"من النهر إلى البحر": في اللاوعي السياسي للصهيونية (ترجمة)

2023-11-28 16:00:00

MAJDI MOHAMMED/AP PHOTO

تنطوي عبارة "من النهر إلى البحر" على خطابٍ "تهديديٍّ" و"ترهيبيّ"؛ إنَّها دعوةٌ إلى "عنفٍ إباديّ". ربَّما تكشف مثل هذه التفسيرات أنَّ أولئك الذين يتبنَّونها غير قادرين على الإصغاء- أو الاعتراف.

المقالة لناديا أبو الحاج، نشرها موقع منشورات فرسو في 17 نوفمبر 2023. وهي جزءٌ من سلسلة مستمرَّة تحت عنوان "من النهر إلى البحر".
 

"من النهر إلى البحر، ستتحرَّر فلسطين". في الفترة الأخيرة، بُذلَت جهودٌ جبَّارة سعياً إلى إدانة هذه الكلمات. وبينما يجري تدمير غزَّة على نحوٍ لا يمكن وصفه إلَّا بالقصف البساطيّ؛ تزامناً مع نفاذ كلٍّ من الأدوية والغذاء والماء والوقود؛ ومع انتشار الجوع والعطش والأمراض المعدية؛ ومع قصف المستشفيات واجتياحها وتدميرها، على نحوٍ يضع نظام الرعاية الصحِّيَّة بأكمله على شفا الانهيار التامّ؛ ومع مقتل ما يزيد عن 11 ألف فلسطينيّ، وإصابة أكثر من 27 ألفاً، نصفهم تقريباً من الأطفال، فإنَّ كلَّاً من وسائل الإعلام الأكثر انتشاراً، والطواقم الإداريَّة في الجامعات، والسياسيِّين، وبعض المنظَّمات اليهوديَّة القوميَّة، تصبُّ كامل تركيزها على التهديد المزعوم الذي تتضمَّنه تلك الكلمات التي تُردَّد خلال المظاهرات السلميَّة في جميع أنحاء البلاد، والعالم. في الأسبوع الفائت فقط، علَّقت جامعة كولومبيا نشاط منظَّمتين طلَّابيَّتين. جيرالد روزبرغ، وهو مستشارٌ رئيسيّ لرئيس الجامعة ويشغل إدارة "اللجنة الخاصَّة لأمان الحرم الجامعيّ" المؤسَّسة حديثاً، برَّر تعليق نشاط كلٍّ من "طلَّاب من أجل العدالة في فلسطين" و"الصوت اليهوديّ من أجل السلام" على أساس أنَّها نظَّمت فعاليَّات "غير مرخَّصة". لكن ليس ذلك كلُّ ما في الأمر: إذ أضاف أنَّ المظاهرات التي حدثت على درج مكتبة كلِّيَّة القانون "قد تضمَّنت خطاباً تهديديَّاً وترهيبيَّاً". وماذا كان يقصد بهذا؟ "من النهر إلى البحر، ستتحرَّر فلسطين"، قال روزبرغ للطلَّاب، "هو دعوةٌ إلى إبادةٍ جماعيَّة".

دعونا نفترض، لبرهةٍ فقط، أنَّ روزبرغ على حقّ- أي أنَّه ينبغي تفسير عبارة "من النهر إلى البحر" باعتبارها تحريضاً على إبادةٍ جماعيَّة- فإنَّنا نسأل هُنا، ألا يختلف ذلك التفسير تبعاً لاختلاف قائلها؟ لم تأت أيُّ من منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة أو حماس على ذكر هذه الكلمات ضمن وثائقها التأسيسيَّة، حتَّى لو أنَّ قياديَّاً سابقاً في حماس قد نطقها في سنة 2012 أثناء احتفال المنظَّمة بالذكرى الخامسة والعشرين لتأسيسها. مع ذلك، فإنَّ هذه العبارة تظهر في الوثيقة التأسيسيَّة لحزب الليكود في عام 1977 إذ ورد فيها ما يلي: "حقُّ السكَّان اليهود في أرض إسرائيل أبديٌّ وغير قابلٍ للمساومة، ومرتبطٌ بالحقِّ في الأمن والسلام؛ ولهذا السبب، فلن تتسَّلم مقاليد الأمور في يهودا والسامرة أيُّ إدارةٍ أجنبيَّة؛ وما بين البحر والأردن لن تكون هناك سيادةٌ إلَّا السيادة الإسرائيليَّة". فضلاً عمَّا سبق، وفي شهر ديسمبر من عام 2022، عندما شكَّل بنيامين نتنياهو أكثر تحالفاته اليمينيَّة تطرُّفاً إلى اليوم، جاءَت افتتاحيَّة "المبادئ التوجيهيَّة" للحكومة الجديدة كما الآتي: "يملك الشعب اليهوديّ حقَّاً حصريَّاً وغير قابلٍ للتصرُّف على جميع أنحاء أراض إسرائيل ((أرض الميعاد)). وستُشجِّع الحكومة على بناء المستوطنات وتعزيزها على جميع أنحاء أرض إسرائيل- في كلٍّ من الجليل، والنقب، والجولان، ويهودا والسامرة".

من نهر الأردن إلى البحر المتوسِّط: هذا امتداد الكيان الجيوسياسيّ الذي تحكمه الدولة الإسرائيليَّة منذ عام 1967. هذا امتداد الكيان الجيوسياسيّ الذي يؤكِّدُ كلٌّ من حزب الليكود والتحالف الحاكم الحاليّ على حقوقهم السياديَّة "الحصريَّة" و"غير القابلة للتصّرف" عليه. يتضمَّن الخطاب السياسيّ الإسرائيلي أيضاً عبارات وتسميات أخرى تؤكِّدُ الملكيَّة والحكم السياديّ الحصريَّين على هذه المنطقة، مرَّة تلو أخرى؛ إنَّها أرض الميعاد، "إيرص يسرائيل" باللغة العبريَّة؛ وهي تسميةٌ لا تنطوي على أيِّ تطلُّعاتٍ بصدد القدس الشرقيَّة، أو الضفَّة الغربيَّة، أو غزَّة. تسمياتٌ على غرار "يهودا والسامرة"، سواء بالإنكليزيَّة أو العبريَّة، إنَّما هي ادِّعاءات بمُلكيَّةٍ يهوديَّة- قوميَّة للضفَّة الغربيَّة: إذ من غير الممكن أن يكون مركز العالم التوراتيّ مُلكاً لأيِّ أحدٍ آخر. ولئلَّاً يبدو في الأمر أيُّ خلافٍ أو تعارض، فإنَّ هذا التأكيد على الحقِّ الحصريِّ في الملكيَّة السياديَّة والقرار القوميّ على الأرض من النهر إلى البحر قد صار مكرَّساً الآن ضمن أحدث "القوانين الأساسيَّة لإسرائيل"، والذي أقرَّه الكنيست في شهر يوليو من عام 2018. باعتبارها "الدولة القوميَّة للشعب اليهوديّ"، ينصُّ هذا القانون على أنَّ "أرض إسرائيل ((أرض الميعاد)) هي الوطن التاريخيّ للشعب اليهودي"؛ وأنَّ "الحقّ في ممارسة تقرير المصير الوطنيّ" على تلك الأرض "حصريٌّ للشعب اليهوديّ".

تنطوي عبارة "من النهر إلى البحر" على خطابٍ "تهديديٍّ" و"ترهيبي"؛ إنَّها دعوةٌ إلى "عنفٍ إباديّ". ربَّما تكشف مثل هذه ّالتفسيرات أنَّ أولئك الذين يتبنَّونها غير قادرين على الإصغاء- أو الاعتراف. ربَّما تعكس تلك العبارة لاوعياً سياسيَّاً صهيونيَّاً، فتصبحُ مرعِبةً عند افتراض ظهورها لدى "الطرف الآخر". فبعد كلّ شيء، لطالما كانت كلمات "من النهر إلى البحر" تُمثِّل دعوةً للاستئصال والإزالة كلَّما نُطِقت لصالح الدولة الإسرائيليَّة. إنَّ التطهير العرقيَّ هو أساس الدولة الصهيونيَّة: فمن أجل ولادة الدولة اليهوديَّة في عام 1948، كان لا بدَّ من إنشاء أغلبيَّة يهوديَّة ضمن الأراضي التي ستخضع لسيطرتها. وهكذا هُجِّر 750 ألف فلسطينيّ. لم يُسمَح لهم بالعودة. وعندما وسَّعت إسرائيل سيادتها لتشمل كامل مساحة فلسطين التاريخيَّة- من النهر إلى البحر- حدثَت عمليَّة تهجير جماعيٍّ مرَّة أخرى: إذ أُجبر قرابة نصف مليون فلسطينيّ وسوريّ على مغادرة الأراضي التي استولت إسرائيل عليها إبَّان حرب 1967. لم يُسمَح لهم بالعودة. إذا أرادت دولة يهوديَّة، والتي هي في الوقت نفسه دولة ديموقراطيَّة كما يزعم مؤيِّدوها، أن تحافظ على وجودها في المستقبل، فقد يكون من الضروريّ (إعادة) إنشاء أغلبيَّة يهوديَّة من جديد. ولن يُسمَح للمهجَّرين بالعودة.

مع صعود اليمين المتطرِّف الإسرائيليّ إلى السلطة البرلمانيَّة، أصبحَ الجزء الذي كان في السابق صامتاً في الغالب منطوقاً بصوتٍ عال. ربَّما هناك حاجة إلى "الترحيل"، إلى نكبةٍ أخرى، من جديد. لقد أصبح مثل هذا الخطاب، على مدى سنواتٍ عديدةٍ فائتة، جزءاً من المعجم اليوميّ للسياسة الإسرائيليَّة. في برنامج حزب "العَظَمة اليهوديَّة"، (عوتسما يهوديت)، وهو واحد من الأحزاب الثلاثة الأقوى ضمن الائتلاف الذي تشكَّل في شهر ديسمبر من عام 2022، يرد ما يلي: دفاعاً عن الطابع اليهوديِّ الحصريّ للدولة، "ستكون الحرب على أعداء إسرائيل شاملةً ودونما تفاوضٍ أو تنازلٍ أو تسوية... إذ لم يفضِ كلُّ ذلك إلَّا إلى المزيد من الحروب، وإراقة الدماء، وإطلاق نيران الصواريخ والبنادق، والحزن. وإنَّ بسط السيادة على كافَّة أجزاء أرض الميعاد المُحرَّرة في حرب الأيَّام الستَّة، وتوطين أعداء إسرائيل في الدول العربيَّة المحيطة بأرضنا الصغيرة"، ستكون نهاية هذا الصراع. هناك تصاعدٌ في العنف الاستيطانيّ في الضفَّة الغربيَّة- بدعمٍ من جيش الدفاع الإسرائيليّ وتحريضه وحمايته، بهدف إرهاب الفلسطينيِّين ودفعهم إلى مغادرة قراهم ومنازلهم- وخاصَّةً خلال العام الفائت. ومنذ اليوم السابع من شهر أكتوبر، ازدادت وتيرة هذا العنف أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. فبحسب تغريدةٍ نشرتها صحيفة هآرتس عبر تويتر في اليوم الثالث من شهر نوفمبر 2023، فإنَّ جيش الدفاع الإسرائيليّ "يعتزم تجنيد المستوطنين الذين لم يتلقّوا تدريبات عسكريَّة وتعيينهم كميليشيات دفاعٍ إقليميَّة في مناطق إقامتهم". كما ذكر حمدان محمَّد الحريني، في تقريره لـ مجَّلة 972، أنَّ منذ بدء الحرب على غزَّة "تشنّ ميليشيات الجنود-المستوطنين حملات مداهمةٍ ضدَّ المجتمعات الريفيَّة في كافَّة أنحاء الضفَّة الغربيَّة، ومتوعِّدةً السكَّان بمزيدٍ من العنف ما لم يُغادروا منازلهم. وبينما يراقب العالم بأسره الهجوم الإسرائيليَّ على غزَّة، ينتهز المستوطنون الفرصة لتكثيف هجماتهم في محاولةٍ لتهجير المئات، وربَّما الآلاف، من الفلسطينيِّين قسراً وبصورةٍ ممنهجة". وعن هذا "التصعيد الخطير"، يقول الحريني: "إنَّ التمييز ما بين الجنود والمستوطنين مسألة تزداد صعوبةً أكثر فأكثر".

على امتداد الشهر الفائت، عادَت إلى صدارة المشهدِ فكرةُ "الترحيل" واسع النطاق؛ أي المشروع الإلغائيّ الذي يلتزم بتهجير الفلسطينيِّين من فلسطين التاريخيَّة، مرَّة أخرى. واستناداً إلى وثيقة مُسرَّبة من هيئةٍ صغيرة وهامشيَّة إلى حدٍّ ما؛ ألا وهي وزارة الاستخبارات، فإنَّ هذه هي اللحظة المناسبة لترحيل جميع سكَّان غزَّة قسراً إلى سيناء. يجب على إسرائيل "إجلاء السكَّان المدنيِّين إلى سيناء" أثناء الحرب؛ وإنشاء "مدن من الخيام ولاحقاً مدن أكثر ديمومة في شمال سيناء". عليها أيضاً إنشاء "منطقة عازلة بعمق عدَّة كيلومترات... داخل مصر، و((منع)) عودة السكَّان للإقامة أو ممارسة الأنشطة بالقرب من الحدود مع إسرائيل". إذاً، تُحدِّد هذه الوثيقة مراحل التنفيذ: المرحلة الأولى: إخبار السكَّان بالإجلاء جنوباً، وهُنا تمثِّل الضربات الجوِّيَّة محور حملة جيش الدفاع الإسرائيليّ؛ والمرحلة الثانية: اجتياح برِّيّ، يُفضي إلى "احتلال القطاع بالكامل، من شماله إلى جنوبه"، و"تطهير المخابئ تحت الأرض". وفي الوقت نفسه، "يجب نقل المدنيِّين الفلسطينيِّين إلى مصر، مع عدم السماح لهم بالعودة". توضح الوثيقة أنَّه يجب تسويق هذه الخطَّة على مستوى العالم باعتبارها نابعةً من اعتباراتٍ إنسانيَّة؛ أنَّ نقل السكَّان المدنيِّين سيفضي إلى انخفاض عدد الضحايا في صفوفهم. وبعبارةٍ أخرى، دعونا لا نتحدَّث علانيةً عن الجزء الصامت من الخطاب؛ أي عن مسألة أنَّه لن يُسمَح لهم بالعودة.

ليستَ هذه الوثيقة ملزِمة، فهي صادرةٌ في نهاية المطاف عن وزارةٍ لا تملك ذلك القدر من القوَّة. ومع ذلك، هناك أدلَّةٌ وافرة تفيد أنَّ هذه الأفكار ليسَت بغريبةٍ أو هامشيَّة. فعلى سبيل المثال، كانت هناك مساع متكرِّرة من طرف أنتوني بلينكن للتفاوض على خروج الغزِّيّين نحو سيناء. أو، كما ورد في تقرير لصحيفة نيويورك تايمز، في اليوم الخامس من شهر نوفمبر، بصدد أنَّ "إسرائيل سعَت في صمتٍ خلال الأسابيع الأخيرة إلى بناء دعمٍ دوليٍّ لفكرة نقل مئات الآلاف من المدنيِّين في غزَّة إلى مصر طوال مدَّة حربها"، وهو اقتراح "رفضَتهُ معظمُ الجهات التي حاورتها إسرائيل- بما في ذلك الولايات المتَّحدة وبريطانيا- خشية أنَّ "يتحوَّل هذا التهجير الجماعيّ إلى حالةٍ دائمة". (هل توصَّل بلينكن إلى اكتشافٍ جديدٍ خلال الأسابيع الأربعة الفائتة؟). ولنزيد من الشعر بيتاً، ففي اليوم الرابع عشر من شهر نوفمبر، نشرَت وول ستريت جورنال مقالةً افتتاحيَّة لكلٍّ من داني دانون (عضو في حزب الليكود) ورام بن باراك (عضو في حزب هناك مستقبل، ونائب سابق لمدير الموساد ما بين 2009 و2011)، يدعوان فيها إلى ترحيلٍ "طوعيّ". وبعد مُقدِّمةٍ يُلقي الكاتبان خلالها اللوم مباشرةً وبالكامل على حماس في هذه الأزمة الإنسانيَّة، يكتبان: "مع استمرار الحرب... لا تُقدِّم قرارات الأمم المتَّحدة أيَّ شيءٍ ملموسٍ لمساعدة سكَّان غزَّة. ولا مناص من أن يستكشف المجتمع الدوليّ الحلول الممكنة لمساعدة المدنيِّين المتضرِّرين من هذه الأزمة". وعلى نحوٍ يُظهِر حرصها على صياغة حجَّتهما ضمن سياق منح سكَّان غزَّة "خياراً"، يقترح الكاتبان ما يبدو أنَّه حلٌّ إنسانيّ: "إحدى الأفكار هي أن توافق مجموعةٌ من الدول حول العالم على استقبال عددٍ محدودٍ من العائلات الغزِّيَّة التي أعربَت عن رغبتها بإعادة التوطين". بالتزامن مع ذلك، قال آفي ديختر (وزير الزراعة الحاليّ والرئيس السابق لجهاز الشاباك) في معرض حديثه لبرنامج "لقاء مع الصحافة" عبر القناة 12 الإسرائيليَّة: "في الواقع، نحنُ الآن بصدد تنفيذ نكبة غزَّة". "نكبة 2023"، قال موضحاً. وربَّما الأكثر أهمِّيَّة، بالإحالة إلى وثيقة الترحيل الصارة عن وزارة الاستخبارات، أنَّ المرحلتين الأولى والثانية من إستراتيجيَّتهم العسكريَّة تجريان على قدمٍ وساق.

ما بين البحر والأردن لن تكون هناك سيادةٌ إلَّا السيادة الإسرائيليَّة: ليسَ تلك الكلمات مجرَّد حبرٍ على ورقٍ في الوثيقة التأسيسيَّة لحزب الليكود. هذا هو الواقع على الأرض: تفرضُ الدولة الإسرائيليَّة سيادتها من النهر إلى البحر منذ أكثر من 56 عاماً. ومع استمرار هذا الواقع السياسيّ؛ أي أنَّ دولةً يهوديَّةً تمارس سلطتها السياديَّة على أكثر من سبعة ملايين فلسطينيّ (مواطنين داخل الخطِّ الأخضر، ورعايا في كلٍّ من الضفَّة الغربيَّة والقدس الشرقيَّة وغزَّة)، فإنَّ يصبح أصعب أكثر من أيِّ وقتٍ مضى إبقاء توازنٍ ما بين التناقضات المركزيَّة لهذه الأمَّة الاستيطانيَّة: بمقدور الدولة أن تكون يهوديَّةً أو ديموقراطيَّة، لكنَّها لا تستطيع أن تُحقِّق الشرطين كليهما في آن معاً. ومع عجزها عن التخلِّي عن التزامها بالشرط الأوَّل، تبرز الحاجة إلى تغيير التوازن الديموغرافيّ مرَّة أخرى لتتصدَّر المشهد. التصريح بهذه الحقيقة علانيةً مسألة يسيرة بالنسبة إلى اليمين المتطرِّف. لكن، بالنسبة إلى الإسرائيليِّين-اليهود الذين يعتبرون أنفسهم أكثر اعتدالاً، بل حتَّى ليبراليّين، فربَّما تكون الفرصة التي تُوفِّرها هذه الحرب هي المخرَج الوحيد: الترحيل تحت مسمَّى الشاغل الإنسانيّ. وبمجرَّد الخروج، كما يعلم كلُّ فلسطينيّ، فإنَّه لن يُسمَح لهم بالعودة بتاتاً.

من النهر إلى البحر، ستتحرَّر فلسطين: يهتف الناشطون الفلسطينيون، ومناصرو فلسطين، بهذه الكلمات في شوارع كلٍّ من نيويورك ولندن، وفي جامعة كولومبيا وغيرها، تعبيراً عن رؤيةٍ سياسيَّةٍ مُختلفةٍ جذريّاً؛ تعبيراً عن رفضهم لسياسات إسرائيل، الاستئصاليَّة في جوهرها؛ وتعبيراً عن رفضهم للعبة الإثنيَّة-القوميَّة صفريَّة المعادلة، والتي لطالما مثَّلت لبَّ الأيديولوجيا الصهيونيَّة والنظام الإسرائيليّ على مدى أكثر من قرن إلى اليوم. "من النهر إلى البحر": هذه العبارة مكرَّسةٌ لإعلان سياسةٍ لا بدَّ من فهمها على حقيقتها، حتَّى لو كانت قد تبدو طوباويَّةٍ في خضمِّ المذبحة المستمرَّة التي تتعرَّض غزَّة لها: إنَّها رؤية تسعى لتحقيق عالمٍ أفضل. "الديموقراطيَّة للجميع، من الأردن إلى البحر"، كما هو مذكور بوضوح في النصِّ العبريِّ، أعلى يمين الملصق أدناه. رُفِعت هذه الملصقات في التجمُّع الذي نظَّمته كلٌّ من "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" و"الصوت اليهوديّ من أجل السلام" الأسبوع الفائت، وذلك على درج مكتبة كلّيّة القانون في جامعة كولومبيا، وكانت الكلمات فيها واضحةً بما يكفي ليراها الجميع- بما في ذلك نائب الرئيس التنفيذيّ في جامعة كولومبيا، جيرالد روزبرغ. (ربَّما كان عليه أن يسأل شخصاً ما عن ترجمة ما هو مكتوب بالعبريَّة؟). لكنَّ القضيَّة الأبرز هي، بأيِّ منطقٍ يرى أصحاب السلطة- على مستوى الجامعة، أو على نحوٍ أكثر أهمّيَّة على مستوى سلطة الدولة- أنَّ قمع الدعوات المطالبة بالحقوق الديموقراطيَّة، من النهر إلى البحر، هو التصرُّف الصائب؟

 
* ناديا أبو الحاج؛ هي أستاذة آن ويتني أولين في أقسام الأنثروبولوجيا في كلّيّة بارنادر وجامعة كولومبيا، ومديرة مشاركة لمركز الدراسات الفلسطينيَّة في جامعة كولومبيا. كتب صادرة للمؤلِّفة:
Facts on the Ground: Archaeological Practice and Territorial Self-Fashionign in Israeli Society (University of Chicago, 2001), and Combat Trauma: Imaginaries of War and Citizenship in Post 9/11 America (Verso 2022)