يرى الأوربي في قصص ديفيد حكايات مسلية قبل رفض طلبه للتوطين في إحدى الدول الأوربية، وترى طالبة الجامعة العبرية التي تجري بحثًا حول الحياة الجنسية للاجئين في داويتْ غرضًا لاختبار فرضيات علم النفس. إلا أنّ الكاتب يجيز لبطلهِ تحقيق نصرٍ خاص بهِ، إذ بدا ديفيد عبر حكاياتهِ للرجل الأبيض يمده بروح يفتقدها الأوربي؛
يعرض الروائي الإرتريّ حجي جابر في روايتهِ ”رغوة سوداء“ (دار التنوير - ٢٠١٨) مسألة اليهود الفلاشا في إسرائيل، ويجعل من روايتهِ روايةَ أسئلةٍ عن الأديان والهوية والانتماء، عن اللجوء والهجرة والحب، العنصرية والظلم، عن العيش والموت على السطح.
يبني جابر نصهُ باستخدام شخصية واحدة، ويُخضِع هذه الشخصية إلى تغيرات تعكس الحالة التي تعانيها؛ شخصية وُلدِت من غير انتماء ثُمّ انتسبت للأديان الثلاثة. يسند الكاتب لـ ”أدال“، أسماء مختلفة (داوود وديفيد وداويتْ) ويعبر بهذه الشخصية الروائية التي ابتكرها أو أخرجها من واقع استثنائي مناطق تجريبٍ كثيرة، يحافظ على خصوصيتها، وعلى منطق نمو متوازن يعكس بدورهِ، حال اليهود من أصل أثيوبي الذين هجّرتهم إسرائيل على دفعات إليها، ضمن مقولة أرض الميعاد قبل أن يصحوا على واقع الرفض؛ جراء العنصرية الإسرائيلية والشك في يهوديتهم. يخرج داوود، من إنداباغونا سيرًا على الأقدام إلى مخيم غوندار، ثم يصل على متن طائرة بلا مقاعد إلى مطار بن غوريون ضمن ما عرف بحملة أجنحة الحمام. ما بين الوجهات تتعدد انتماءاته، يكتسب أسماءه، ويرصد الكاتب سعيه لتحقيق أقصى أمانيه بحياة آمنة وعادية.
بقدر ما أراد داوود الوصول إلى إسرائيل بقدر ما أخافه النزول من الطائرة "فالوصول صنو الانتهاء". يسجد في أرض المطار، ويستعيد بدايات رحلتهِ، انتسابه لأناس يجهل أنّه يسيء إليهم عندما يسميهم فلاشا إسرائيل، يستعيد المغامرات التي أوصلته إلى مخيم غوندار، الاحتيال الذي أضطر إليه والسرقة والكذب وقد كان بين أناسِ "ينشدون النجاة بكل طاقتهم". يوزع جابر حكايته على نحو تبدو فيه حكاية مستعادة، وفي الآن نفسهِ، حكاية تتقدم بثبات ولم تصل نهايتها بعد. يقابل الكاتب لحظات متقاربة لأحداث عبر بها بطلهُ في أوقات متباعدة، من دون أن يخرجه من حلقات الخوف والحذر ورفض الآخرين لهُ. يتعاطف القارئ مع داوود، يترقب مصيره ويفهم ماضيه؛ إرتريّ هرب إلى أثيوبيا، ثُمّ استغل هجرات اليهود بالانتساب إليهم، لينال حنق اليهود الذين يعرفون قصته وحسد الأثيوبيين. أول ما تخلى داوود عن اسمه في مكتب التسجيل على الحدود الأثيوبية هاربًا من معسكر التجنيد الإجباري في إرتريا، ليصبح اسمه ديفيد دلالة على اسم مسيحي وطمعًا باللجوء إلى أوربا. على الرغم من أنّه ولد من غير انتماءات قبلية ولا دينية، انتماؤه الوحيد هو الثورة، باعتباره أحد أفراد "ثمار النضال" وهم أولئك الذين أنجبوا على جبهات القتال نتيجة علاقات غير شرعية، لا يعرف أماً غير الثورة، ربطنه مقاتلات كثيرات على ظهورهن ونشأ على اسم أدال في الجبهة، عرف الحب عندما رأى عائشة بين المحتشدين حول المقاتلين، وهو محمول على الأكتاف أراد لكل شيء أن يتوقف عندها، ليصحو على فكرة قاتلة مفادها؛ إنّهم في معسكرات التجنيد لا يُعدّون المقاتلين ليصبحوا جنودًا أقوياء، بل لكي يكونوا عبيدًا خانعين. وهي الصفة التي لازمت داوود طوال رحلتهِ، حتى في حي الأفارقة في تل أبيب حيث شعر بالأُلفة ما أن رأى البشرة السوداء. قبل أن يدفع بهِ الكاتب إلى نهاية، أوحى بها منذ أن نزل داويتْ من الطائرة!
عبر أزماتهِ المختلفة ولحظات الضيق التي عرفها؛ إمّا ليواري انتماؤه أو ليقنع المسؤولين بأحقيته اللجوء إلى الأديان والأوطان البديلة، نبغ داوود عن موهبة فذة في جعل كلّ شيء حكاية مثيرة، في إنداباغونا دفعه ازدياد أعداد طالبي اللجوء واستهلاكهم كلّ الحكايات إلى سرد قصته الحقيقية، اضطراره إلى الكذب على عائشة لتجنب الازداء إذ ما عرفت أنّه من ثمار النضال، الأمر الذي أودى بهِ إلى معسكر التجنيد الإجباري نتيجة تخلفه الدائم عن العودة إلى مأواه في مدرسة الثورة، وقد اختار عائشة على الثورة بعدما شعر بأنّها الأنثى الأولى التي تشاركه الخوف من الفقد. عندما كتب رفاقه في القدس أمانيهم بمال وفير وزوجات صالحات، كتب داويتْ مفردة واحدة على الصفحة البيضاء ودسّها في "الحائط الغربي" مفردة بدا أنّه يجهلها بقدر ما سعى إليها وهي "النجاة". في القدس، محطة داويتْ الأخيرة بعد إقامة لأشهر في تل أبيب، يهتم الراوي بذكر تفاصيل المدينة، حاراتها القديمة وأماكنها المقدسة. يغافل داويتْ مجموعته، وفي داخلهِ فضول لرؤية الأقصى من الداخل، حيث ستشعر هذه الشخصية التي نبتت على السطح، هذه الشخصية التي صنعها جابر في مختبر حي وحقيقي، ستشعر برغبة للبقاء في الأقصى إلى الأبد.
يرى الأوربي في قصص ديفيد حكايات مسلية قبل رفض طلبه للتوطين في إحدى الدول الأوربية، وترى طالبة الجامعة العبرية التي تجري بحثًا حول الحياة الجنسية للاجئين في داويتْ غرضًا لاختبار فرضيات علم النفس. إلا أنّ الكاتب يجيز لبطلهِ تحقيق نصرٍ خاص بهِ، إذ بدا ديفيد عبر حكاياتهِ للرجل الأبيض يمده بروح يفتقدها الأوربي؛ روح السرد والعاطفة. وهو يناوئ الطالبة ويتصرف معها على نحو يعرف حاجتها إليهِ، كان يجيز بنفسهِ، حدودَ استخدامهِ، وراح يستخدم الطالبة ليُشبِع غواياتهِ، وليستعيد "أدال" اسمه، الاسم الذي لا ينطق سوى بالحرية.