هذه هي الأسئلة المفتوحة التي ألقيها على القارىء في محطّة التفكير في موت كاتب شابّ من غزة، وعلاقته بتحرر خيال المكان من عبء خوفه، والدخول في الغرابة الأليفة.
التأسيس للغرابة
نُشر مقال فرويد الموسوم بـ "Das Unheimliche"، لأول مرة في عام 1919 وقد اعتبر أحد أكثر النصوص تأثيراً وتأسيسًا في مجالات الدراسات الثقافية والنقد الفني والفلسفة القارية. هذا المقال يصف على نحو دقيق السيرة الذهنية للإنسان الحديث، وعدم قدرته على الهروب من الصدمة والإحساس بالرهبة، بالقلق من الشيء والانجذاب إليه، الشعور بالغرابة داخل الحميم نفسه، الشعور بالقشعريرة وعدم الراحة اللذّين ينشآن عند مقابلة المنزل الذي هو في نفس الوقت غامض ومغلق ومخيف ومغرٍ.
المسافة التي تبعدنا عن موت الكاتب الغزيّ الشّاب مهنّد يونس (1990-2017) وتقرّبنا إليه، هي نفسها مسافة الغرابة التي تبعدنا عن نصوصه وتقرّبنا إليها. إنّه العالم الهجين والهجنيّ في آن، الذي عاشه الكاتب من جهة، ثمّ قدّمه بالكتابة عبر تمثّلات سرديّة خلقت شيئًا من اللايقين وشكّلت امتداداً للحميميّ الذي كان يهدفه إليه عبر الكتابة من جهة أخرى.
ثمّة حالة من التطابق والتماهي التّام بين فكرة الغرابة بمفهوم فرويد، والغرابة التي تنتجها حالة كاتبنا الشاب على المستوى السرديّ والواقعيّ. فنصوص مهند يونس تبدو وكأنها تقف على حافّة الأليف المقطوع بالقلق، والأمل المحفوف بخطر اليأس لدرجة أنّ هذه الحديّة في الوصف تثير لدى المتلقّين إحساسًا بالألفة التي سرعان ما تنقلب إلى رهبة، إلى حالة من فقدان الأمان. الغرابة هنا تبدأ من الغريب الذي يصبح أليفًا وتنتهي إلى اللامألوف فينا. عبر السّرد، تسير الغرابة في حالة تماهٍ مع سيكولوجيّة الفقدان والكبت، فالراوي البطل في نصّ "عائلة مؤقتة" في مجموعته القصصية الثانية (2018)، يشعر بالفرحة الغامرة وهو يطرحُ فكرة أن يكون ركّاب سيارة الأجرة المؤقّتين والذين ينزلون ويصعدون في محطّات- هم عائلته. إحساس بالسعادة والطمأنينة يغمرنا، على غرار الراوي، ونفرح لفرحته "المؤقتة". لكنّه سرعان ما يخرّب هذه الغرابة الأليفة في الفكرة الغريبة التي تحوّل الغرباء إلى عائلة دون حركة اتصال وتواصل، دون حقوق وواجبات، فكرة تملأ الراوي البطل بسعادة وتعوّضه عن خسارة يعود ويطفو فيها المكبوت على السطح في شكل رغبة ملحّة لإشباع غريزة مفقودة سرعان ما تنتهي بالخوف وبتحطيم التوازن بين الهو والأنا، بين انفجار الرغبة بالامتلاك والعودة إلى أفق الواقع المخيّب ليقول:
أنا ممتن جدا لكوني أحد أفراد تلك العائلة المؤقتة. كان الركاب ينزلون في محطات مختلفة تباعا وشيئا فشيئا كانت عائلتي الجديدة تتفكك وتتلاشي. لم أعلم في أي محطة أنزل. نت الراكب الأخير، وعندما نزلت، أدركتُ أنني بلا بيت.
في المساحة المؤّقتة، يلعب السارد-الراوي، وكأنّ هذه الوقتيّة هي الفضاء الأكثر خصوبة للمناورة والتحوّلات ومعالجة الغريب "الأليف"، لينتج الغريب اللامألوف. من هنا، فإنّ الواقع عند مهنّد يونس، هو حالة من الغرابة المرفوضة، هذا الغريب المألوف الذي لا بدّ وأن يدخل في عباب التداعي الحر، ويتحرر من المألوف باتجاه الأليف، ثمّ يصبح لا مألوفًا- على الحدّ بينهما.
لعلّ فكرة ترسيم الصلة القويّة بين الغرابة والأليف واللامألوف، هي جوهر الثالوث الذي يربط يونس بالكتابة (بصفتها تمثيل لجغرافيا التحرر والتيه في نفس الآن)، والواقع (بصفته البيئة الأكثر خطرًا على الإنسان ورغباته)، والذّات (بصفتها العنصر الأكثر نشاطًا في تحريك هذه الرغبات إلى كل الاتجاهات، تخريبها، تثبيتها، أو زحزحتها).
سياسة الألم وخلق الممكن
إنّ المحرّك المركزيّ الذي يضحّ حياةً في عالم مهنّد يونس الذهني والأدبيّ، هو فكرة الغرابة وتقاطعاتها مع الأليف، المألوف، واللامألوف، وفي هذا العالَم يتحرّك الكاتب الشّاب في نصوصه، ويولّد لدى المتلقّي إحساسًا بالقلق. حتّى في عنوان مجموعته القصصية "الآثار تترك خلفها أقدامًا"، حيث العلامة تصير الأصل والقدم تصير فرعه، وهو ما يسترعي الانتباه والتفكير في مفهوم الشيء والحاصل منه، وكأن الكاتب يدفع بعجلة الزمن إلى الخلف ويعيد النّظر فيه داخل ماكينة من الأفكار المتشاحنة، وفي عملية معالجة ذهنيّة لما يدور حوله. يضعنا هذا الزّخم المتواصل في الأفكار العبثيّة البديلة للواقع حول الموت، والمكان، والوجود والمحيط، أمام محاولة مؤكّدة من قبل يونس لخلق ممكن بديل يقوم متنه على تمكين الغائب رغم غيابه، وبعثرة الموجود. وهذا ما يتّضح في عنوان مجموعته الذي يحيلنا أيضًا الى مفهوم الأثر في كونه محو الشيء مع الحفاظ على حضوره، القلق بين الدّال والمدلول وتفكيك أفق الموجود في الانزياح نحو ألفة الغرابة والغريب ثمّ خلق أفق جديد غريب ليس بالمألوف وليس بالأليف. هكذا مثلا في قصة "الثمن"، يهيئ لنا الراوي الخلفيّة المنفّرة لامرأة سيّئة السّمعة، يسبّها المارّة ويطلقون عليها لقب الرخيصة والقحبة، في وصفٍ بارد لكنه لا يخلو من تعاطف يقدّمه الراوي من خلال حضور الطّفل، ابنها، في المشهد الأول واختفائه المفاجئ ثمّ رحلة بحث الأم عن طفلها بين المسؤولين الكبار وتقديم جسدها ثمنًا مقابل العثور على ابنها، لكن عبثًا. هذا العبث، بعد أن قطعنا شوطًا في الغرابة الأليفة مع أنسنة هذه الشخصية ومنحها خصال الأمومة، وتماهي طفل الحديقة معها وهي تبحث عن طفلها، يوصلنا إلى الغرابة اللامألوفة من جديد في مشهد النهاية مع المسؤول الذي يركّز على إشباع رغباته في جسدها ثمنًا مجانيًا للاشيء، فيُبذح الجسد ويقدّم قربانًا بلا مقابل:
وهذه الليلة أيضًا، هلا أتيت بسرعة؟! بحقّ السماء؟ لن أنفق اليوم بطوله مع عاهرة؟! أتعلمين كم يدفعون لكي يحظوا بوقتي هذا؟! أما أنا فأدفع لك! ثم يقولون إننا ننهب الشعب!
من مشهد بصق المارّة على العاهرة، إلى "بصق" القارىء في وجه الضابط والمسؤول الكبير، ثمّة لعبة تغريب يبتكرها الكاتب قوامها المغايرة والاختلاف وهما جزء لا يتجزأ من عالم مهنّد يونس السّرد واللغوي، الذي يأتي بنا إلى لحظة التفكير في فكرة الانتحار وعلاقته بالمكان وولوج المنطقة الحديّة بين اليأس والأمل.
شهوة الانتحار وولادة المعنى
يمتلك فيلسوف اليأس إميل سيوران موقفا من اليأس والأمل يقول فيه:
"المزعجُ في اليأس أنّه بديهيّ ومُوَثَّق وذو أسباب وجيهة. إنه ريبورتاج. والآن أمعِنوا النظر في الأمل. تأمّلُوا سَخاءَهُ في الغشّ، رُسُوخَهُ في التدجيل، رفضَه للأحداث، إنّه تيه وخيال. وفي هذا التيه تكمن الحياة ومن هذا الخيال تتغذّى".
أتأمل هنا المقولة وعيني على سؤال المراوغة في عبارة السخاء في الغشّ. في تربية الأمل استعارة للخيال المقموع، للأمكنة التي طغت عليها فوبيا التفكير في المستقبل. تغمض عينيها على آخرهما، وتطير في رغبة الأمل، في غشّه، في كرمه وهو يمنح الأجنحة للتحليق عاليًا في سماء الوهم. الأمل الذي نربّيه هو وهمٌ، وفي الوهم تخييل، وفي التخييل حرية ومساحات الأفق المفتوح. الأمل، على عكس اليأس، لم يعد كلمة ساذجة، بل مفخخة بالمعاني ونقائضها، تحمل الشيء وضدّه، ومن الجنون، على حد تعبير سيوران، إدخال الأمل في المنطق. على عكس اليأس في مرتفعاته وحيدًا أحاديّ الاتجاه واضحًا بريئًا لا مناورات فيه.
ولعلّ الانتحار هو السؤال الجوهري الذي تعامل معه فلاسفة العصر الحديث على أنّه معضلة الفلسفة ومأزقها. نحن أمام أكثر الأسئلة حميميّة في علاقتنا مع الموت عمومًا. فالانتحار هو أكثر اللحظات أملا في الجسد بأن لا يخونك، الإسراف في رفاه التفكير في التخلّص من الجسد أو التحرر منه، إذ يتيح الأمل هنا خيارات متعددة للموت عبر وضع الحدّ بدافع الإرادة، وهي في حدّ ذاتها شهوة إيروسيّة عنيفة في تدمير الجسد وخرابه لكونه قرارًا مسرفًا في القوّة أو العنف أيضًا.
لكي نفهم انتحار كاتب واختلافه عن انتحار انسان عاديّ، علينا أن نفكّر في فكرة الكتابة نفسها وتهييج الخيال، فهو المنطقة الوحيدة المأمول فيها في الإجابة على سؤال لماذا ينتحر الكتّاب؟ وبهذا تقع التعددية والحريّات في معنى أن تموت بقرار ذاتيّ، لا أن تُقتَل، وإرباك يقين المكان الذي يأتي منه مهنّد يونس، بكلّ ما يحمل من إسرافٍ في الألم واليأس.
في لحظةٍ تشبهه تماما، يطرح الكاتب في قصّة "الحوت الذي صفق باب غرفتي بذيله"، أسئلة حول الملل وسؤال الجدوى والرغبة في الموت في المكان (غزة):
لنختصر الأمر، رأيتُ في ذلك اليوم أني على شاطئ بحر غزة وأعاون نحو عشرين رجلا في سحب حبال طويلة، شُدّت إليها نحو حوتين أو ثلاثة على الشاطئ، فيما يبدو أنها حيتان منتحرة، استغربت الأمر، فنادرًا جدا ما تنتحر الحيتان على شواطئ المتوسط، وخصوصًا في غزة، أعني، أمر مثير كهذا يصعب مشاهدته في غزة التي عرّفها ذهني على أنها مدينة مصنوعة من الملل الخالص.
المهم، لا اذكر ماذا حدث بعد ذلك، هل رحلت من المكان أم أني بقيت هناك؟ هل كنت أعمل مع أولئك الصيادين أم أني فقط كنت ما أمر من هناك؟ لكن ما الذي دفع تلك الحيتان على الانتحار؟ هل تدرك الحيتان أن الحياة بلا جدوى أيضًا؟ أم أن البحر يطردها؟ أم أنه يضحّي بها مقابل كل المنتحرين في البحر؟ كيف تنتحر الحيتان؟ بإلقاء نفسها الى اليابسة، ونحن؟ بإلقاء أنفسنا في البحر. هل ملّت أيضًا؟ ما هذا اللون الأزرق الذي لا ينتهي مغلفًا كل الافق؟ الحيتان تخرج الى الهواء بضع دقائق كالغواصات النووية المستكشفة، انها تشتاق للسباحة في الهواء، ونحن أيضًا مثلها، البحر مغرٍ بالموت. عليك فقط ان تدع نفسك تفلت منك، اتركها تنساب، تخلّ عن جثتك، وحلّق. لماذا لم اساعدها في الرجوع للماء، لقد سمعت أنهم فعلوا ذلك في اليابان، جمعيات حماية الحيتان الزرق أو ما شابه. لكن وما شأني؟ كيف يمكننا أن نعتدي على رغبتها في الموت؟ أعتقد أن أهم حق يجب أن تضمنه الأمم المتحدة، ليس حق الإنسان في العيش، بل حقه في الموت. ما الذي يعنيه هذا الهراء بأي حال، الكل يموت.
حتى الحيتان تموت، تلك المخلوقات الضخمة التي بوسع رجل أن يتمشّى في شريانها الأورطي، والتي لها صغار بحجم بيت، تموت أيضًا، ما أتفهنا تجاهها وما أتفهها تجاه الموت. من حق الحيتان الانتحار، والاعتداء على رغبتها جريمة بحق أنفسنا. لا ادافع عن تصرفي هنا، لكني أنا أيضًا آمل بألا يمنعني أحد من الانتحار تحت أي ذريعة.
كلّما غاصَ الإنسان في الألم وجد سعادة أكبر ومعنى أكبر، وخلّص نفسه من "الملل الخالص". إنّه يردّ على يقين يأس الواقع الأحاديّ وشيخوخته بتخريبه وبمواجهة اللا يقين والردّ عليه بعنف. في انتحاره الموغل في غرابة أليفة، رفض الكاتب الراحل أن يشيخَ، وأعلن ميكانيزمًا دفاعيًّا عن حقه في أن يظلّ شابًا، وعن حقّه في إرباكنا، كما أربكتنا حيتانه الصغيرة، وهو يضعنا أمام سؤال الخيال وأثر الأمل فينا. يصبح الانتحار هنا لحظة الأمل الكبرى التي يختار فيها الكاتب غرفته وعدّته على فراشه -الفضاء الأكثر حميميّة- ليوغل في الغرابة الأليفة التي تجعلنا نتعاطف مع إرادته ونتجاوز سؤال اليأس صوب أفق الأمل في تحرير المكان، غزّة، الذي يأتي منه، والذي يشبهه تماما. إنّه يردّ على العالَم ويعلّم المكان درسًا في تحرير المكبوت، وإتلاف ألم المكان، بل وتحرره منه والتعالي على بؤسه.
كيف يفعل مهنّد ذلك، وكيف للمكان أن يتحرر من بؤسه وقمعه؟ ببساطة: كيف يمكن للمكان أن ينتحر ويتحرّر ويُولد المعاني؟
هذه هي الأسئلة المفتوحة التي ألقيها على القارىء في محطّة التفكير في موت كاتب شابّ من غزة، وعلاقته بتحرر خيال المكان من عبء خوفه، والدخول في الغرابة الأليفة.