هناك سجلٌ حافلٌ من اللقاءات التي تجمع ما بين حركات تحرُّر السود في الولايات المتَّحدة والحركات ضدَّ الاحتلال الإسرائيليّ لفلسطين على مدى تاريخ طويل جدَّاً. في كتابه "جغرافيَّات التحرُّر: في فهم المخيال السياسيّ الأفريقيّ-العربيّ"، يحاول أليكس لوبين رسم خارطة لأبرز ملامح هذا التاريخ.
أجرى المقابلة كلٌّ من غايا تيريزا جونسون وأليكس لوبين، نشرت في "lithub" في الأول من تشرين الأوَّل، 2017.
نُشَرت هذه المقابلة لأوَّل مرَّةٍ في كتاب "مستقبل الراديكاليَّة السوداء"، بإعداد كلٍّ من غايا تيريزا جونسون وأليكس لوبين. أنجيلا ديفيس هي أستاذة فخريَّة في برنامج تاريخ الوعي، وفي جامعة كاليفورنيا، سانتا كروز. صدر لها حديثاً كتاب "حرِّيَّة في نضالٍ مُستمرّ: فيرغسون، وفلسطين، وأسس الحراك".
من خلال عملك البحثيّ، سلَّطتِ الضوء على كلٍّ من إلغاء السجون، والنسويّة السوداء، والثقافة الشعبيَّة وموسيقى البلوز، والأمميَّة السوداء مع التركيز على فلسطين. وإذا ما أخذنا كلَّ ذلك بعين الاعتبار، فكيف يستقي هذا العمل الإلهام من التقليد الراديكاليِّ الأسود، بل وربَّما يساهم في تطويره؟
يتحدَّانا سيدرك روبنسن للتفكير في دور المنظّرين/ـات والناشطين/ـات الراديكاليِّين/ـات السود في صياغة السرديَّات التاريخيَّة الاجتماعيّة والثقافيّة التي تلهمنا لربط كلٍّ من أفكارنا وممارساتنا السياسيَّة بالنقد العميق للرأسماليَّة العرقيَّة. سرَّني أنَّه ظلَّ على قيد الحياة بما يكفي ليشهدَ كيف بدأت الأجيال الأصغر سنَّاً من الباحثين/ـات والناشطين/ـات تتبنَّى تصوُّرَه عن التقليد الراديكاليّ الأسود. في كتابه "الماركسيَّة السوداء"، يُطوِّر روبنسن سلسلة أنسابٍ مُهمَّة تتمحور حول أعمال كلٍّ من سي. إل. آر. جيمس، ودبليو. إي. بي. دو بويز، وريتشارد رايت. وإذا نظر المرء إلى مُجمَل أعماله، بما في ذلك "حركات السود في أميركا" و"أنثروبولوجيا الماركسيَّة"، وكما بيَّنت إتش. إل. تي. كوان، فإنَّه ليس بمقدورنا إلَّا أن نفهم مدى مركزَّية دور النساء في بلورة تقليدٍ راديكاليٍّ أسود. لقد كتبَت كوان أنَّه حينما سُئل روبنسن عن سبب تركيزه الهائل في أعماله على دور النساء والمقاومة، أجاب قائلاً: "لم لا؟ في الواقع، تتجلَّى كلُّ مُقاوَمة في النوع الاجتماعيّ، تتجلَّى بوصفها نوعاً اجتماعيَّاً. وفي حقيقة الأمر، إنَّ النوع الاجتماعيّ هو لغة اضطهادٍ ولغة مقاومةٍ في آنٍ معاً".
لقد تعلَّمتُ الكثير من سيدرك روبنسن فيما يتعلَّق باستعمالات التاريخ: تعلَّمتُ أساليبَ للتنظير للتاريخ -أو السماح له بالتنظير لنفسه- بالغة الأهمِّيَّة لفهمنا للحاضر ولقدرتنا على التصوُّر جماعيَّاً مستقبلاً أكثر ملاءمةً للعيش. ناقشَ سيدرك أنَّ اكتشافاته التاريخيَّة المذهلة إنَّما تنبثق عن موضعة الغايات السياسيَّة في سياق الحاضر. كما شعرتُ بعلاقةٍ وطيدة مع مقاربته منذ قرأت لأوَّل مرَّةٍ كتابه "الماركسيَّة السوداء". أوَّل مقالةٍ كتبتُها -حدثَ ذلك حينما كنت في السجن- سلَّطت من خلالها الضوء على كلٍّ من النساء السود والعبوديَّة، وكانت في واقع الأمر جهداً من أجل نقد الخطاب المدمِّر، والذي تزداد شعبيَّته رغم ذلك، للأمومة السوداء كما تراها كلٌّ من التقارير الحكوميَّة الرسميَّة والأفكار الذكوريَّة المعمَّمة (على غرار ضرورة القيادات الهرميَّة على أساس النوع الاجتماعيّ، المصمَّمة من أجل ضمان هيمنة الذكر الأسود)، والمتداولة داخل حركة السود في أواخر ستينيَّات القرن الفائت وأوائل سبعينيَّاته. وعلى الرغم من أنَّني لم أكن أفكِّر على هذا النحو بصدد أعمالي في ذلك الوقت، لكنَّني لم أتردَّد برهة اليوم في ربط ذلك العمل البحثيّ بالسعي لجعل التقليد الراديكاليّ الأسود، وبالتالي النسويّ، أكثر وضوحاً.
يضع تشكُّل الحقل المعرفيّ الجديد -دراسات السجن النقديَّة وإطار عملها الواضح بصدد إلغاء السجون- نفسَه ضمن التقليد الراديكاليّ الأسود؛ على صعيدٍ كلٍّ من إقراره بالعلاقة النَسَبيَّة بالحقبة من تاريخ الولايات المتَّحدة التي نُسمِّيها عصر "إعادة الإعمار الراديكاليَّة"، وبالطبع من خلال علاقته بأعمال كلٍّ من دبليو. إي. بي. دي بويز، والنسويَّة السوداء تاريخيَّاً. ومن خلال ربط أعمالهنّ البحثيَّة القيِّمة بنشاطهنّ المبدئيّ، تساعدُ أعمالُ كلٍّ من سارة هايلي، وكيلي ليتل هيرناندز، بالإضافة إلى جيلٍ جديد من الباحثين/ات المثيرين/ات للاهتمام، في إنعاش التقليد الراديكاليّ الأسود.
يبدو لي أنَّه، مع كلٍّ جيلٍ من أجيال الناشطين/ات المناهضين/ات للعنصريَّة، تنهضُ قوميَّةٌ سوداء ضيِّقة، مثل طائر الفينيق، للمطالبة بولاء حركاتنا. لقد استلهم سيدرك أعمالَه، جزئيَّاً، من رغبته بالردِّ على القوميَّة السوداء الضيِّقة في عصر شبابه (وشبابي أيضاً). وإنَّهُ ليبعثُ على إحباطٍ شديد، بالطبع، أن نشهدَ عودة ظهور أنماطٍ من القوميَّة التي لا تُعدُّ هدَّامةً فحسب، بل ومتناقضةً أيضاً مع ما يجب أن يكون هدفنا: ازدهار السود؛ وبالتالي ازدهار البشريَّة. في الوقت نفسه، من المثير حقَّاً أن نشهدَ الطرق التي تساعدُ تشكيلات الشباب الجديدة من خلالها -على غرار حياة السود مهمَّة، ومشروع الشباب السود 100، ومنظَّمة "المدافعون/ات عن الحلم"- في صياغة أمميَّةٍ سوداء جديدة نسويَّة التوجُّه، تُبرِزُ قيمة النظريَّات والممارسات الكويريَّة.
ما تقييمك لحركة حياة السود مهمَّة، وخاصَّة في ضوء مشاركتك في حزب الفهود السود إبَّان سبعينيَّات القرن المنصرم؟ من وجهة نظرك، هل لدى الحركة تحليلٌ وافٍ، ونظريَّة، للحرّيّة؟ وهل ترين أيَّ أوجه شبهٍ ما بين الحزب والحركة؟
عندما نفكِّر بالعلاقة ما بين حزب الفهود السود وحركة حياة السود مهمَّة المعاصرة، فيبدو أنَّ العقود الطويلة والأجيال التي تفصل بينهما تخلقُ حالةً من عدم القابليَّة للقياس من جرَّاء كلٍّ من التغيُّرات الاقتصاديَّة والسياسيَّة والثقافيَّة والتكنولوجيَّة، والتي تفضي جميعاً إلى جعل اللحظة الراهنة مختلفةً جدَّاً على صعيد نواحٍ مهمَّة عديدة عمَّا كانت الحال عليه في ستينيَّات القرن المنصرم. مع ذلك، ربَّما يجدر بنا البحث عن الروابط ما بين الحركتين؛ والتي لا تتكشَّف كثيراً من خلال التشابهات، بل بالأحرى في الاختلافات الجذريَّة بينهما.
انبثق حزب الفهود السود كردِّ فعلٍ على احتلال الشرطة لكلٍّ من أوكلاند وكاليفورنيا، وكذلك كافَّة مجتمعات السود الحضريَّة في جميع أنحاء البلاد. وقد كانت خطوةً مذهلةً بحقّ، من جانب هيوي نيوتن وبوبي سيل، إجراء دوريَّاتٍ في الحيِّ بينما يحملان الأسلحة وكتب القانون، وبعبارةٍ أخرى، "الاضطلاع بدور شرطة الشرطة". في الوقت نفسه، عند النظر إلى هذه الإستراتيجيَّة بأثرٍ رجعيّ -والتي أقرُّ أيضاً أنَّها مستلهمةٌ من ظهور حركات الكفاح المسلَّح في كوبا، وجيوش التحرير في دول جنوب أفريقيا والشرق الأوسط، ونموذج المقاومة الناجحة الذي قدَّمتهُ الجبهة الوطنيَّة لتحرير فيتنام- فإنَّها تعكسُ فشلاً في إدراك أن "ليس بمقدور أدوات السيِّد أن تهدم منزلَهُ قطّ"، بحسب تعبير أودري لورد. وبكلماتٍ أخرى، أفضى استخدام الأسلحة -حتَّى وإن كان ذلك باعتبارها رموزاً للمقاومة في المقام الأوَّل- إلى إيصال رسالةٍ مفادُها أنَّه من الممكن مجابهة الشرطة في الواقع من خلال الاعتماد على إستراتيجيَّات شرطيَّة واضحة.
في أعقاب مقتل ترايفون مارتن، بدأ الوسم الإلكتروني #BlacklivesMatter الذي طوَّرته كلٌّ من باتريس كولورس، وأليشا غارزا، وأوبال توميتي، بالتحوُّل إلى شبكة كاستجابةٍ مباشرة للاحتجاجات المتصاعدة في مدينة فيرغسون بولاية ميزوري، والتي جسَّدت رغبةً جماعيَّةً للمطالبة بالعدالة لمايك براون، ولأرواح السود كافَّة الذين سقطوا ضحايا على مذبح الإرهاب العنصريّ للشرطة. ومن خلال مطالبتها لنا بالمقاومة الراديكاليَّة للعنف العنصريّ المتجذِّر في جوهر بُنى الشرطة وإستراتيجيَّاتها، فقد أدركَت حركة حياة السود مهمَّة في مرحلةٍ مُبكِّرة أنَّه سيتعيَّن علينا وضع مطلب تجريد الشرطة من سلاحها في صميم جهودنا للمضيّ قدماً نحو نمطٍ من العدالة يتَّصف بكونه أكثر أهمّيّة وجماعيَّة. وفي نهاية المطاف، يرتبط هذا التوجُّه نحو تجريد الشرطة من سلاحها بمقاربةٍ تدعو إلى إلغاء عمل الشرطة كما نعرفه ونختبره، فضلاً عن كونه يُعارض سبل إضفاء الطابع العابر للحدود الوطنيَّة على إستراتيجيَّات الشرطة ضمن الدوائر التي تربط أقسام الشرطة الأميركيَّة الصغيرة بإسرائيل التي تُهيمن على مجال العمل الشرطيّ ذو الطابع العسكريّ عندما يتعلَّق الأمر باحتلال فلسطين.
إنَّني أثمِّن التحليل المعمَّق الذي ينتهجه العديد من الناشطات والناشطين في حركة حياة السود مهمَّة، لأنَّه يعكس بدقَّةٍ تعقُّلاً تاريخيَّاً قادراً على البناء على حركات النشاط والنظريَّات المناهضة للعنصريَّة في الماضي، وكذلك احتضانها أو نقدها الجذريّ أيضاً. وعلى غرار محاولات حزب الفهود السود -بصورة غير ناجحة في بعض الأحيان- بصدد تبنّي وجهات النظر النسويّة الناشئة وما كان يشار إليه آنذاك بحركة تحرير المثليّين، فإنَّ قيادات حركة حياة السود مهمَّة، وناشطيها وناشطاتها، قد عمدوا إلى تطوير مُقارباتٍ أكثر فعاليَّة فيما يتعلَّق بتبنّي نظريَّات وممارساتٍ نسويَّة وكويريّة. لكن لطالما كانت نظريَّات الحرّيَّة تجريبيَّة ومؤقَّتة. وقد تعلَّمت من سيدرك روبنسن أنَّ أيَّ نظريَّةٍ أو إستراتيجيَّة سياسيَّة تدَّعي امتلاكها نظريَّةً كلِّيَّة للحرّيَّة، أو أنَّها قابلةً للفهم جملةً وتفصيلاً، فإنَّها تفشل في تفسير تعدُّد الاحتمالات، والتي ربَّما لا يمكن تمثيلها إلَّا بصورةٍ استعاريَّةٍ فحسب في مجال الثقافة.
في أحدث أعمالك البحثيَّة، سلَّطت الضوء على قضيَّة فلسطين، وارتباطها بحركة حرِّيَّة السود. متى أضحى هذا الارتباط جليَّاً بالنسبة إليك؟ وما الظروف، أو التقاطعات، التي أتاحَت المجال لوجهة النظر هذه؟
في الواقع، تعكس المجموعة الصادرة لأحدث محاضراتي ومقابلاتي فهماً شعبياً متصاعداً بصدد الحاجة إلى إطار عملٍ أمميّ يمكن العمل من خلاله على تحويل العمل المستمرِّ من أجل هدم بُنى كلٍّ من العنصريَّة والهيمنة الذكوريَّة والظلم الاقتصاديّ في الولايات المتَّحدة إلى صيغةٍ أكثر ديمومة وفعاليَّة. لطالما شغلت فلسطين مكانةً مركزيَّة على امتداد مسيرتي السياسيَّة، يعود ذلك تحديداً إلى التشابهات ما بين إسرائيل والولايات المتَّحدة؛ التأسيس من خلال الاستعمار الاستيطانيّ، وعمليَّات التطهير العرقيّ ضدَّ السكَّان الأصليِّين، وأنظمة الفصل العنصريّ، واستخدام الأنظمة القانونيَّة لتطبيق القمع الممنهج، وما إلى ذلك. وقد أشرت في مرَّاتٍ كثيرة إلى أنَّ وعيي بمحنة فلسطين تعود إلى سنوات دراستي في جامعة برانديز التي تأسَّست في العام نفسه الذي تأسَّست فيه دولة إسرائيل. علاوةً على ذلك، وخلال فترة سجني، تلَّقيت الدعم من سجناء سياسيِّين فلسطينيّين، وكذلك من محامين إسرائيليّين يدافعون عن فلسطينيِّين.
في عام 1973، أثناء حضوري المهرجان العالميّ للشباب والطلاب في برلين (في جمهوريَّة ألمانيا الديموقراطيَّة)، سنحت لي فرصة اللقاء بياسر عرفات الذي لطالما أكَّد على العلاقة الوثيقة ما بين الكفاح الفلسطينيّ وكفاح حريَّة السود في الولايات المتَّحدة، والذي كان، على غرار كلٍّ من تشي وفيدل وباتريس لومومبا وأميلكار كابرال، شخصيَّةً تحظى بتقديرٍ كبير في أوساط حركة تحرُّر السود. كانت الأمميَّة الشيوعيَّة حينذاك -في أفريقيا، والشرق الأوسط، وأوروبا، وآسيا، وأستراليا، وأميركا الجنوبيَّة، والكاريبي- قوَّةً جبَّارة. وعلى صعيد قصَّتي الشخصيَّة، فأعتقدُ أنَّها كانت ستمضي في سبيلٍ مُغايرٍ تماماً لولا الدور الحاسم الذي لعبته هذه الأمميَّة في تشكيلها.
هناك سجلٌ حافلٌ من اللقاءات التي تجمع ما بين حركات تحرُّر السود في الولايات المتَّحدة والحركات ضدَّ الاحتلال الإسرائيليّ لفلسطين على مدى تاريخ طويل جدَّاً. في كتابه "جغرافيَّات التحرُّر: في فهم المخيال السياسيّ الأفريقيّ-العربيّ"، يحاول أليكس لوبين رسم خارطة لأبرز ملامح هذا التاريخ. في أحيانٍ كثيرة، مع ذلك، لا يكتشفُ المرء لحظات التواصل هذه في الميدان السياسيّ الصريح، وإنَّما في الميدان الثقافيّ، كما يؤكِّد سيدرك روبنسن. بطبيعة الحال، يُبرِز روبين كيلي من خلال كتابه "أحلام الحرّيَّة: في فهم المخيِّلة الراديكاليَّة السوداء" المساحة السورياليَّة باعتبارها موقع تواصلٍ محفِّزٍ ذا طابع خاصّ.
في أواخر القرن العشرين، كانت جون جوردن، وهي شاعرة نسويّة سوداء، من دفع بقضيَّة احتلال فلسطين إلى الواجهة. وعلى الرغم من الهجمات الصهيونيَّة التي عانَت منها، وعلى الرغم من خسارتها المؤقَّتة لصداقتها شديدة الأهمّيَّة مع أدريان ريتش (والتي صارت فيما بعد منتقدةً للاحتلال أيضاً)، إلَّا أن جون أصبحَت شخصيَّة ذات شهادة مؤثِّرة لصالح فلسطين. لقد شعرَت أنَّه يتحتَّم عليها، من خلال شعرها، تجسيد نقطة التلاقي التي تجمع ما بين تحرير كلٍّ من السود وفلسطين. "ولِدتُ امرأةً سوداء/ والآن/ صرتُ فلسطينيَّة/ في وجه قهقهة الشرّ القاسية/ مساحةُ العيش تتناقصُ أكثر فأكثر/ فأين أحبَّائي/ ها قد آن أوان عودتنا إلى ديارنا". في وقتٍ كانت النساء ذوات البشرة الملوَّنة فيه يحاولن صياغة إستراتيجيَّاتٍ بصدد ما نشير إليه اليوم بالتقاطعيَّة، أوضحَت جون، التي تُعبِّر عن أفضل ما في التقليد الراديكاليّ الأسود، لنا مقدرة الصلات السياسيَّة العابرة لكلٍّ من الحدود الوطنيَّة، والثقافيَّة، والعرقيَّة بصورةٍ خاصَّة، على مساعدتنا في تخيُّل آفاق مستقبليَّةٍ أكثر قابليَّة للعيش. أفتقدُ جون كثيراً، وأشعرُ بالأسف لأنَّها لم تعش طويلاً بما يكفي لتشهد تجربة نشاط حركة حياة السود مهمَّة، على امتداد هذه القارَّة، في رفع شعارات المقاومة لاحتلال فلسطين.
وكما أشرتُ في مناسباتٍ عديدة سابقة، عندما انضممت في عام 2011 إلى وفدٍ من الناشطات النسويَّات من نساء الشعوب الأصليَّة وذوات البشرة الملوَّنة في زيارة إلى الضفَّة الغربيَّة والقدس الشرقيَّة، كان لديَّ انطباعٌ أنَّني أفهمُ معنى الاحتلال تماماً. لكن، وعلى الرغم من ارتباطنا جميعاً بالفعل، بصورةٍ أو أخرى، بحركة التضامن، إلَّا أنَّنا كنَّا تحت تأثير صدمةٍ عميقة جرَّاء حقيقة مدى ضآلة معرفتنا بشأن العنف اليوميّ الذي يمارسه الاحتلال. في ختام زيارتنا، قرَّرنا بصورةٍ جماعيَّة تكريس طاقاتنا لصالح المشاركة في حركة المقاطعة والمساعدة في رفع الوعي ضمن دوائرنا المتنوِّعة فيما يتعلَّق بدور الولايات المتَّحدة -ما يزيد عن 8 ملايين دولار- في دعم استمرار الاحتلال العسكريّ. وعليه، فإنَّني ما زلت على ارتباطٍ وثيقٍ، من خلال هذا المشروع، بكلٍّ من تشاندرا موهانتي، وبيفرلي غاي-شيفتول، وباربرا رانسبي، وجينا دِنت، وغيرهنَّ من النساء اللواتي شاركن في الوفد.
في الأعوام الخمسة التي أعقبَت تلك الزيارة، زارت وفودٌ أخرى عديدة، من أكاديميّين/ات وناشطين/ات فلسطين، وساهمت في تعزيز حركة التضامن الفلسطينيّ وتوسيع مداها وتكثيفها. وبينما صاغ مهندسو/ات حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات عملهم/ن على نهج الحملة المناهضة للفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا، فقد حاول الناشطون/ات في الولايات المتَّحدة إيضاح أنَّ هناك دروساً عميقةً يمكن استخلاصها من سياسات المقاطعة السابقة. وقد نظرَت منظَّمات وحركات عديدة داخل الولايات المتَّحدة في مسألة دمج الإستراتيجيَّات المناهضة للفصل العنصريّ ضمن أجنداتها، وكيف يمكن لهذا الدمج إحداث تحوَّل راديكاليّ في نشاطها. ولم يقتصر دور الحملة المناهضة للفصل العنصريّ على المساعدة في تعزيز الجهود الدوليَّة للإطاحة بدولة الفصل العنصريّ، بل أنعشَ أيضاً العديد من الحركات المحلّيّة ضدَّ العنصريَّة وكراهية النساء، والداعمة للعدالة الاقتصاديَّة.
وبالمثل، فإنَّ للتضامن مع فلسطين الإمكانيَّة لتغيير الوعي السياسيّ وتحويله ليصبح أكثر رحابةً إزاء حركاتنا المعاصرة. وبمقدور الناشطين/ات في حياة السود مهمَّة، وغيرهم/ن من المرتبطين/ات بهذه اللحظة التاريخيَّة شديدة الأهميَّة لتنامي الوعي الجماعيّ الذي يدعو إلى الإقرار بوجود البُنى العنصريَّة المستمرَّة، لعب دور مهمّ بصدد إلزام مساحات النشاط الأخرى من أجل العدالة الاجتماعيَّة بتبنّي التضامن مع فلسطين؛ لا سيما حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات. إنَّ التحالفات الجامعيَّة التي تجمع ما بين منظَّمات الطلَّاب السود، ومنظَّمة طلاب من أجل العدالة في فلسطين، والفروع الجامعيَّة لمنظَّمة الصوت اليهوديّ من أجل السلام، تذكِّرنا بالحاجة الماسَّة إلى توحيد الجهود المناهضة للعنصريَّة مع كلٍّ من المواجهة القويَّة لرهاب الإسلام ومعاداة الساميَّة، وكذلك المقاومة العالميَّة لِما تنتهجه دولة إسرائيل من سياسات وممارسات على أساس الفصل العنصريّ.
على الصعيدين النظريّ والأيديولوجيّ، تساعدنا فلسطين أيضاً في توسيع رؤيتنا لمسألة الإلغاء، والتي حدَّدناها بأنَّها ترتبط بعصرنا هذا بإلغاء كلٍّ من السجون وعمل الشرطة. إنَّ تجربة فلسطين تحثَّنا على إعادة النظر في مفاهيم على غرار "الأمَّة السجنيَّة"، أو "الدولة السجنيَّة"، من أجل أن نفهم تماماً الآليَّات العقابيَّة اليوميَّة التي يمارسها الاحتلال، وكذلك الانتشار الشامل للعمل الشرطيّ في كلِّ مكان؛ والذي لا يقتصر فقط على القوَّات الإسرائيليَّة، بل وتمارسه السلطة الفلسطينيَّة أيضاً. هذه المسألة، تدفعنا أيضاً إلى التفكير باتِّجاهاتٍ بحثيَّةٍ أخرى بصدد استخدامات الاعتقال، وكذلك دوره في ترسيخ مفاهيم الثنائيَّة الدائمة فيما يتعلَّق، على سبيل المثال، بالنوع الاجتماعيّ، وكذلك تطبيع الفصل القائم على أساس القدرات الفيزيولوجيّة والعقليّة والفكريّة.
ما نوع الحركات الاجتماعيَّة التي يمكن، أو ينبغي، أن توجد في ظلِّ الظرف التاريخيّ الراهن الذي يشهد صعود كلٍّ من الهيمنة الأميركيَّة العالميَّة، والعلاقات الاقتصاديَّة النيوليبراليَّة، وعسكرة مكافحة العصيان على الصعيد المحلّيّ، و"عمى الألوان" العنصريّ؟
في هذه الفترة التي تشهدُ تحوّلاً متسارعاً في الخطاب الشعبيّ كاستجابةٍ مباشرة للضغوط الناجمة عن الاحتجاجات المستمرَّة ضدَّ عنف الدولة، وعن الممارسات التمثيليَّة المرتبطة بتقنيَّات التواصل الحديثة، فما أقترحه هو أنَّنا بحاجةٍ إلى حركات تولي أكبر قدر ممكنٍ من الاهتمام للتثقيف السياسيّ الشعبيّ، على غرار ما تبذله من أجل التحشيد الذي نجح في وضع عنف الشرطة والاعتقال الجماعيّ على الأجندة السياسيَّة الوطنيَّة. باعتقادي، المقصدُ هُنا أن نحاول صياغة تحليلٍ للظرف التاريخيّ الراهن على أساس استخلاص عبرٍ مهمَّةٍ من الحملات الحديثة نسبيّاً، والتي دفعَت بوعينا الجماعيّ إلى ما بعد الحدود المعيَّنة في فتراتٍ سابقة. وبعبارةٍ أخرى، نحتاج إلى حركاتٍ مُستعدَّةٍ لمقاومة الإغراءات الحتميَّة للاستيعاب. لقد مكَّنتنا حركة "احتلّوا" من تطوير اصطلاحاتٍ ومفاهيم مناهضةٍ للرأسماليَّة؛ على سبيل المثال، صار مفهوم "99 بالمئة في وجه 1 بالمئة" جزءاً من اللغة الدارجة. لا يتعلَّق السؤال بكيفيَّة الحفاظ على وجود هذه اللغة -على غرار التحليل الذي قدَّمته منصَّة بيرني ساندرز، والذي أفضى في نهاية المطاف إلى اختار المرشَّح الديموقراطيّ للرئاسة في سنة 2016- لكن بالأحرى بكيفيَّة البناء عليها، أو تعميقها من خلال ربطها بفكرة الرأسماليَّة العرقيَّة التي لا يمكن التعبير عنها بدقَّةٍ عبر مصطلحات كمِّيَّةٍ تفترضُ نوعاً من التجانس الذي لطالما كان داعماً للعنصريَّة.
لم يتوقَّف سيدرك روبنسون قطَّ عن التنقيب في كلٍّ من الأفكار، والمنتجات الثقافيَّة، والحركات السياسيَّة، من مراحل زمنيَّةٍ سابقة. كان يُحاول فهم أسباب التعايش ما بين مسارات الاستيعاب والمقاومة في حركات تحرُّر السود في الولايات المتَّحدة، ولا تزال رؤاه قيِّمةً بهذا الصدد، ومنها كتابه "حركات السود في أميركا". لطالما قُدِّمت الإستراتيجيَّات الداعمة للاستيعاب، التي تهملُ العوامل والبُنى وراء إدامة الإقصاء والتهميش، باعتبارها بدائل أكثر عقلانيَّة للإلغاء، والذي بدوره لا يقتصرُ على المقاومة والهدم فحسب، بطبيعة الحال، بل أيضاً إعادة النظر بصورةٍ راديكاليَّة في كلٍّ من التخيُّل والبناء.
ربَّما آن الأوان لوضع أساسات حزبٍ سياسيٍّ جديد؛ حزبٍ قادرٍ على التواصل مع عددٍ أكبر بكثيرٍ مقارنةً بما استطاعَت الأحزاب السياسيَّة التقدّميّة التقليديَّة الوصول إليه بالفعل. ولا بدَّ لهذا الحزب أن يكون على ارتباطٍ عضويٍّ بمجموعة الحركات الراديكاليَّة التي انبثقت في أعقاب صعود الرأسماليَّة العالميَّة. عندما أتأمَّل في قيمة أعمال سيدرك روبنسون بصدد النشاط الراديكاليّ المعاصر، يبدو لي أنَّ هذا الحزب يجب أن يرتكز على فكرة الرأسماليَّة العرقيَّة، إذ سيكون مناهضاً للعنصريَّة، ومناهضاً للرأسماليَّة، ونسويّاً، وإلغائيّاً. لكن، الأهمّ من كلِّ ما سبق، يجب لهذا الحزب الإقرار بأولويَّة الحركات القائمة بالفعل، وأقصدُ هنا الحركات التي تقرُّ بتقاطعيَّة القضايا الراهنة؛ أي تلك المنفتحة بما يكفي للسماح بانبثاقٍ مستقبليّ لقضايا ولأفكار وحركات ليس بمقدورنا حتَّى التفكير في تخيُّل وجودها في هذه اللحظة.
هل تُميِّزين، سواءٌ أكان في عملك البحثيّ أو نشاطك، ما بين الماركسيَّة و"الماركسيَّة السوداء"؟
قضيت معظم سنوات حياتي في دراسة الأفكار الماركسيَّة، وتماهيتُ مع المجموعات التي لم تكتفِ باعتناق النقد المستلهم من الماركسيَّة للمنظومة الاجتماعيّة-الاقتصاديّة المهيمنة فحسب، بل بالكفاح أيضاً من أجل فهم العلاقة التكوينيَّة التشاركيَّة التي تجمع ما بين الرأسماليَّة والعنصريَّة. ومن خلال متابعتي الحثيثة لكلٍّ من النظريَّات والممارسات ذات الصلة بالشيوعيِّين/ات السود والمناهضين/ات للإمبرياليَّة في الولايات المتَّحدة، وأفريقيا، والكاريبيّ، ومناطق أخرى من العالم، ومن خلال عملي ضمن الحزب الشيوعيّ لعددٍ من السنوات مع تشكيلٍ من السود حملَ تسميات مختلفة على غرار تشي غيفارا، وباتريس لومومبا، فإنَّ الماركسيَّة، من وجهة نظري، لطالما كانت منهجاً وموضوعاً للنقد على الدوام. وبالتالي، فإنَّني لا أرى بالضرورة تعارضاً ما بين مُصطلحَي "الماركسيَّة" و"الماركسيَّة السوداء".
أتعامل بجدِّيَّةٍ كبيرةٍ مع طروحات سيدرك روبنسون في كتابه "ماركسيَّة سوداء: في فهم التقليد الراديكاليّ الأسود". إذا افترضنا مركزيَّة الغرب غير القابلة للجدل، وتطوُّرها الاقتصاديّ والفلسفيّ والثقافيّ، فهذا يقتضي عدم الاعتراف بالأنماط الاقتصاديَّة، والسرديَّات التاريخيَّة الفكريّة، والأديان، والثقافات، ذات الصلة بكلٍّ من أفريقيا وآسيا والسكَّان الأصليِّين باعتبارها أبعاداً مهمَّة للإنسانيَّة. إنَّ مفهوم الإنسانيَّة بحدِّ ذاته ينطوي بصفةٍ دائمةٍ على عنصريَّةٍ داخليَّةٍ خفيّة، ويستبعد تماماً أيَّ إمكانيَّات لتحقيق مساواةٍ عرقيَّة. وغنيّ عن القول إنَّ الماركسيَّة مرتكزة بحزمٍ على هذا التقليد التنويريّ. ما يطرحُه سيدرك من تحليلاتٍ بارعةٍ تكشف سُبلاً جديداً للتفكير والفعل ناجمةً بالتحديد من خلال اللقاءات ما بين مفكِّرين/ات وناشطين/ات ماركسيِّين/ات وسود ساعدوا/ن في هيكلة التقليد الراديكاليّ الأسود.
بالنسبة إليّ، أعتبرُ الرأسماليَّة العرقيَّة، المفهوم المرتبط بـ الماركسيَّة السوداء، هو الأكثر فعاليَّةً والأقدر على التغيير. وعلى الرغم من صدور كتاب "الرأسماليَّة والعبوديَّة" لإريك وليامز في عام 1944، إلَّا أنَّ المساعي الأكاديميَّة لاستكشاف هذه العلاقة لا تزال هامشيَّةً نسبيّاً. وآملُ أنَّ يساعد العمل البحثيّ الجديد عن الرأسماليَّة والعبوديَّة في إضفاء المزيد من الشرعيَّة على مفهوم الرأسماليَّة العرقيَّة. وفي حين أنَّ من المهمّ الاعتراف بالدور المحوريّ الذي لعبته العبوديَّة في التوطيد التاريخيّ للرأسماليَّة، فإنَّه من غير الممكن فهم أحدث التطوُّرات المرتبطة بالرأسماليَّة العالميَّة بصورةٍ كافية إذا تجاهلنا البعد العرقيّ للرأسماليَّة.