حَبّابة أمونة، مخزن الحكايا

2023-01-18 12:00:00

حَبّابة أمونة، مخزن الحكايا
A Wrecked Sugar Refinery, John Singer Sargent, 1918

عندما وصل محمد إلى أطراف الخربة ألقى السلام قائلاً "السلام عليكم يا أهل الأرض" بناءً على نصيحة همس له بها أحد الحاضرين، وأضاف الهامس له نصيحة أخرى، سترى أمك وأبوك وأقاربك وجيرانك يطلبون العون، إياك أن تحوِّل عن فرسك أو تنظر بعين أحد منهم، في هذا سلامتك! 

أم والدتي، اسمها قرين اسم آمنة، وآمنة اسم أم والدي التي لا ذاكرةً لي عنها، وحتى والدي ليس لديه إلّا ذاكرةً فقيرةً عن أُمِّه. قال مرة لما سألته عنها: مرِضَت بعد ولادة عمك محمد. عمّك محمد كرَدَها. وأضاف مازحاً ""كُصْتو چـلْحَه". نقلوها إلى حلب حيث توفيت ودفنت هناك.

أسأل: تعرف مكان قبرها؟ قال: زرت قبرها مرتين مع جدّك، وحاولت في مرة ثالثة عندما كبرت، ولم استدل على القبر.

أمّا حبّابة أمونة التي عاشت طويلاً فكانت عمشاء مقوسة الظهر تدبّ على الأرض بخطوات واهنة بطيئة. يقولون إن والدتي ورثت منها لون عينيها الأخضر الزيتوني، لكننا حقيقة لم نر بوضوح لون عيني حبّابة أمونة، إذْ غالباً ما كانتا مزرورتين يسيل منهما دمعٌ تتلقاه بمِمَشّه "محرمة" لا تفارق يدها. 

تزور حبابة أمونة بيتنا مرة كلّ شهر أو كثر قليلاً ، تأتينا قادمةَ من بيت خالي الوحيد الباقي على الحياة في القرية المجاورة لقريتنا.

تقول أمي: وهي تعاين جهة الشمال عندما يلوح لها سوادٌ يعتلي الضهرة التي تختفي خلفها قرية خالي. (روحوا تَلَقُوا حبّابِتكم.. مسكينة ما تجْدِّي طريقها) 

اش عرفك إنها حبّابة أمونة ؟ نسأل

هي.. هيّ، قلبي يقول هي. تجيب بيقين.

طَلب أُمي هذا يُستجاب فوراً، لا يعقبه تأففٌ ولا حَرد. نتدافع للقائها ركضاً. أمّا هذه المرة، همست لأمي بعد ما تأكدت أنّ لا أحد غيري سمعها (أنا رايح يوْوم.. لا تقولي لِحدا!)

 نَجحت في التسلل ولم يلحق بي أحد. مع كل خطوةٍ ألتفت لأتأكّد، وبكل خطوةٍ أمني النفس بالحصول على قطعة سكرٍ إضافية، من ذلك السكِّر الذي له شكل دوائر أو أصابع. سكّرنا المخطط بخطوطٍ متناوبةِ بين الأحمرِ والأبيض، سكرٌ هشٌ طيّب المذاق، يتحلّب الريق من رؤيته وأحياناً حتى من تصوره، من أجله نترقب الباعة الجوّالين ونفرح لمجيئهم، ومن أجله أيضاً نسرق البيض ونجز الصوف من ظهر الأغنام المصابة بالجرب؛ لنبادله بقطع السُّكر هذه.كنّا نرى فيه، شخصياً لا أزال، أنه حلوى الجنّة الذي وعد بها الله عبادهِ الصالحين .

في منتصف الطريق وعلى كتفِ الوادي قبل أن نلقاها، يغرينا التراب الناعم الدافئ للِّعبِ به وذلك برفع أثوابنا إلى المنتصف، ونطبع بمؤخراتنا العارية أختاماً على شكل خُفِّ جمل. يومها أُعجبني الشبه الشديد بين الطبعة التي تركتها وخفّ البعير، وخطر ببالي استغفال حبّابتي مستغلاً عدم امتداد نظرها إلى أبعد من بضعة أمتار، قلت: شفتي البعير حبّاب، هذاك هو، مر من هنا..وحتى شوفي هذا أثر چِدمه!

 طبعت على خدي قبلاً رطبةً. جالت بعينيها الكليلتين الأفق حاجبة ضوء الشمس بيدها (لا والله يا وليدي..البعيّر تركته بالبيت! هذا أَثر طويـ..ك) تقصد "بالبعيِّر" كنية عائلة زوجها، جَدْ أمي. لم أفهم قصدها، ولما سألتها، أجابت أنه اسم جد أمك!

أبهرني الاكتشاف الذي أسمعه أول مرة أنّ جدّ أمي اسمه بعيّر، ونويت نشر اكتشافي بين إخوتي! وعند لحظة وصولي للبيت مصطحباً حبابتي سألت أمي: يووم صحيح جدك اسمه بعيير؟ 

لم تعجبها النبرة الساخرة. وقالت اسمه بعيّر، مو بعيير.

اسم جدّ أمي شكل مادة لمناكدتها أحياناً، وللمزاح مع حبابتي. خاصة عندما يلف الحزن الحبابة متذكرة من رحلوا، شاكيةً العجز، طالبةً من الله أن يعجّل بأخذ أمانته. نسألها: إن كان البعير هو من جاء يخطبها لابنه؟ وهل خطر ببالها أول وهلة بما أن الأب بعيراً سيكون العريس كّعُوداً ؟ ونضيف تصوري حبّاب لو أنك متزوجة كعوداً! تنهي فصل المزاح هذا بإخفاء ابتسامة خفيفة بالمحرمة التي لا تفارق يدها وتقول: اتركوا الميتين بقبورهم. 

تلك المرة لم أسال حبابتي أمونة كم يوماً ستبيت عندنا، ولا عن الخرّافات التي ستحكيها لنا، فقد تعلق كياني كله بلحظة حصولي على مكافأة استقبالها، منتظراً أن تمدّ يدها إلى جيب قِطْشِ الجوخ الواسع الذي ترتديه طيلة أيام السنة كي يدفئ عظامها كما تقول، وتخرج السُكّرة.. مرّ دهرٌ قبل أن تمد يدها إلى جيبها، ومرّ دهرٌ آخر وهي تعالج إبرة المِرقز التي تغلق الجيب، ودهر ثالث لتخرج الصَّرة من عمق الجيب. صَرّة حبابتي رافقتها طول حياتها التي نتذكرها، قد تتغير بعض محتوياتها، لكنها دائماً موجودة في الجيب، ودائما تحتوي على خيوط متشابكة، ومكحلة صغيرة تكوي بكحلها عينيها الدامعتين أبداً، ومسبحة طويلة تنتهي بشرشبةٍ خضراء. داخل الصرّة هناك صرَّة صغيرة أخرى فها مونتها من علك البُطُم. عندما لاح لي اللون السحري الأحمر والأبيض لقطع السُّكر من بين مخزون صرتها سال لعابي، وبحصولي على قطعة منها دسستها فوراً في فمي. وفوراً أيضاً تندمت على لهوجتي. أخرجتها. سكرتي الآن بقبضة يدي الملوثة بالتراب، أشد عليها بقوة خوفاً أن تفلت من يدي. أتخيل أني أقرطها حتى النهاية، وأجفل. يا لطيف كيف لسكرتي أن تنهي بهذه السرعة؟ لا، لن أقرط سُكّرتي، سأمصّها. أعاود مصّها وإخراجها والعَصَّ عليها بباطن كفي، مرة وثانية وثالثة. حتى ذابت في فمي.كاد قلبي ينفجر حزناً وأسفاً، وكتعويضٍ لا يعوِّض ألحس ما عَلق بباطن كفي من أثر حلاوة السُكّرة ومن التراب.

لحبابة أمونة رائحة الخضيرة والحنّة. من لحظة وصولها تضعها أمي في طِشت الغسيل، وهي كطفلة صغيرة تقعي مستسلمة ممسكةً بأطراف طَّشتِ الغسيل عندما بقشط جلدها كيس الحمام شاكية من الصابون الذي دخل عينيها. بعد تنشيفها تضع أمي رأس حبابتي في حضنها، تمشط شعرها بالمشط الخشبي الخشن ثم بمشط عظم ناعم لإزالة الصئبان، كل ذلك يتم وهن يتبادلن الحديث عن الحال والأولاد والعمر الذي يجري بسرعة، ويتحليْن بالنميمة عن زوجة خالي. بعد الحمام تلبسها أمي ثوب كودري كحلي اللون بورودٍ صفراء ناعمة، ثم تدوف الحنة وتحني شعرها وشعر حبابتي. تجمّلان بالحنة أظافر أصابع اليدين والقدمين وباطن الكف وكعبي القدمين لإخفاء التشققات. وتفيض رائحة الحنة مالئةً البيت، هذا الطقس يتكرر بشكل دائم كلما جاءتنا حبابة أمونة. 

 بعد الحمام والحنّة تغفو حبابة أمونة على بساط ملفوفة الرأس بخرقٍ كي تَمْتصَّ ماء الحنة الزائد، وتتحول أمي النشيطة كنحلةٍ إلى أميرة مرفوعة الرأس متصلبة العنق، تمس مساً خفيفاً قطرات ماء الحنة المنزلقةِ خلف أذني الحبابة وعلى رقبتها بخرقة بيدها لتنشفها. تتجول أمّي في مملكتها بهدوء، تنظر إلى موجودات مملكتها من أعلى محاذرة الاحتكاك بها، مكرمةً نفسها استراحة قصيرة حتى تجف الحنة. كنت أحب لحظة أمي هذه .

إغفاءات حبابة أمونة القصيرة تتكرر عدة مرّات في النهار. تغفو في المشراقة أو بجانب الصوبة شتاءً، وفي ظل الدور ضحىً وعند العصر في الصيف. وقبل غفوتها تحرص على إبقاء داسومتها ومسبحتها بمأمنٍ. داسومة حبابتي مصنوعة بالكامل من الجلد المدبوغ والمصبوغ بلون فضي معتم ونعل مسطح بدون كعب. فهي تخشى عليها من كلب البيت الذي يحرسها ويهرُّ بكسلٍ، كلما اقترب منها أحد. حارسها الأمين هذا تجذبه أحياناً رائحة الجلد فيسحب الداسومة ويلوكها. أمّا مسبحتها ذات الـتسع وتسعين حبة، والمصنوعة من خشب الزيتون المطهم برائحة الخضيرة فيحلو لنا اللعب بها، وشم رائحتها. ونستخدمها أحياناً كلوح حساب بإنقاص عدد معين من حباتها لنحزِر الباقي، هذه المسبحة هي الشيء الوحيد الذي ورثته أمي من أمها، حافظت عليها بحرصٍ شديدٍ لفترة طويلة حتى بعد أن فُقدت بعض حباتها، وكلما تلف خيطها أعادت لضمها بخيطٍ جديد. تقول هذه من رائحة أمي ستبقى معي مادمت على ظاهرة الدنيا. 

أحياناً يترافق صحو حبابة أمونة من إغفاءاتها المتكررة على صوت الراديو، راديو سانيو بجلد لامعٍ برتقالي اللون، كان مفخرة العائلة؛ فقد حظيّ عند شرائه بمباركاتٍ أكثر مما يحظى به مولودِ جديد، وعندما يسأل أحد عنه أو يبدي إعجابه، يعتدل أبي في جلسته وهو يحتضنه معدداً مزاياه. يقول: أهم ما في هذا الراديو أن بطارياته ببطنه، وبه موجتان، وله صوت صافي بدون تشويش بسبب هذا الأنتيل، ويمد يده ويعدل الأنتيل المطوي على السطح الأعلى للراديو ويسحبه على طوله. كنّا ندلل راديونا حقّاً. أمي نسجت له كيساً من الصوف الملون الجميل بشراشبٍ تتدلى أسفله، وحاملٍ كي يعلّق على الحائط حتى لا تطاله أيدينا. ولم يكن مسموحاً لأحد منا باستخدامه علناً إلا أبي وأخي الأكبر، لكن كانت هناك دائما فرصة لاستخدامه بغيابهما. 

تصحو الحبابة من إغفاءتها على صوت الراديو. تسأل إن كان هذا المغني، أي مغني، فيما إذا كان هذا فريييد الذي يغنّي؟ تقصد فريد الأطرش! أظن أنها لم تحفظ اسماً لمطرب غيره.

 لا حبّاب مو فريد.. 

أريد أسمع فريييد. حِطْلي الراديو على فريد ! 

الحضور الكبير لحبابة أمونة في ذاكرتنا هو في الحكايات والخرّافات التي كانت تحكيها لنا في ليالي الشتاء الطويلة. كنا وما إنْ ينصرف أبي إلى الأوضة، حتى نبدأ بتملقها كي تحكي لنا. فتتحجج بالتعب وبذاكرتها التي لم تعد تعي شيئاً، بينما نشرع نحن بتنشيط ذاكرتها بتعداد أسماء الحكايات و الخرّوفات التي نحب سماعها.

نقول خورفينا على بورزان أبو الحيل، تقول نسيتها. 

جمل غيدا، تقول: طويلة وما تخلص للصبح. 

 بوينيص أو تاووز : هذنّ يخوِّفن والدينا ليل.

 الشاطر حسن، محمد ابن أمي وأبوي، سعلوة حبابة غبنة العطية... هي تتحجج، ونحن نلح. أحياناً كان ينتابنا شيء من الخوف والحزن أن تكون حبابتي فعلاً نسيت خروفاتها؛ فمن يصدق أو يتصور الحبابة -أي حبابة- دون حكايات وخرافات! 

 هذه المناورة والمساومة تتكرر دائماً لتنتهي بفصل التشويق الذي نرتاح له كإعلان لبدء الحكايا. تقول: "أخورفلكم خويريفه، وإذيناتكم مقيريفه إچا الواوي وأكلها؛ قلت : ليش يا واواي؟ قال أنا واوي والعصا تضربني؛ قلت ليش يا عصا؟ قالت: أنا عصا والنار تاكلني؛ قلت ليش يا نار؟ قالت آني نار والسيل يطفيني؛ قلت: ليش يا سيل…" نشكو لأمي المشغولة بإعداد القاورقة "البوشار" على بابور الكاز، أو رثو جورب لتتوسط لنا لتنهي حبابتنا هذا المونولوج، الذي كنا نتصور أنها تستطيع أن تستمر إلى الصبح، في سماع أشياء تشكو لها، تبتسم أمي وتبقى محايدة ومشغولة بما بين يديها.. أخيراً عندا تقول حبابة أمونة : هناك وانتم سالمين. نرد بصوت متحفز مع حوحزة في المكان للالتصاق بها، وأنتِ سالمة حبّاب.

(كان في كل حكايا وخرّافات حبابة أمونة، سمعناها مرّات ومرّات، وفي كل مرّة كأننا نسمعها لأول مرّة، لكن الحكاية التي تعنونها حبابة أمونة بحكاية "الوِلِيدة محمد" وتقول عنها أنها حكاية حقيقية، ومحمد هذا لا يزال يعيش على ظاهرة الدنيا في مكان لا تعرفه حتى جن الأرض، طفش من ثأر قبيلة الجن لقتله ابن ملكهم، وتعهدهم بمحو دابر ذريته. تلك الحكاية لا تزال حية في وجداني. 

تقول حكاية "الوليدة محمد" وهي حكاية بقلب حكاية، بدأت عندما اشترط والد البنت التي أحبها "محمد" وأحبته ليرضى تزويجه منها أنْ يذهب إلى خربة "الگُعود" المسكونة بقبيلة من الجن والسعالي ليلاً، ويغرس في أعلاها خنجره. قال له سأنتظر رجوعك هنا، في مجلسي هذا، حتى شروق الشمس، إن رجعت؛ قالها هامساً. تعتبر ابنتي زوجةً لك على سنة الله ورسوله، والحاضرين شهود. شرطي هذا، هو سياگ "مهر" ابنتي. 

يقال أنه لم يجرؤ أحد قبل "الوليدة محمد" بالاقتراب من الخربة، ومن تجرأ على ذلك اختفى ولم يظهر له أثر أبداً، وأنّ الخربة مسكونة بقبيلة كبيرة من الجن، محاطةً بالأشواك والعاقول والبِّلان، تتحول إلى أُبرٍ ومُخطٍ وأخلّه متى اقترب انسيٌّ منها، ويتحول ترابها إلى جير يغلي ويفور تصعد منه أبخرة ودخان يعمي العيون. هناك تصفر الريح، ويسود همس وبربرة وأنين بألسنة غير مفهومة تجعل من أشجع الشجعان يفقد عقله. هذا ما كان يعرفه الوليدة محمد ويعرفه كل من عاش في الديرة. 

عندما وصل محمد إلى أطراف الخربة ألقى السلام قائلاً "السلام عليكم يا أهل الأرض" بناءً على نصيحة همس له بها أحد الحاضرين، وأضاف الهامس له نصيحة أخرى، سترى أمك وأبوك وأقاربك وجيرانك يطلبون العون، إياك أن تحوِّل عن فرسك أو تنظر بعين أحد منهم، في هذا سلامتك! 

أتاه الصوت رداً على السلام (لو كلامك سبق سلامك لكنت أكلتك وكرگَطت عظامك). خطى محمد خطوة الأولى في الخربة فلقي والده يطلب منه شربة مي كي يسترد روحه التي تفارقه؛ فلم يلتفت إليه. الخطوة الثانية استقبلته أمه فاتحةً ذراعيها لتحضنه، وهي تقول له هلا بوليدي ابن بطني، اللي رضع حليب صدري؛ فعبر من خلالها. في الخطوة الثالثة ظهرت له حبيبته وهي تغمز له أن يتبعها إلى خلوةٍ، تجاوزها ولم يلتفت إليها. في الخطوة الرابعة استنجدت به أُخته من حيفٍ يلحق بها... في الخطوة الخامسة والسادسة والعاشرة والعشرين والثلاثين، كان يظهر له عم وخال وجد وأخ وصديق، كل منهم يطلب شيئاً، وعند الخطوة الأربعين، وهو يغرز خنجره في الأرض، شعر بثقل قفز على كتفه وخنقه، ومن حلاوة الروح التي شعر أنها لا بد مفارقته، تشهدّ بالشهادتين، عندها ظهر له ما كان يخنقه "رجلي تيسٍ أسود". استجمع شجاعته واستل سيفه وبضربة واحدة قطع رجل التيس، ولما خف الضغط استدار وضرب العنق وقطعه وحمل الرأس وعلقة بركاب فرسه؛ فسمع فور تعليقه الرأس صوتاً ينادي: منصوور يا منصووور، فرد الرأس المقطوع (منصور مصرور على رِكاب الفرس، منصور معلّگ على حارچ الفرس) عند هذا الرد من الرأس المقطوع وهو ذروة الحكاية، تبسمل أمي وتحوقل، تضرب بباطن كفها كتفها الأيمن ثم الأيسر، تمسح بيد صدرها فوق القلب وبيدها الأخرى تمسّد رأس أقربنا إليها وهي تردد "بسم الرحمن الرحيم، اللهم اجعل ذكرهم خفيفٌ علينا".وهنا أيضاً يبلغ خوفي مداه. أحب خوفي هذا من الحكاية وأعشقه. خوفي يتيح لي أن أدفن نفسي بحضن أمي أو حبابتي.

يعود الوليدة محمد حاملاً الرأس المقطوع، ويرميه وسط الحاضرين، تدور عينا الرأس بمحجريهما على الحاضرين طالبة حسوة ماء، مقابل كنز مخبوء فيه مال أكثر من مال قاروون، لكن لم يجرؤ أحد إعطاءه الماء، عندها يخرج فحيح من الرأس قبل انطفاء العينين موجهاً كلامه للجميع سنقطع دابر ذريتكم إن بقي هذا بينكم، طارفاً بعينيه اتجاه محمد. يتشاور القوم ويطلبوا من محمد أن يأخذ عروسه ويرحل من الديرة. وإلى الآن لا يعرف أحداً أين ذهب.

نسأل حبابة أمونة إذا شاهدت مرة سعلوة، وكيف هو شكلها؟ تصمت وكأنها تحاول تذكر شيء وبصوت واهن تقول "اليوم ما عاد في جن ولا سعالو، الناس هي صارت جن، الجن والسعالي اختفت من يوم فَلحت الناس الگاع ، والگاع اللي تُفلح بسكة حديد لا تسكنها السعالو. الحديد والسعالو ما يجتمعو، وهذه الإبرة – إبرة المرقز – تحميني، وما ضل حدا إلا ومعاه إبرة مسكِّر بها زيجو.. من يومها أصبح لدي اعتقاد أن من يحمينا من السعالي أُبر المرقز التي تشبكها لنا الأمهات بدل أزرار أثوابنا الضائعة.  

كنت في المرحلة الثانوية عندما توفيت حبابة أمونة، رحمها الله ،على بعد 80 كم .لم أحضر مأتمها، وأول ما خطر ببالي سؤال الندامة الذي لم نسأله لحبابة أمونة. كيف عرفت اسم فريد ولماذا أحبت أغانيه؟
 

الكوچر: أو الانتجاع، الذهاب لطلب الكلأ في موضع فسيح يكثر فيه العشب.
قطش: يشبه الجاكيت، للنساء والرجال، غالباً يكون من الجوخ 
الزيج: فتحة الثوب عن الصدر .