية. يمكن البحث عن تفسير جدلية التفاعل الثقافي الواضحة في جزء من السينما البديلة في تاريخ سينما جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة. وكغيره من مخرجين عرب آخرين، قد درس قيس الزبيدي بين أعوام 1961 و 1969 السينما في هذا البلد. وحسب كارولين موان، مؤلفة لكتاب مكرس لتاريخ المهرجان الدولي للأفلام التسجيلية وأفلام الصور المتحركة في لايبزيغ، فإن أحد الخصائص والميزات المهمة لهذه المدرسة هي "وجود عدد من الطلاب الأجانب ضمنها، ومنذ البداية"، والذين جسدوا في هذا المكان فكرة التضامن الأممي. فبالنسبة لطلاب مدرسة بابلسبيرغ، كان مهرجان لايبزيغ بمثابة نافذة مفتوحة على العالم. وقد أعلن قيس الزبيدي أنه اكتشف هناك قيمة السينما الوثائقية وهي قيمة سيستخدمها فيما بعد كمحرك ودافع للإبداع ولخلق أشكال سردية بديلة. كما اعتبر مخرج عراقي آخر، وهو فيصل الياسري الذي عمل لفترة في سوريا أيضاً، هذا المهرجان "كأفضل فرصة [...] لتبادل تجاربنا مع سينمائيين تقدميين آخرين من كل أنحاء العالم".

من بين البلدان والسينمائيين المشاركين والسينمائيات المشاركات في لايبزيغ وفرت هذه المناسبة للحاضرين والحاضرات الاكتشاف بالإنتاج الكوبي ابتداء من عام 1961. وكان السينمائي الكوبي سانتياغو آلفاريز عضواً لعدة مرات من لجنة تحكيم المهرجان "الذي جعله مشهوراً في أوروبا". يمكن مقارنة بعض الأعمال التجريبية لقيس الزبيدي في مجال السينما المناضلة بتجارب سانتياغو آلفاريز. فالميل الشعري والاحتجاجي للمونتاج المجازي لأجزاء غير متجانسة، هو الذي يقرب بين فيلم "الزيارة" 1970 لقيس الزبيدي "مع بعض أفلام السينمائي الكوبي، وفيما يخص إيقاع تدفق الصور وإطلاق النيران التي ميزت نهاية فيلم "الآن" (1965) لآلفاريز، فهو موجود أيضاً في بداية فيلم "بعيداً عن الوطن" (1969) لقيس الزبيدي. قبل أن يكرم هذا الفيلم القصير وفيلم "الزيارة"، من قبل لجنة تحكيم مهرجان دمشق السينمائي عام 1972، حصل على جائزة في مهرجان لايبزيغ عام 1969. ومع تصريح قيس الزبيدي بأنه على اطلاع على أفلام سانتياغو آلفاريز إلا أنه أوضح بأنه تأثر أكثر بفيلم أوكتافيو كورتازار (وكان أيضاً عضو لجنة تحكيم في مهرجان لايبزيغ في بداية الستينات)، وهو فيلم "للمرة الأولى" عام 1967، الذي اكتشفه في ألمانيا قبل أن يعمل في سوريا. وعلى غراره صور فيلم "بعيداً عن الوطن"، مع أطفال يشاهدون للمرة الأولى صوراً متحركة، وإذا كان تأثير فيلم أوكتافيو كورتازار موكّداً، فإن أسلوب "بعيداً عن الوطن" الحر يفسر بالوظيفة أو التوظيف المختلف للكلام في الفيلم مقارنة بفيلم أوكتافيو كورتازار: فالتعليقات هي حصراً لأطفال يعبرون بكثير من العفوية عن مشاهدتهم للصور المسجلة في مخيم للاجئين يعيشون فيه، في مدينة سبينة في سوريا. وقد يفسر هذا التوظيف للكلام بشرط لقيد تقني مرتبط بمشكلة التزامن الصوتي الذي فرضته المعدات المتوفرة في سوريا في ذلك الوقت.

وبدون الادعاء بإعطاء وصف شامل للقراءات وللأفلام التي يتموضع فيها المخرج، فإن مرجعياته النظرية للنظريات السوفيتية في السينما، وللأفلام المعروضة في إطار مهرجان لايبزيغ، تشير إلى تفسير قد يكون من التفسيرات المحتملة لفهم تهميش أثر قيس الزبيدي الفيلمي. بالمقارنة بأفلام عمر أميرالاي، الذي درس في المعهد العالي للدراسات السينمائية باريس وعاش أحداث مايو 1968 في فرنسا، قد لفتت أعماله انتباه مجلة "دفاتر السينما" (Les Cahiers du Cinéma) مباكراً وعرضت مراراً في فرنسا في السنوات الأخيرة في إطار أحداث كرست للسينما السورية. فإن لمن يريد أن يفهم ما هي الطريقة أو النهج الذي أنتجت فيها أفلام في سوريا في تلك الفترة وكيف تشارك في طموح خلق سينما بديلة، فلا بد أن يعتبر انتشار الأشكال والأفكار وفقاً لجغرافيا تتجاوز أو تتعدى أي إطار وطني وينبغي الانتباه لأشكال التداول غير المباشرة.

مجلة الطريق: أقوال سينمائيين في العالم العربي في بداية سنوات السبعينات

هناك حاجة وضرورة لتغيير مستوى التحليل من أجل فهم أفضل لصيغ وطرائق هذا التهميش. مسألة اللغة إلى جانب بالمسألة الحاسمة بخصوص صعوبة الوصول إلى الأفلام التي أخرجت في تلك الفترة في العالم العربي -والتي سنعود إليها- قد يفسر إهمال مواقف وأعمال قيس الزبيدي. فآراء ووجهات نظر السينمائيين والسينمائيات والنقاد الذين اجتمعوا في دمشق نشرت في عدد خاص من مجلة "الطريق" اللبنانية (العدد رقم 8-7-،1972). ومن خلال عنوان المجلة "الطريق" ومقال لكريم مروة عنوانه "لا بد من مواجهة صعود الاتجاهات اليمينية في حركات التحرر العربية" والغلاف لهذا العدد من مجلة الطريق مكرس للسينما العربية البديلة، يبرز أن هي مجلة سياسية ينشرها مثقفو الحزب الشيوعي اللبناني.

وكتغطية للفضاء المهرجاني، فإن هذه الوثيقة تتيح الاستماع لأصوات متناقضة ومتباينة، ورؤية مشروع يبتكر وتعريف يتبلور. تعدد الأصوات واستخدامات تعبيري "سينما بديلة" و"سينما جديدة" أحياناً دون تمييز واضح بينهما تسمح على نحو أفضل في فهم المشاكل التي تواجه السينمائيات والسينمائيين الشباب وتنوع واختلاف وتوجهاتهم. السينمائي الفلسطيني مصطفى أبو علي يدعو مثلاً إلى الاستلهام بالتراث العربي في ابتكار أو خلق سينما بديلة، في حين يعتبر المخرج الكويتي خالد الصديق أن تدمير السينما التجارية التقليدية سيتم عن طريق الاتصال بالخارج.

ينتقد قيس الزبيدي في نصه "عالم الأوهام" ما تصنعه السينما العربية الكلاسيكية. ويطالب بــ "ممارسة مونتاج إنطلاقاً من الحياة كما هي" ويوضح ذلك قائلاً "إن السينما العربية تعاني أمراضاً مزمنة ناتجة من عزلتها شبه المطلقة عن الواقع اليومي للجماهير. ولعل من أحد الأسباب الفعالة في ترسيخ هذه الأمراض على مر الزمن عدم وجود تجريبة سينمائية تسجيلية عربية عند السينمائيين العرب أو عند الجمهور السينمائي الغفير".

إن الآراء التي نشرتها مجلة "الطريق" تظهر أن الأشخاص المجتمعين في دمشق يرغبون بالاستجابة لظرف خاص بالسينما العربية تتميز بهيمنة الأفلام المصرية وتقليدها محلياً. ذكرت المخرجة المصرية نبيهة لطفي في مقالتها في "الطريق" تأسيس جماعة السينما الجديدة في مصر، وشددت على ضرورة التوجه للجمهور في المنطقة بخطاب سينمائي لا يحتقر ذكائهم ويستلهم بوجودهم بدون الاكتفاء بتقليد السينما الأوروبي". أما حميد مرعي وهو رئيس المؤسسة العامة للسينما وعضو لجنة التحكيم لمهرجان دمشق السينمائي لسنة 1972، فصرح خلال "لقاء السينمائيين العرب والأفارقة" في الجزائر:

"على مستوى القطاع الحكومي، هناك قرار هيكلي وهو تأهيل كوادر سينمائين سوريين خلافاً للقطاع الخاص المعتمد كلياً على الكوادر المصريين، ويبين أنهم ليسوا أفضل السينمائيين المصريين، بل هم مخرجون من مستوى أدنى. فأفلام القطاع الخاص هي أفلام مصرية منتجة في سوريا وليس فيها سورياً سوى منتجها".

المجلات السينمائية اللبنانية في ذلك الوقت التي تتناول الأفلام المعروضة في قاعات السينما، تتيح لنا التدقيق في الموقع المهم الذي تحتله السينما المصرية على شاشات هذا البلد. كما تعرض في الصالات أفلام بإنتاج مشترك سوري لبناني أو أفلام مثل "جيتارة الحب" وهو كوميديا رومانسية من إخراج محمد سلمان والذي دام لوقت طويل على الشاشات اللبنانية سنة 1974، وتمثل فيه المغنية اللبنانية الشهيرة صباح وهي تتحدث باللهجة المصرية كما يحدث مع عدد من ممثلي تلك الفترة، رغم الأمر المبرر في سرد هذا الفيلم.

إلى تلك المسألة يضاف ما من شأنه توثيق المأساة الفلسطينية، التي ليست فقط موضوعاً لعدد من إنتاجات المؤسسة العامة للسينما ومن الأفلام التي عرضت في دمشق سنة 1972 فحسب، وهي توضح تأسيس وحدة الإنتاج السينمائي الخاصة بمنظمة التحرير الفلسطينية والبحث عن أشكال سينمائية خاصة لتطرح القضية الفلسطينية على نحو مختلف بعد نكسة حزيران 1967 التي أدت إلى تنديد بالحكومات العربية وعلى أثرها تأسست حركات أعادت التفكير في طرق المعارضة التقليدية. رغم أن انتشار السينما البديلة كان ضعيفاً خارج المهرجانات، فإن بعض الأفلام المنتمية لهذه الحركة، من بينها أفلام وثائقية قصيرة لقيس الزبيدي، عرضت في بيروت في إطار النادي السينمائي العربي الذي شارك في تأسيسه المخرج اللبناني برهان علوية وهو مخرج فيلم "كفر قاسم" الذي يعرض المذبحة التي ارتكبتها إسرائيل في قرية كفر قاسم الفلسطينية.

خصائص السينما البديلة المنشودة التي نوقشت في دمشق تعرضت للنقد من قبل بعض المشاركين. وبخصوص فيلم "مائة وجه ليوم واحد" من إخراج كريستيان غازي والذي قام بمونتاجه قيس الزبيدي وحصد جائزة النقاد للأفلام الطويلة في مهرجان دمشق لسنة 1972، فلمح الناقد الفرنسي غي هنبيل إليه:

"أتذكر مناقشات عنيفة مع المخرج في المهرجان الأول لسينما الشباب في دمشق في عام 1972، حول أهمية النهج الفني الذي كان، باختصار، يطمح إلى العثور على نوع من السرد "الثوري في جوهرها" انطلاقاً من بحوث مختبرية لا تأخذ في الاعتبار تلقي وتقبل الجمهور".

في مقال عنونه "الضجيج حول السينما البديلة أكبر من واقعها" ندد الناقد السينمائي فريد جبر بالموقع الرئيسي الذي تحتله القضية الفلسطينية، والذي قاد إلى إهمال المشاكل الأخرى من طرف السينمائيين الشباب. واقترح أنه ينبغي الاستناد إلى السينما المصرية في بناء سينما بديلة بدلاً من جعلها كبش فداء.

قيس الزبيدي: مخرج مونتير ملتزم بخلق سينما بديلة

اقتبس فيلم "اليازرلي" عن قصة قصيرة وهي السيرة الذاتية للكاتب السوري حنا مينه، تندد بمهارة بتبعات الهجرة الريفية الجماعية وبالفقر، وهي ثيمات مشتركة للسينما الملتزمة في تلك الفترة. في هذا الفيلم، كانت الوظيفة النقدية "لتفكيك الاستمرارية"، مضاعفة. فمن جهة، ما كان يهم قيس الزبيدي يكمن كما يبدو بجلاء، في البعد التأملي للتلاعب بالشريط السينمائي باعتباره أداة تعارض "الكذب والخداع والتزوير لعالم الوهم الذي صنعته ومازالت تصنعه السينما العربية الكلاسيكية". وجهة نظر طفل التي يتبناها، هي كذلك نظرة نقدية، لأنّه على الهامش، يطرحها الفيلم على العالم. فالأشكال تتبنى التعبيرية الذاتية للطفل، وهي تندرج في أعقاب التجارب للمخرج في مجال الفيلم الوثائقي ("بعيداً عن الوطن"، و"شهادة الأطفال الفلسطينيين في زمن الحرب" 1972)، وتسهم في"السردية التجريبية" للفيلم. وعلى سبيل المثال خلال اليوم الأول لعمل الطفل وأول لقاء مع من سيصبح رب عمله، المونتاج المتكرر لثلاثة صور التي صورت من مواقع مختلفة لكنها مشابهة في تكوين الصورة وحركات الكاميرا، تسمح بتقديم هذا اللقاء أو تمثيله كنوع من المواجهة مع السلطة . وعلى نحو أعم، فإن المونتاج المتكرر لنفس الحدث والصور المدمجة في وسط اللقطات، واستخدام التصوير البطيء، وتوقف أو تجميد الصور، تبدو كأنها وسائل لمعاملة الزمن كمادة تشكيلية، لإضفاء قيمة مضافة على وجهة نظر الطفل التي يقدمها حول الصعوبات الاقتصادية التي يعيشها زملاؤه العمال، والتجار الصغار كأبيه، وطرد أخته المتعلقة بيد أبيها وهو خائف من الفضيحة.

تتجلي قدرة الطفل على اللعب، على التحدي والتساؤل، كما تتجلي أحلامه ورؤيته من خلال هذه النوع من الاختيارات التشكيلة (وظهور الأشخاص على طريقة مسرحية وانفصالها كلها عن الأخرى هي مثال آخر لذلك) التي تشير إلى علاقة شعرية بالعالم، وإلى رفض نوع ما للصور والأشكال المهيمنة، من أجل تحويل وتوسيع الطرق لتفسير العالم.

كان قيس الزبيدي يحضر فيلمه "اليازرلي"، الذي يعتبره بمثابة "بيان للسينما البديلة"، حينما عقد مهرجان دمشق، وفي نفس الوقت كان يعمل بالتوازي على مونتاج فيلم "الحياة اليومية في قرية سورية" للمخرج عمر أميرالاي. يلعب تجميد الصورة دوراً مهماً في هذا الفيلم أيضاً. ففي استفتاح الفيلم الوثائقي لعمر أميرالاي، نرى رجلاً بالتصوير البطيء يمزق ملابسه بغضب قبل أن تتجمد الصورة. ثم تعود هذه الصورة ثلاث مرات في الفيلم قبل المشهد الختامي، الذي ينطلق من هذه الصورة الجامدة ليحرر أخيراً الصرخة المكبوتة للفلاح. بعد تأجيله لعدة مرات يطلق نقداً للإقطاع ولحزب البعث، قبل توقف آخر للصورة يتبعها النص التالي:

"علينا جميعاً أن ننخرط في النضال من أجل خلاصنا المشترك. ما من أياد نظيفة، ما من أبرئة، ما من متفرجين. إننا جميعاً نغمِّس أيادنا في وحل أرضنا وكل متفرّج هو جبان أو خائن..."

مع أنّ وظيفة النهاية غير المكتملة تختلف بين فيلمي "اليازرلي" و"الحياة اليومية في قرية سورية"، ولكن في الحالتين هي حركة أو شكل يشتغل على التعارض الجدلي بين التسجيل والقدرة التشكيلية من خلال تقديم شكل مفتوح في نهاية المطاف. وخلافاً لنقد سيرج داني الذي يعتبرها "حيلة مهمتها تجميد مشكلة النهاية" في تحليله لأفلام أخرى، فإن المشهد الختامي أو النهائي لفيلم "الحياة اليومية في قرية سورية"، هو بجلاء إشارة لمشروع أوسع يعبر عن رغبة في التغيير، مستشهداً بالمفكر فرانز فانون كما فعلا سابقاً فرناندو سولاناس وأوكتافيو جيتن. وبالجدير بالذكر أن عمر أميرالاي قد ترجم بيانهما "نحو سينما ثالثة إلى العربية.

تدمير، سرقة، نسيان، وعودة لمشروع جماعي؟

تزامن عرض الفيلمين مع نهاية مرحلة الوصول إلى السلطة لنظام حافظ الأسد، الذي "صحح" من جموح مناهضة الإمبريالية بتصفية خصومه ومنافسيه، ومنع عرضهما في سوريا. بعد الفترة حيث شجعت المؤسسة العامة للسينما في سوريا التجريب الفني والنقاشات حول السينما البديلة، فإن مديرها وهو حميد مرعي، (والذي ساعد قيس الزبيدي على العمل في سوريا) قد أعفي من منصبه سنة 1974 في خطوة استبدال إدارة المؤسسة العامة للسينما.

رغم أن هذه العملية قد أثّرت بعمق وعلى نحو مستمر على إعادة تنشيط المشروع، إلى جانب الرقابة وضياع قسم من الأفلام التي أنجزت في تلك الفترة، إلا أن ذلك لم يطمس نهائياً ذاكرة تلك "اليوتوبيا" غير المكتملة. ومقال للناقد اللبناني وليد شميط نشر في مجلة السينما الجزائرية "الشاشتين" عام 1979 مثال على ذلك. فهذا الناقد يعتبر أن السينما البديلة بقيت "في مرحلة الكلام ولم تتكرس كحركة حقيقية فعالة [...] كما هو الحال مع شعار "السينما الثالثة" بل استمر الحديث عنها "كمشروع طموح لم يكتمل ولم تحدد ملامحه النهائية بعد" ويذكر بأفلام أنجزت "خلال السنوات الأخيرة" تسمح بتأكيد بهذا الاتجاه.

لقد نجا فيلم "مائة وجه ليوم واحد" من التدمير الذي تعرضت له الأفلام الأخرى للمخرج كريستيان غازي، وعثر عليه مؤخراً في سوريا على يد المخرجين اللبنانين رامي صباغ ورائد ياسين. ومثلهما، قام بعض المخرجين من الجيل الجديد بالبحث عن ذلك التاريخ. وفي تعليق على فيلها القصير الأول، استعارت جماعة أبو نظارة الكلمات التي اختتم بها فيلم "الحياة اليومية في قرية سورية". وقيس الزبيدي، الذي يعيش حالياً في برلين، هو جزء من هؤلاء الذين يسعون إلى حفر وإنعاش الذاكرة. في فيلم "ملوك وكومبارس" لعزة الحسن (2004) تقوم المخرجة ببحث عن أفلام وحدة الإنتاج السينمائي الخاصة بمنظمة التحرير الفلسطينية ونرى الزبيدي وهو يقودها في مقبرة، ويفترض أنّ الأفلام التي اختفت سنة 1982 مخفية فيها. وبفضل الاتصال بقيس الزبيدي، تمكنت آن ماري جاسر بتنظيم أول عرض لفيلم "ليس لهم وجود" لمصطفى أبو علي (1974) في فلسطين. وعاش المخرج نفس التجربة التي عاش بها كريستيان غازي وهي إعادة الاكتشاف لفيلمه بعد مرور بعض عقود. في الآونة الأخيرة تم العثور على فيلم "حصار مضاد" (1977) لقيس الزبيدي من قبل رونا سيلا في أرشيف الجيش الإسرائيلي في وزارة الدفاع وأفلام أخرى صودرت كغنائم حرب عام 1982.

وأخيراً في نهاية فيلمها "شعور أكبر من الحب" (2017) تشكر ماري جرمانوس سابا قيس الزبيدي ويستحضر هذا الفيلم صوراً وأصواتاً من السبعينيات تشهد بالهزائم التي تطاردها كأثر لحماسة "يوتوبية" منسية. وكان قيس الزبيدي مونتير الفيلمين اللذين تذكرتهما ماري جرمانوس سابا وهما "مائة وجه ليوم واحد" (كريستيان غازي، 1969) و "أوراق الفقراء الذهبية" (كمال كريم، 1975). في "شعور أكبر من الحب" تعبر أيضاُ المخرجة عن أهمية التنظيم الجمعي من خلال ربط صورها بصور كريستيان غازي منذ اللحظة الأولى من فيلمها. وفيما يخص "أوراق الفقراء الذهبية"، قامت ببحث عنه لأن لا أثر لأي نسخة منه حتى من طرف الحزب الشيوعي اللبناني الذي أنتجه. رغم أن هذا البحث ليس الموضوع الرئيسي للفيلم، هذا النوع من التساؤلات لا يغيب عنه فعلى سبيل المثال في الدقيقة الـ67 للفيلم يعرض على الشاشة السؤال التالي "صعب نحصل على صور عن تاريخ الحركة العمالية، إذا حصلنا عليها راح يتغير شي؟"

في عهد حيث "الحوار بين الثقافات" في إطار الــ"الأورو متوسطية" أصبح جزءاً من خطاب السلطة، وحيث تم تكريم عدد من الأعمال السينمائية المنجزة في بعض الدول العربية في مختلف المهرجانات السينمائية الدولية، تذكرنا طموحات السينمائيين في تلك الفترة بقدرة جمالية لمشروع التغيير السياسي. إن إعادة التبني لهذه التركة من قبل بعض السينمائيين المعاصرين، هل ستكون بمثابة طريقة للتذكير، كما قال كريستيان غازي في دمشق عام 1972، بأنه "لا يمكن التعبير عن قضية مركبة بشكل بسيط ودون تشريح" ؟ وعلى نحو أوسع، هل يمكن التساؤل عبر الماضي وبمنظور الحاضر عن الأشكال الممكنة لارتباط الأصوات والصراعات؟ تشهد الأفلام التي لا يمكن تصنيفها والتي أخرجها قيس الزبيدي على أهمية دور المهرجانات في نقل أشكال ضد التيار، فضلاً عن الطريقة التي تستمر بها التساؤل عند أولئك الذين "رغبتهم لا نهاية لها"، وتشكل في رأيي شكلاً من أشكال المقاومة لظاهرة المحو التي تميز المجال المعاصر للثقافة.