سبق خروجي من غزة لهذه الحرب شهرًا واحدًا فقط، كنت قد تركت أهلي وبيتي بخير، سافرت إلى كندا برفقة أطفالي وزوجي لاستكمال دراسته، كنت أحمل هم غربتي، لكنني لم أتصور أبدًا أن تفاجئني الحياة بفقدان 5 أفراد من عائلتي، فصار عليه أن أستبدل حنين الذكريات بحسرة الفقد.
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة وأنا أتابع الأخبار بجسد محموم، فقدت سيطرتي على انفعالاتي أمام أطفالي، حتى أنني لم أستطع حمايتهم من مشاهد الجثث والدمار، تألمت كثيرًا من يدي التي لا تفلت الهاتف إلا لسويعات للنوم، حتى جاءني اتصال في صباح 7 نوفمبر "انقصف البيت وأخوك فيه.. الأرض ابتلعت البيت وأخوك ومرته وأولاده تحت".
لقد انتهت الحرب بالنسبة لي وتوقفتُ عن ملاحقة الأخبار؛ فأنت حين تخسر شيئًا تشعر وكأنك قدمت ما عليك، وكأن كل من في غزة عليه أن يقدم قربانًا لهذه الإبادة حتى تكتفي من دمنا.
سبق خروجي من غزة لهذه الحرب شهر واحد فقط، كنت قد تركت أهلي وبيتي بخير، سافرت إلى كندا برفقة أطفالي وزوجي لاستكمال دراسته، كنت أحمل هم غربتي، لكنني لم أتصور أبدًا أن تفاجئني الحياة بفقدان 5 أفراد من عائلتي، فصار عليه أن أستبدل حنين الذكريات بحسرة الفقد.
ظل أبي لثلاثة أيام متواصلة يحفر بأظفاره في الأنقاض بحثًا عن ابنه الشاب تامر وزوجته هند وأطفالهم "تالا، زينب، خليل"، وجميعهم تحت سن الثامنة، فلم يستخرج غير الركام والتراب، "والله يابا ناديت تامر... تامر انت هنا؟... وما رد علي!"، يعود لأمي بيدين فارغتين إلا من بياض الغبار، لأمي التي تنتظر أن تودع ابنها وأحفادها حتى تصدق بأنهم رحلوا فعلا، لتصدق أنه لن يعد مجددًا متفقدًا احتياجاتها ويزودها ببعض الطعام الذي يلائم معدتها المُتعبة.
لقد استغرقت أيام حتى أدركت أن الحرب لم تنته بعد وأن أبي وأمي واخوتي وأولادهم لا يزالون تحت النار، فقد أُجبروا على النزوح جنوبًا مشيًا على الأقدام، "طلعنا من غزة يابا بس ما دفنا أخوك!! ما قدرت أطلعه!"، يجيئني صوت أبي على الهاتف متهاويًا من شدة الحزن، أبي هذا الجبل الذي عمل مقاولاً في مدينة غزة لـ 40 عامًا، وشارك في مشاريع البناء وشق وتعبيد الطرق، لم يستطع تحريك معداته من أجل استخراج ابنه وأحفاده، لقد منعت إسرائيل فرق الإنقاذ من العمل وهددت بقصفها وقد فعلت، حتى أن الوقود نفذ ولم يعد انقاذ شقيقي ممكنًا.
كلما رأيت فرق الإنقاذ تباشر عملها في الجنوب شعرت بالحنق، غبطت كل من تم انتشالهم حتى ولو كانوا بلا روح، وشعرت بالغرابة أكثر؛ لماذا لم يخرج ملوحًا لنا بنجاته؟، لماذا قضى كل هذا الوقت هو وأطفاله وزوجته برفقة 20 شخصًا من عائلتها تحت الأنقاض ؟
نفس الشعور رواد شقيقتي شيماء حين كتبت على جروب العائلة "الواتس"، "والله حاسة انه تامر رح يطلع لحاله، تامر قوي"، كان شقيقي مفعم بالحيوية، قوي اليدين رشيق الجسد، نادرًا ما تجده في البيت، يخرج على دراجته النارية ليمارس عمله الذي أحبه وبرع فيه بفضل تجاربه؛ صيانة وتركيب الأجهزة الكهربائية، لا يعجز عن إصلاح أي عطل، حتى فردة حذائي الجديد التي انتزعت في أول أيام العيد، تناولها مني مبتسمًا واستطاع إصلاحها وانتشالي من الحرج.
أنا وتامر "على روس بعض" يكبرني بعامين ولم تكن مشاكلنا تتوقف حين كنا أطفالاً، كان كثير الغيرة من اهتمام أمي بدروسي مع أنه لا يقبل إحضار واجباته لمراجعتها، وكنت أغار من جسده النحيف وأسرق بناطيله الجينز، بينما نتلاقى على باب المدرسة بعد انتهاء الدوام ليضيف إلى مصروفي وأشتري به المسليات في طريق العودة إلى البيت.
وبعد أن تزوجنا أنا وشقيقاتي أصبح يزورنا باستمرار، فالاتصالات لا تتوقف "تامر الغسالة عطلانة.. تامر الخلاط، المكواة .."، ذات مرة أخبرني ممازحًا أنه ما أن يدخل البيت حتى تستقبله الأجهزة المعطلة من كل حدب وصوب، ضحكنا وقتها كثيرًا، وقد كان حضوره دائمًا فاكهة المكان، لا يدخل بطريقة عادية، "أنا جيت نورت البيت" هكذا يعلن عن قدومه، يغني ويشاكس أطفالي حتى يركضوا إلى أحضانه بعد أن كانوا يهربون منه.
يسألني أين العصير البارد والقهوة؟ وتبرد القهوة ويذوب الثلج بينما هو منهمك في إيصال الأسلاك وتصليح الأعطال، لم يسبق وأن قال عن فكرة بأنها مستحيلة، بل يتجه فورًا للتفكير، تعرف ذلك من صمته واتجاه بؤبؤ عينيه يسارًا؛ لقد بدأ بتخيل طريقة العمل.
"عنيد، صلب" هذا ما قاله عنه أساتذته، فلماذا لم تعاند هذه المرة أيها الوغد؟، أعلمُ بأن أطنان الركام والمتفجرات كانت ثقيلة على صدوركم، ومع ذلك كان عليك أن تحاول الصعود ومد يدك لأبي الذي حاول انقاذك.
ربما عرقل خروجه انشغاله بزوجته وأطفاله الثلاثة؛ أراد انقاذهم فهو لا يستطيع النجاة بدونهم، لقد أحب أطفاله كثيرًا وأغدق عليهم من الدلال حتى قال من حوله بأنه "يفسدهم"، لكنه ظل يرى أنه على صواب، يعمل كثيرًا ولا يدخر القليل من المال، كريمًا جدًا على أهل بيته، يفيق أطفاله فيجدوا الهدايا إلى جوار وسادتهم، الآن يبدوا لي أن رحيلهم الجماعي كان اختيارهم!
في عطلة الأسبوع دعانا جارنا الكندي للخروج معه إلى "شلالات كاكابيكا" في مقاطعة أونتاريو، ربما أردا أن يسدي معروفًا لأطفالنا الذين لا يخرجون من البيت بفعل البرد وانشغالنا بالحزن، فهو يتضامن مع قضيتنا ويتنظر مثلنا انتهاء الحرب.
كانت المرة الأولى التي أرى فيها شلالاً، كان كبيرًا وعظيمًا، تذكرت شقيقي فبكيت حسرة لأنه لن يتمكن من زيارة هذا المكان، لقد رحل مبكرًا قبل أن يستصدر جواز سفر حتى، لم يجرب أن يعد حقيبة سفر ولم يركب طيارة، هذا الشاب المفعم بالحياة رحل قبل أن يعش حياته ورحل أطفاله قبل أن يُتموا صفوفهم الابتدائية.
أخبرني إذًا وأنت الذي كان دائمًا لديك الحل؛ كيف أتعامل مع هذا الفقد؟؛ كيف أهرب من وجه طفلتك زينب الذي يتشابه مع وجه ابنتي؟، كيف أتدبر أعطال المنزل دون التفكير بالاتصال بك.
حسنًا أريد أن أخبرك بأنني أخيرًا عرفت ما هو الفقد؛ هو ذاك الشعور الذي يتخذ مهمة إفساد حياتك ويصبح أكثر شراسة عند اللحظات السعيدة.