سيبقى خطاب الإعلام الغربيّ حول هذه الحرب كسجلّ وكـ"أرشيف" مبتور، ومشوّه، وغير مهنيّ، بل ويمكن القول إنّه، بصورة ما، مشارك أيضًا في ما ترتكبه "إسرائيل" من جرائم ضدّ الإنسانيّة، وستبقى اللغة التي يستخدمها شاهدة على ما وصل إليه هذا الخطاب من تداعٍ.
أمام حرب الإبادة المستعرة التي تشنّها "إسرائيل" على قطاع غزّة منذ السابع من أكتوبر، يبدو كلّ وصف، تقريريّ أو مجازيّ، مرشّحًا لقدر من النقصان والقصور عن استيعاب وقائع وأهوال المقتلة المستمرّة. لذلك قد تصاب اللغة أحيانًا بخرس تام، وتتهاوى قدرتها الاعتياديّة على القول وإنتاج المعنى، وحينئذ يحلّ الصمت بديلًا عن الكلام، وتتصدّر الأشلاء والدماء والركام، ويعلو كلّ تجسيد "خام" للمذبحة على النظام اللغويّ ومنطقه المرتّب. ربّما لذلك تجاسر بعض الآباء في غزّة على رفع أجساد أطفالهم المسجاة قبالة الكاميرا لتكون بذاتها آية في وجه خرس اللغة وتداعيها.
على الجانب الآخر، يقابل هذا العطب اللاإراديّ الذي قد يصيب اللغة ممارسات منهجيّة تسعى إلى طمس الحقيقة ومحو الأثر وإسكات المنطق، وإعلاء العنف والقمع والعنصريّة والإبادة إذ تتلبّس لبوس الحضارة والديموقراطيّة والإنسانيّة. وهذا ما يفيض به الخطاب الإسرائيليّ السياسيّ والإعلاميّ والكثير من تقارير وسائل الإعلام الغربيّة الكبرى منذ بدء الحرب على غزّة من تمعّن في أداء ممارسات لغويّة وخطابيّة متحيّزة وجائرة، ومن تفسّخ للمعاني والقيم، الإنسانيّة والمهنيّة.
"حيوانات (غير) بشرية"
يحدث فعل الإبادة في اللغة وعبرها جنبًا إلى جنب مع فعل الإبادة الماديّ. فبالتماثل مع ما تتضمّنه ممارسة الإبادة الجماعيّة عادة من مراحل، وفقًا لنموذج جريجوري ستانتن، وُظِّفت منذ بدء الحرب على غزّة إستراتيجيّة تجريد الفلسطينيّين من إنسانيّتهم لتبرير وللتمهيد لما سترتكبه "إسرائيل" بحقّهم من صنوف من القتل والتهجير والإبادة. "إنّنا نحارب حيوانات بشريّة"، كما صرّح وزير دفاع الاحتلال، يوآف جالانت، في بواكير الحرب مبرّرًا قرار دولته بقطع إمدادات المياه والطعام والكهرباء والوقود عن القطاع المحاصر سلفًا. لكنّ وصف الغزيّين كأنصاف بشر وأنصاف حيوانات لم يكن كافيًا لمندوب إسرائيل السابق لدى الأمم المتحدة، دان جيلرمان، الذي نعتهم بالـ"الحيوانات غير البشريّة"، نازعًا عنهم أدنى انتساب للإنسانيّة. وبينما رأى أرييه كينج، نائب رئيس بلديّة القدس، أنّ الفلسطينيّين "ليسوا بشرًا ولا حيوانات بشريّة؛ إنّهم من صنف دون بشريّ"، فقد ذهب مردخاي كيدار، الباحث الإسرائيليّ والعقيد السابق في المخابرات الإسرائيليّة، إلى عدم مساواة الفلسطينيّين بالحيوانات "لأنّ هذا تحقير للحيوانات."
تعتاش السرديّات عادة على التكرار والمراكمة، وهو ما ترتكز عليه السرديّة الصهيونيّة إذ تتداول منذ عقود صنوفًا من العبارات التحقيريّة والصور النمطيّة بحقّ الفلسطينيّين لتعزيز هذه السرديّة التي تدفع بالفلسطينيّين إلى خارج حدود الجماعة البشريّة، فيسهل بذلك ممارسة التصنيف وخلق التراتبيّات والثنائيّات الحدّيّة التي تتأسّس عليها كافّة المشاريع الاستعماريّة.
إماتة الفلسطينيّ
ثمّة نسق سائد في الإعلام الغربيّ إجمالًا يُلاحَظ فيه أنّ الفلسطينيّين "يموتون" دائمًا، ولا يُقتلَون. لم تفارق التقارير واللقاءات الإعلاميّة الغربيّة هذا النمط في تغطيتها للحرب الحالية على غزّة، بل إنّه يتجلّى فيها بصورة صارخة وكاشفة، لا سيّما حين يجري الحديث عن الخسائر في الأرواح للإسرائيليّين والفلسطينيّين في نفس التقرير وربّما في نفس الجملة، إذ نجد أنّ الإسرئيليّين يُقتلَون، وأنّ قاتلهم مُحدَّد ومُعرَّف غالبًا، أمّا الفلسطينيّون فيموتون بالجملة، دون أسباب أو سياق، أو بإرجاء السياق، المقتضب عادة، لجملة أو فقرة لاحقة. مثال لذلك ما أوردته صحيفة "التايمز" اللندنيّة كما يلي: "سجّل الإسرائيليّون مرور شهر منذ أن قتلت حماس 1400 شخصًا واختطفت 240، بادئًة حربًا يُقال إنّه مات فيها 10,300 فلسطينيّ." هذا مثال واضح ومكثف للتحيّز الإعلامي الغربيّ للرواية الإسرائيليّة ولعدم الاتساق في الممارسة الصحافيّة حتّى حين يتعلّق الأمر بالحدث والسياق ذاته. فبالإضافة إلى الاستعمال الانتقائيّ للكلمات، يشير التقرير إلى "موت" الفلسطينيّين بنوع من التشكّك، بل يوحي أيضًا أنّ حماس، وليست "إسرائيل"، هي السبب في هذا "الموت" الجماعيّ.
لا تمثّل هذه الأمثلة مجرّد صياغات عارضة لحالات متفرّقة، بل ممارسة ممنهجة تثبتها تحليلات إحصائيّة كميّة من بينها دراسة الباحثة هولي جاكسون لثلاث صحف أمريكيّة كبرى في الفترة من 7 إلى 22 أكتوبر (تشرين الأوّل) 2023 إذ وجدت تفاوتًا كبيرًا في حجم التغطية لأعداد الضحايا الإسرائيليّين والفلسطينيّين وفي كيفية الصياغة التي، على سبيل المثال، تقصر استخدام مفردة مثل "مذبحة" ومرادفاتها واشتقاقاتها بشكل حصريّ لوصف القتلى الإسرائيليّين.
قد لا يبدو الفارق كبيرًا أو مهمًّا بين لفظتي "القتل" و"الموت"، لكنّ تأطير الحدث باستخدام كلمة دون أخرى يُخرِجه من مجال دلاليّ إلى مجال آخر، فالموت، كما هو معلوم، أمر محتوم يتضمّن انتهاء الحياة لأسباب اعتياديّة، طبيعيّة، دون تقصّد الإفناء والإهلاك، على خلاف القتل الذي يترتّب عليه تبعات، ويستلزم وجود قاتل وجريمة ودافع وسياق. وإذ يُطمَس الفاعل بالبناء للمجهول، وتُطمَس الجريمة بعدم تسمية الفعل قتلًا من الأساس، تصير إبادة آلاف الفلسطينيّين فعلًا لم يحدث، ودون تبعات تُذكَر، وبلا دافع للتعاطف مع هذه الحيوات المهدرة أو رثائها.
وعلى مستوى رمزيّ، يؤسّس هذا النسق اللغويّ الراسخ لسرديّة تتعامل مع القتل كأنّه القدر المحتوم للفلسطينيّين، والصورة الأوحد لموتتهم "الطبيعيّة"؛ كأنّ القتل هنا ليس، كما كلّ قتل، سلبًا للحياة، بل انتهاءً "طبيعيًّا" و"مُستحَقًّا" لها؛ كأنّه الجزاء "المشروع" والنتيجة "الحتميّة" لهذا الوجود الذي لا بدّ، كما كلّ وجود، أن يؤول إلى نهاية، لكن كأنّ "العاديّ" في الحالة الفلسطينيّة، خلافًا لكلّ الوجود، أن تكون نهايته بالمحو، لا بانتهاء أسباب الحياة.
وإن كانت الإبادة تقوم على المحو الجماعيّ للأجساد، فلا بدّ، ابتداءً، أن تضحي هذه الأجساد بلا قيمة، أن تستحيل إلى أجساد غير مرئيّة، ألّا يترتّب على إهلاكها شيء، أن تُستَثنى من التعاريف الإنسانيّة للحياة والموت (فهي محض "حيوانات بشريّة"، أو "غير بشرية"، في نهاية الأمر!)، لكي يسهل التنصّل من تهمة الإبادة، التي تنكرها "إسرائيل" وتستعيض عنها بسرديّات مزعومة حول "الدفاع عن النفس"، و"الدروع البشريّة"، و"الجيش الأكثر أخلاقيّة في العالم". ولا تتخفّى هذه الرغبة في المحو التام للوجود الفلسطينيّ بالضرورة خلف صيغ مجازيّة، بل قد تكون على قدر مباشرة وفجاجة قول وزير ماليّة الاحتلال، بتسلئيل سموتريتش، في مارس (آذار) 2023 إنّه "لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطينيّ"، مذكّرًا بمقولة مماثلة لجولدا مائير في العام 1969.
هدم الدلالة
خلافا لتلك "الألعاب" اللغويّة المعروفة والراسخة، ومع استمرار الإبادة وتصاعد أهوالها، وصلت لغة التغطية الإعلاميّة الغربيّة للحرب على غزّة في بعض الأحيان إلى درجة مذهلة من التحلّل نتيجة الإمعان في ليّ عنق اللغة انتصارًا لمنطق الاحتلال وخطابه. ماذا يُمكن أن نفهم من عنوان كهذا، على سبيل المثال: "أربع حيوات هشّة وُجدت منهيّة في مشفى مُخلى في غزّة"؟ أليس ثمّة لفظة قائمة بذاتها وذات دلالة لعبارة "حيوات هشّة" في اللغة؟ لماذا لم يسمّ التقرير الذي نشرته صحيفة "الواشنطن بوست" في نسختها الورقيّة الشيء باسمه: "أربعة أطفال خدَّج"؟ لِمَ الحاجة لنحت عبارة جديدة تلتفّ على المعنى؟ من وجد تلك "الحيوات الهشّة"، ومن المسؤول عن إنهائها وإخلاء المشفى؟ لِمَ الحاجة إلى الانخراط في هذه الأحاجي اللغويّة؟ ألا يجب تفضيل المباشرة والاقتصاد اللغويّ على الالتباس والإطناب في التقارير الصحافيّة، لا سيّما في عناوينها؟
جملة من الأسئلة يطرحها هذا العنوان في تمثّل جليّ لما يمكن أن نسمّيه "تحلّل" اللغة، وإفسادها، وتخريب وظائفها. فهذا مثال لخرق المبادئ الجوهريّة للتداوليّة، من حيث الإفادة والمناسبة لمقام الحديث وغيرها، لغايات أيديولوجيّة، بصورة تتحوّل فيها اللغة من أداة لإنتاج الدلالة إلى أداة لهدمها. هذا مثال لمقولة دون قول، لفعل كلاميّ يُراد له أن يُخفي أكثر ممّا يكشف، وأن يُبهِم أكثر ممّا يُوضِح، بالنقيض من كلّ ما يُفترض أن يكون عليه عنوان تقرير صحفيّ.
تزخر التقارير الصحافيّة الغربيّة منذ بدء الحرب بأمثلة كهذه تتحوّل فيها اللغة إلى ساحة للإبهام والمناورة والالتفاف على المعاني، فتصبح عبارة "رجل بزيّ عسكري" بديلًا عن "جندي إسرائيليّ"، وتصير الغارة الجويّة الإسرائيليّة "انفجارًا يقول الغزيّون إنّه كان غارًة جويّة"، ويُسمَّى الأسرى الإسرئيليّون "رهائن" بينما يُشار إلى الأسرى الفلسطينيّين كـ"سجناء"، ويبقى الأسرى من الأطفال أطفالًا إذا كانوا إسرائيليّين، بينما يتحوّل الأطفال الفلسطينيّون إلى "أشخاص في عمر الثامنة عشر أو أقلّ".
بالإضافة إلى إستراتيجيّات الإخفاء والالتباس هذه، يجب أيضا الانتباه إلى المواقع التي يجري فيها إسكات اللغة تمامًا عمّا كان من اللازم قوله. يتمثّل ذلك بصورة رئيسة في إهمال الإعلام الغربيّ لتقديم السياق التاريخيّ الأعمّ للوقائع والأحداث ليتسنّى للمتلقّي فهم طبيعة ودوافع ما يجري بشكل أوضح . تؤطّر التغطية الحالية للحرب على غزّة الأحداث كأنّه لا صلة لها بطبيعة "إسرائيل" كقوّة احتلاليّة استيطانيّة، وبتاريخ القهر والقمع والسياسات الاستعماريّة التي تمارسها ضد الفلسطينيّين منذ عقود. لذا فحدود الصورة التي يقدّمها الإعلام الغربيّ تبدأ عند السابع من أكتوبر، ويجري قمع أيّ سرديّة تتناول الحرب في إطار أوسع. ربمّا يلخّص هذا الملمح ما قاله رياض منصور، مندوب فلسطين الدائم لدى الأمم المتحدة، أنّ "التاريخ بالنسبة لبعض وسائل الإعلام والسياسيّين، للأسف، يبدأ حين يُقتَل الإسرائيليّون."
هذا التخريب والهدم والمحو الذي يحدث في اللغة وعبرها يوازي ما يحدث من هدم ومحو ماديّ للبشر والمكان في غزة، ويستهدف هذان الصنفان من الإبادة، اللغويّة الرمزيّة من جهة والماديّة المتجسّدة من جهة أخرى، الذاكرة الشخصيّة والجمعيّة. فهدم المنازل والطرق والكنائس والمساجد والمواقع الأثريّة يماثله، خطابيًّا ورمزيًّا، محو الحدث وطمس مسؤوليّة الاحتلال عنه، وإنكار وقوع القتل والإبادة في التقارير والمقالات واللقاءات الإعلاميّة. وحجب السياق التاريخيّ الأعمّ للاحتلال الإسرائيليّ يتكثّف في إصرار البرامج الحواريّة في الإعلام الغربيّ على البدء من هجمات السابع من أكتوبر وإدانة حماس كعتبة للحديث حول الحرب وكطقس مرور إلى الحكاية كما يُراد لها أن تكون: متحيّزة، ومُختزلة، و"مُعقَّمة".
سيبقى خطاب الإعلام الغربيّ حول هذه الحرب كسجلّ وكـ"أرشيف" مبتور، ومشوّه، وغير مهنيّ، بل ويمكن القول إنّه، بصورة ما، مشارك أيضًا في ما ترتكبه "إسرائيل" من جرائم ضدّ الإنسانيّة، وستبقى اللغة التي يستخدمها شاهدة على ما وصل إليه هذا الخطاب من تداعٍ. لذلك وجبت كلّ كتابة تعمل كأرشيف مضاد، الكتابة التي لا تشير فقط إلى عوار وتواطؤ هذا الخطاب، بل تحتلّ أيضًا مواقع الصمت والحذف والإلغاء، وتُفصح عمّا أسكتته الآلة الإعلاميّة، وتُصلح ما شوّهته السرديّات المنحازة، وتعيد بناء ما هدمته هيئات التحرير وغرف الأخبار وعناوين الصحف.