حين يشاهد أحدنا فيلماً، منبهراً بكل لقطة فيه، وتخرج منه كلمة واحدة هي "تحفة"، لا تهم كثيراً التبريرات لهذا الحكم، ستشكّل نفسها بنفسها. في الأعمال الفنية العالية، التحف كما هو حال «أيام مثالية» للألماني فيم فيندرز، يكون على أحدنا البحث عن مبررات تلائم الحكم التلقائي. التحف لا تخطئها العين.
الفيلم المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي (Perfect Days)، يحكي عن اليوم النموذجي والتّام، لمنظّف حمامات عمومية في طوكيو، وحيد وقارئ لفوكنر، ومصوّر لظلال أوراق الشجر والسماء، بين حمّام ينظّفه وآخر. ينقل الفيلم يومياته كما هي، بتكراراتها، بدقّتها، بجمالياتها صوتاً وصورة، وما يتخللها من أحداث ثانوية، فلا أحداث رئيسية في الفيلم، فقط حالة شاعرية تمسّ الرّائي من المشهد الأول حتى الأخير.
ثلاثة أفلام تكفي للتصريح بأن فيم فيندرز شاعر سينمائي، ومن الطراز الرفيع، وإن وجدنا في غيرها، روائية ووثائقية، بعضاً من شعريته: «باريس تكساس» الذي نال عنه السعفة الذهبية للمهرجان عام ١٩٨٤، و«أجنحة الرغبة» الذي نال "أفضل إخراج" في المهرجان ذاته عام ١٩٨٧، وكلاهما أكبر من كافة جوائزه. ذكرُ الفيلمين لا يحيّد غيرهما صنعت اسماً سينمائياً كبيراً لفيندرز، ليكون أحد أجمل المخرجين الأحياء، وأتى أخيراً فيلمه «أيام مثالية»، لاستكمال شاعريته في الفيلمين المذكورين. هنا، به وبثلاثتهم، نقول إنه يصنع شعراً بالسينما، أو يصنع السينما بالشعر.
الفيلم آسر من لقطاته الأولى، الاستخدام الحميمي للألوان والإضاءات (كما في «باريس تكساس») واليوميات منذ الاستيقاظ حتى النوم، في العمل والبيت والشوارع، الاعتناء بالتفاصيل تعدى الشخصية إلى المُخرج. بقدر ما اعتنى فيندرز بتصوير تفاصيل اليوميات، اعتنت الشخصية بتفاصيل يومياتها، ترتيباً وتنظيفاً. ما الذي يتوقّعه أحدنا حين يأتي شاعر يوميات، ليصوّر شخصية لا يخطئ التقدير بأنها تعيش "اضطراباً وسواسياً قهرياً" (OCD) تعمل بتنظيف الحمامات العامة؟ أي اعتناء بالتفاصيل وأي جماليات يمكن أن يخرجها الشاعر في مَشاهده؟
أعاد الفيلم الاعتبار إلى السينما بصفتها فنّ صورة بالأساس، والحوارات المتقشّفة تأتي لاحقاً، مترفّعاً عن الثرثرة السينمائية، للفيلم بذلك صفة القصيدة المقتصدة بالكلمات. والفيلم بذلك استعاد واحداً من أجمل الشعراء السينمائيين، الياباني ياسوجيرو أوزو الذي نقل يوميات شديدة البساطة لأناس عاديين في أفلامه، تماماً كما يمكن أن تكون أشياء الناس العاديين، العادية، موضوع قصيدة نثر عظيمة.
هنا تحديداً يتموقع «أيام مثالية»، الفيلم التحفة، نال سعفة في المهرجان أم لم ينَل. الفيلم بمشاهدته الأولى يستحيل كلاسيكياً.
بمشاهدته، لا يمكن لأحدنا ألا يتذكر رائعة البلجيكية شانتال أكرمان (Jeanne Dielman) الذي اختير ليكون أفضل الأفلام في التاريخ، وفيه تصوّرُ يوميات ربّة بيت في تكرار جمالي هو صفة أساسية لقصيدة النثر، فيبدأ الفيلم حيث ينتهي، محيلاً إلى ذاته، في استعادة دائرية تبدو أبدية لتفاصيل كانت مَهمّة الشعر استخراج الجمالي منها لتكون الإحالة إليها، مجدداً، استعادة لانهائية للجمال.
يشاهد أحدنا فيلم فيندرز الأخير ويشهد، بذلك، ولادة تحفة سينمائية لا تخطئها لا العين ولا القلب، تماماً كالقصيدة.