تؤمن الرؤية الشعبوية بفكرة فقدان الطبقات لدورها المحوري الذي كانت تؤديه، وعوضاً عن تحليل ذلك اتجهت إلى تخيّل "صورة شعب متجانس بنسبة 99 في المئة، ملامحه حتماً غامضة، رمزاً للتحرر ووجهاً جديداً للسيادة الديمقراطية"،
يناقش المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي، بيير روزنفالون، في كتابه "قرن من الشعبوية... التاريخ والنظرية والنقد" الصادر حديثاً للمترجم محمد الرحموني عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فكرة عدم أخذ ظاهرة الحركات الشعبوية على محمل الجد باعتبارها بدعة صنعتها الديكتاتوريات العالمية، بل على عكس ذلك يرى أنها جزء من الإرث الديمقراطي التاريخي، ومشروع ترتبط نشأته بالحداثة، وهو على هذا الأساس يقرأ تاريخ ظهورها من ثلاث مراحل بالانتقال ما بين اليمين واليسار، بتقديمه في البداية تشريح للشعبوية، ثم يذهب إلى عرض تاريخ الشعبوية، ويختتم الكتاب بتخصيص القسم الأخير لنقد الشعبوية.
تشريح الشعبوية: خطة لإثارة الأهواء والمشاعر
لعلّ أكثر ما يميز الحركات الشعبوية هو توافقها على الدفع بالشعب إلى صدارة المشهد الديمقراطي، وهو أمر بديهي بالنظر إلى أن عبارة الشعب تعني "في الأصل الحاكم الذي يكون على رأس نظام يعرَّف بالإحالة إليه"، وتتأرجح هذه الإحالة باعتبار الشعب جسماً مدنياً من جهة، ومن جهة أخرى جسماً اجتماعياً، وتختلف التسمية الثانية عن قبلها بأنها تتوسّع لتشمل اسم بروليتاريا أو طبقة عمالية، بمعنى "طبقات شعبية"، وتندرج الحالتان، كما يرى روزنفالون، ضمن "السردية نفسها والرؤية نفسها الرامتين إلى إنجاز ديمقراطية تُدرَك في الآن نفسه على أنها نظام وشكل مُجتَمَعِييْن"، وضمن هذا السياق تعمل الشعبوية على نحت مفهوم الشعب المستهدف من قبلها "الذي يتطابق أكثر مع الواقع القائم، ويندرج ضمن منظور تعبوي يرمي إلى إعادة التأسيس الديمقراطي".
تطرح الحركات الشعبوية نفسها كمشروع تجديد للديمقراطية، فهي تصف الديمقراطيات الراهنة بأنها ليبرالية من ناحية اعتماد إجراءات للحيلولة دون استبداد الأغلبية، وتمثيلية من ناحية السلطة الشعبية المقيّدة، لذلك فإن الرؤية الديمقراطية للشعبوية كما يقول روزنفالون: "تهدف إلى تقديم بديل لهذا التصوّر مؤسس على إعادة النظر في هذين الفهمين، الليبرالي والتمثيلي الديمقراطي، اللذين ترى فيهما اختزالاً للمثال الديمقراطي"، وبحسب التصوّر الشعبوي تملك الديمقراطية ثلاث خصائص، نلخصها بالديمقراطية المباشرة، بالإضافة إلى الديمقراطية الاستقطابية والديمقراطية الآنية العفوية.
وفي محاولة منها لتأكيد تمثيلها على المستوى الشعبي، نجد أن الشعبوية ترفع "من شأن الشعب الواحد [الأحد]"، وتعزز ذلك بإظهار عدائها للنخب والأوليغارشية، وبما أنها ترفض الحزب كشكل تنظيمي، فإنها تختار عوضاً عن ذلك "الحراك"، في ظل مزاعم أنه يجمع كل المجتمع، يسوق روزنفالون مثالاً على ذلك مستعيناً بالإرث الأميركي اللاتيني للشعبوية، والتي وصلت لأول مرة مع الزعيم الكولومبي خورخي إليسير غيتان (1898 – 1948) في ثلاثينيات القرن الماضي، والذي كان كرر في خطاباته الجماهيرية في أثناء حملته الانتخابية جملة "لست فرداً بل أنا الشعب"، وأطلق على حملته عنوان "مرشح الشعب" في وجه الرأسمالية والأوليغارشية التقليدية، لم يكتب لغيتان النجاح بسبب اغتياله، لكن منذ ذلك التاريخ ارتبطت الشعبوية الأميركية اللاتينية باسمه، وأصبحت مرجعاً لأبرز الديكتاتوريات الشعبوية اليسارية، بما فيهم الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز (1954 – 2013).
بحسب روزنفالون، يمكننا الإدراك بشكل حدسي أو صريح ذكاء الحركات الشعبوية في تطويع مجموعة متنوّعة من المشاعر تبني عليها خطابها الشعبوي، نظراً لأنها "مشاعر مختلفة من جهة طبيعتها ولها نتائج سياسية مخصوصة"، تبدأ بـ"مشاعر الموقف" القائمة على الشعور بالإهمال والاحتقار، ثم "مشاعر التصوّر" القائمة على تطوير رؤية المؤامرة واللجوء إلى الأخبار الكاذبة، وأخيراً "مشاعر الفعل" القائمة على دعوة الطبقة الحاكمة إلى الرحيل، وعلى هذا الأساس نجد "إنّا إزاء حركات شعبوية فريدة من نوعها وبالتالي لا يمكن النظر إليها من جانبها السلبي فحسب".
يقود هذا التصنيف للمشاعر روزنفالون إلى نتيجة تتمثل بأن "نستخلص من دراسة هذه الشعبويات تصنيفات وصفية مجردة تؤدي في النهاية إلى تمييع موضوع الشعبوية نفسه، ومن هذا المنطلق يصل إلى حقيقة وجود ثلاث سمات تميّز الشعبوية، تتلخص السمة الأولى بـ"توافر [بيئة] راهنة حاضنة للفكرة الشعبوية بقطع النظر عن وجود الحركات الشعبوية نفسها"، أما السمة الثانية فهي تقول بـ"وجود فرق بين الحركات والأنظمة الشعبوية، فالأنظمة تضفي من خلال مؤسساتها طابعاً رسمياً على مبادئ هذه الحركات"، وأخيراً السمة الثالثة التي تؤكد إشكالية وجود "شعبوية يسارية" تتميز بشكل واضح عن "شعبوية يمينية"، وهي "إشكالية مهمة".
المراحل التاريخية للشعبوية
يحيل روزنفالون المرحلة التاريخية الشعبوية الأولى إلى القيصرية الفرنسية الحديثة التي ظهرت مع لويس نابليون، المعروف بنابليون الثالث، بعد استلامه الحكم في العام 1848، تميزت هذه الفترة باقتراح أنصار نابليون الثالث "اعتماد ديمقراطية الاستفتاء بديلاً من الأشكال الكلاسيكية للحكم التمثيلي"، بالإضافة إلى ذلك عمل نابليون الثالث على ترسيخ فكرة "الرجل الأمة والشعب الواحد [الأحد]"، والتي عبر عنها أحد مناصريه بالقول إن "منتخب الديمقراطية الفرنسية" يعتبر "رجلاً أمة"، وأخيراً الاستقطاب الديمقراطي بالتركيز على الانفتاح الاقتصادي، وتطوير الجمعيات التعاونية، إضافة إلى وضعه حداً لمنع العمل القانوني بإلغاء قانون حرية التجمع، لكنه في مقابل ذلك عمل على حل الأحزاب ووضع الصحافة تحت الرقابة، مستنداً بذلك إلى السيادة الشعبية.
سجلت المرحلة التاريخية الشعبوية الثانية تاريخ ظهورها، وفقاً لروزنفالون، ما بين عامي 1890 – 1914، وهو يأخذ في هذا السياق تجربة الولايات المتحدة وفرنسا، فقد عرفت الأجواء في تلك الفترة "أولى أزمات النموذج الديمقراطي" على المستوى السياسي، وتميزت على المستوى الاقتصادي بصدمة "العولمة الأولى". من الناحية السياسية أدى النقد الموجّه إلى الأحزاب إلى إرساء الانتخابات التمهيدية، وهو ما أدى إلى توسيع "نطاق السيادة الشعبية ليشمل الحق في اختيار المرشحين"، بينما ساهم من الناحية الاقتصادية بصعود أيديولوجيا الحمائية القومية المعادية للأجانب، حيث أضحت حماية العرق الأبيض أولوية الكثيرين، و"هكذا وجدت الشعبوية في العنصرية منفذاً للظهور".
دخلت عبارة الشعبوية حيز الاستعمال في اللغة السياسية العامة في القرن العشرين، وهو المرحلة التاريخية الشعبوية الثالثة، حيث استخدمت لـ"نعت" الحركات والأنظمة في أميركا اللاتينية ، وكانت نشأتها مرتبطة بالتنمية الاقتصادية التي تعتمد بشكل كبير على الصادرات الزراعية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت تستحوذ في الأرجنتين نسبة واحد في المائة على 70 في المائة من ملكية الأراضي في العام 1930، أما على الجانب السياسي فقد كانت المؤسسات غير مهيكلة بما فيه الكافية، إضافة إلى أن الحياة السياسية "ظلت متطبعة بالعلاقات الاجتماعية ذات الطابع الفلاحي القائمة على السّخرة والخضوع"، وبموجب هذه الأسباب انبثقت أبرز الشعبويات اللاتينية، كانت أولاً مع غيتان المؤسس، وترسّخت مع الرئيس الأرجنتيني خوان بيرون (1895 - 1974).
يقترح روزنفالون لمحاولة فهم اتخاذ "الشعبوية تاريخاً ديمقراطياً" الانطلاق من "فكرة غموض الديمقراطية" نفسها، لأن ما ينبغي فهمه يتمثّل بـ"جوهر الشعبويات، ما يجمعها وما يفرقها، ضمن هذا المنظور العام الذي يندرج بدوره في إطار التاريخ الطويل للتجربة الديمقراطية"، ولفهم الديمقراطية فهي مجال يتشابك فيه "تاريخ خيباتها وتاريخ غموضها"، وهو تاريخ يقوم على بعض التناقضات التي انبت عليها الديمقراطية، يمكننا تلخيصها بالشعب المفقود، إضافة إلى التباسات الديمقراطية التمثيلية، تحوّلات اللاشخصانية، وتعريف نظام المساواة، وكان لهذه التناقضات أن أسست للديمقراطية "باعتبارها مجالاً واسعاً للاكتشاف والتجريب"، وتفرّع عنها ديمقراطيات قصووية، تميّزت بثلاث عائلات ديمقراطية، هي ديمقراطيات: الحد الأدنى، الجوهرانية، الاستقطابية.
في نقد الشعبوية
تعتبر الحركات الشعبوية أن عملية الاستفتاء أكثر الوسائل المناسبة لاستعادة "الثقة بالديمقراطية وإيجاد حلول لما أصاب الإجراءات والمؤسسات التمثيلية البرلمانية التقليدية من إنهاك ملحوظ في كل بقاع العالم"، وفي مقارنة بين فرنسا والولايات المتحدة، نقرأ أنه بينما شرّع دستور الجمهورية الخامسة في فرنسا اللجوء إلى الاستفتاء، فإن نحو 30 ولاية تعتمده في الولايات المتحدة، لكنه غير معتمد على المستوى الفيدرالي. ومع ذلك فإن للاستفتاء تداعيات السلبية على تعزيز الديمقراطية، كما يرى روزنفالون، وتتمثّل هذه التداعيات بأنه "إجراء يميّع مفهوم المسؤولية السياسية"، وهو "خلط مضرّ بين مفهوم اتخاذ القرار ومفهوم الإرادة في المجال السياسي"، إضافة إلى أنه "يؤدي إلى تهميش البعد التداولي للديمقراطية"، وأخيراً "تقديس رأي الأغلبية بأن يجعله غير قابل للمراجعة".
غالباً ما تندد الحركات الشعبوية للديمقراطية بالطابع غير الديمقراطي للهيئات الوسيطة وللمحاكم الدستورية، مستندة إلى نظرية "أنها مؤسسات غير منتخبة من طريق الاقتراع العام، وهي بذلك تنتهي "إلى إضفاء شكل من أشكال الإطلاقية على المؤسسات المنتخبة"، إذ إننا عندما نقارب فكرة أن الرقم 51 أكبر من الرقم 49 من جانب علم الاجتماع، يظهر لنا "أن الأغلبية تشير إلى أن هناك شريحة من الشعب مختلفة"، بمعنى أنها أقلية سياسية، وبحسب روزنفالون فإن الأقليات لم تعرَّف باعتبارها وضعاً سياسياً أو وقائع اجتماعية، بل باعتبارها "محطات فحسب في مجال جدلية تطوّر الأفكار وانتشارها"، تفنى مع الأفكار الرجعية، وتتمدد مع الأفكار الجديدة، كما يرى أن "الطرق الجديدة للتعبير عن الإرادة العامة" أفرز شكلين للحكم، الأول "حكم أيِّ أحد"، أي منح الفرد العادي قدرة كاملة على التمثيل الاجتماعي، والثاني "سلطة لا أحد"، أي أن الحكم لا يمكّن أحداً من الاستئثار بالسلطة من جانب بعض المجموعات أو الأشخاص.
تؤمن الرؤية الشعبوية بفكرة فقدان الطبقات لدورها المحوري الذي كانت تؤديه، وعوضاً عن تحليل ذلك اتجهت إلى تخيّل "صورة شعب متجانس بنسبة 99 في المئة، ملامحه حتماً غامضة، رمزاً للتحرر ووجهاً جديداً للسيادة الديمقراطية"، بينما لا يمثل الصراع من نسبة الواحد في المئة سوى "تصوّر مستنفذ للتوترات والانقسامات والتكتلات التي ينبغي أخذها بالحسبان حتى ترسي مجتمعاً سياسياً فعالاً ومجتمع المتساوين"، هكذا تبدو لنا عملية اختزال الانقسام الاجتماعي متعارضة بين الكتلتين لتظهر "بمنزلة صورة كاريكاتورية ساخرة"، فهي تختزل جميع المعايير في معيار واحد، هو "معيار رأس المال أو الدخل، معيار التفاوتات التي ينظر إليها على أنها مستوى آخر"، كما الحال مع معايير "الشعور بالتجاهل، والاحتقار، وانعدام القيمة، والأهمية، وباللاجدوى في المجتمع".
كان معجم روبير الصغير قد أضاف إلى قاموسه عبارة "الاستبداد الديمقراطي" في العام 2019، وعرّف العبارة بأنها "نظام سياسي يجمع بين المظهر الديمقراطي والممارسة الاستبدادية للسلطة". يشير روزنفالون في هذا السياق إلى أن هذه العبارة تفسر حالتين هما "حالة التبرير الديمقراطي للمارسات الاستبدادية من جهة، وحالة الانزلاق التدريجي لبلدان نحو الحكم الشمولي ضمن إطار مؤسساتي ديمقراطي قائم الذات من جهة ثانية"، وعلى هذا الأساس يخلص إلى أن النماذج الأميركية اللاتينية والأوروبية قد كشفت عن ثلاثة عوامل مميزة يمكنها المساهمة في تحليل الشروط التي يمكن فيها لنظام نتج عن موجة انتخابية شعبوية أن يتحوّل إلى نظام مستبد ديمقراطياً، وتتمثّل هذه العوامل بـ"إرساء فلسفة وسياسة اللاانعكاس، تنشيط الاستقطاب المؤسساتي والتصلب السياسي، إبستمولوجيا التصلّب وأخلاقياته".
نهاية، تظهر لنا الخلاصة التي توصّل لها بيير روزنفالون في كتابه "قرن من الشعبوية... التاريخ والنظرية والنقد" باقتراحه التعاطي مع الحركات الشعبوية كحل مقترح لمشكلات العصر قبل التعاطي معها باعتبارها مشكلة، وهو يرى أن النقد الموجّه لها يجب أن يتوسّع ليشمل "بسط خطوط عريضة لمقترح بديل عن الشعبوية"، بحيث يمكن أن يشكّل سيادة للشعب واسعة النطاق، ويرى في هذا الخصوص أن يكون البديل إثراء مفهوم الديمقراطية وتكثير أشكالها، لأن الأمر غير مرتبط برسم نموذج ديمقراطي، بل بـ"التأشير إلى عمل دؤوب يتطلب الإنجاز ومبادئ تتطلب التطبيق"، وهما الكفيلان بتجريد المشروع الشعبوي من جاذبيته، في مقابل إطلاق "مشاعر ديمقراطية أصيلة" مثل التضامن والتعاطف باعتبارهما "نقطة ارتكاز لهذا المشروع الهادف إلى إرساء ديمقراطية شاملة وكثيرة الأشكال".