لا يمكن للانطباع الأولي تجاه فيلم «بنات ألفة» إلا أن يكون مندهشاً لشدة البؤس الذي آلت إليه شخصيات الفيلم، كأنّ أجدنا يحاول تكذيب ما شاهده تفادياً للصدمة المتشكلة تباعاً على طول الفيلم. وذلك قبل استيعابٍ لاحقٍ لما حصل، فالحديث هنا عن شخصيات واقعية لاتزال تعيش ما بدأه الفيلم من حياتها.
فيلم التونسية كوثر بن هنية، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي، جاء مختلفاً عمّا تعوّده أحدنا من السينما، تخطى الفيلم النوعين الروائي والوثائقي ليماهي بينهما بما يحول دون تمييز عناصر هذا من عناصر ذاك، ففي جوانبه الوثائقية عناصر روائية، وفي جوانبه الروائية عناصر وثائقية. وكان يمكن لصانعته أن تخرج بالفكرة إلى عالم الروائي كنوع سينمائي أرقى، لكن سطوة القصة وحضور شخوصها الأصليين وامتداداتها الواقعية، حتّم اللجوء الضروري إلى الوثائقي وإن ضمن العالم الروائي.
الفيلم يحكي عن ألفة، سيدة تونسية عاشت ذكورية المجتمع ووحشيته، وبناتها الأربع: الكبيرتان، سنعرف لاحقاً مصيرهما، وهو مسير الفيلم من أوله حتى آخره، والصغيرتان سترويان مع أمهما ذلك المسير. الفيلم نسائي بامتياز، من صانعته إلى شخوصه الواقعية إلى شخصياته السينمائية، وقارب ما يمكن أن يبدو تفصيلاً صغيراً في حياة عائلة تعرضت لتعنيف نفسي وجسدي من قبل الأب، ثم إلى اعتداء جنسي من قبل زوج الأم. لكن بعداً آخر حمله الفيلم إلى قصته المحلية كان شديد العالمية.
تتعرض الكبيرتان إلى حالات متناقضة في حياتهما، من أقصى الميول في أسلوب الحياة، إلى أقصاها الآخر وكان الانتماء إلى "داعش"، ما أمكن للقصة أن تكتفي بحكاية عادية ومكرّرة، خاصة مع انحيازات المهرجانات والمموّلين الغربيّين إلى مواضيع تجمع من ناحيةٍ اضطهاد النساء في بلدان الجنوب والشرق، ومن ناحيةٍ أخرى وحشيةَ داعش فكراً وممارسة، وهو ما يتسبب بمهازل سينمائية، عربية تحديداً. «بنات ألفة» جمع بين الناحيتين في قصة واقعية أحسنت المخرجة نقلها فنياً، بمعزل عن أي اعتبارات خارجه.
في الفيلم، ألفة الواقعية وإلى جانبها ألفة الشخصية (هند صبري)، وممثلتان أدّتا دور الابنتين الغائبتين، وابتا ألفة الصغيرتين أدّتا دورهما بنفسهما. المقاربة الإخراجية الجريئة هذه كانت روائية تماماً وكانت كذلك وثائقية تماماً، أداء بسيناريو له كان واضحاً، التمثيل في بعض المشاهد كان أقرب لانفعالات حقيقية، أما الواقع فكان أقرب ليكون محكياً شفاهة مع مساحة لخيال المُشاهد في تصويره، وهو ما نقل الوثيقة إلى عالم الخيال، هذا اللعب الفني كان محكماً في بعض مفاصله، وكان رخواً في مفاصل أخرى، تحديداً لأن السرد كان بمشاهد منقطة كأن القصة تروى قفزات قفزات، وهو، وإن كان أسلوباً روائياً بغايةٍ فنّية، لا يلائم الوثائقي الملمّ بموضوعه والمعني، بالضرورة، باستيضاح قصته وانعطافاتها فلا تكون حلقة مفقودة، فالغاية فيه ربط المعلومة بالتالية لها، لمنح صورة أكبر لحقيقة مبنية تماماً على الوقائع. هذا ما افتقده الفيلم الذي قدّم مادة وثائقية في شكلٍ كان روائياً أساساً (الفيلم يبقى في تصنيفه روائياً)، فما عرفنا عن البنات الأربع، وفي أكثر من عشر سنوات من عمرهن، سوى ما سيودي أخيراً إلى الربع الأخير من الفيلم، ذلك المنغمس في وثائقيته، المبني على مشاهد أرشيفية، نجد فيها الابنتين الهاربتين معتقلتين في ليبيا، وقد كانت إحداهما زوجة زعيم "داعش" هناك، ذاك الذي أعلن متحدث باسم البيت الأبيض قصف مقرّه في مصراتة.
هذا التداخل في الموضوع أخرجته بن هنية بلقطات مقربة في معظمها على الوجه. الانفعالات العاطفية على أنواعها، ملأت الشاشة، التطرفات في هذه العواطف كانت في معظمها حقيقية، والتصوير للمكان كان كذلك مقرّباً مانحاً شعوراً بالضيق لم تسببه فقط حالة الظلم والاضطهاد التي عاشتها ألفة وبناتها، لم نشاهد صوراً خارجية أو موسّعة سوى لاحقاً حين تحولت القصة المحلية العائلية الممكن حدوثها في أي حي مجاور، إلى مسألة رأي عام وطني ودولي. وقتها انتقلنا من مشاهد في الغرف الضيقة إلى لقطات جوية لعمليات عسكرية. هذا الانتقال ما بين المحلي وهو الأكثر روائية، وذلك المبثوث في نشرات الأخبار الدولية وهو الأكثر وثائقية، كان انعطافة قوية في الفيلم الذي طغى جانبه الفني، أولاً.
أحسن الفيلم تصوير موضوع إشكالي تحوّل مع السنوات الأخيرة إلى مادة استهلاكية يتلهف عليها الغرب. لكنها، المادة، تعود إلى أصليّتها متى نُقلت بإخلاص روائي ووثائقي.