حكاية الولد الفلسطيني: بين وادي النسناس الحيفاوي ومخيم العائدين الحمصي

2017-04-12 05:00:00

حكاية الولد الفلسطيني: بين وادي النسناس الحيفاوي ومخيم العائدين الحمصي

لم أكن أتوقّع ولا حتّى في أكثر الأحلام ورديّة أن أحضر أمسيةً شعريّةً في هذه السنوات المبكّرة من عمري، ولا أن يمنحني شغفي بالشعر الذي بالكاد بدأت أتلمّسه وأتعرّف عليه رفاهية أن تكون تلك الأمسية على عتبة بيتنا في مخيّم اليرموك. أذكر أنّ الوقت كان في صيف العام 1971، وأنّني لم أكن قد تجاوزت سنّ الحادية عشرة عندما طلب منّي والدي أن أنضمّ إلى جوقة الرجال المتسامرين أمام بيتنا، كانوا حوالي العشرة يجلسون على كراسٍ خشبيّة صغيرة مقشّشة بصفّين متقابلين بين عتبة البيت وعامود الكهرباء، يستعيضون عن الإنارة الخافتة لشوارع المخيّم شبه الخالية من المارّة آنذاك بالحديث عن الثورة الحلم وفلسطين البعيدة القريبة والقرى والبلدات التي تركوها تواجه مصيرها وحيدةً إلى مخيّمات الشتات، وكذلك خروج الفدائيّين من الأردن إلى جنوب لبنان بعد مجازر أيلول الأسود.

جلست على العتبة أتأمّل وجوه الحاضرين مشنّفاً أذنيّ لإلتقاط ما تجود به ألسنتهم علّني أكتشف السبب الذي دعا والدي لمنحي شرف مجالستهم تلك، لم يطل بي الوقت كثيراً لأكتشف أنّ نجم السهرة كان شابّاً طويلاً نحيفاً على وسامة لافتة يزيدها حضوراً شعره الأسود الكثيف وشاربه وسالفاه الطويلان، فضلاً عن حديثه الهادئ المشبع بالفخر والحزن عن مشاركته في الحرب وسط اهتمام الآخرين وسيل أسئلتهم الذي لم ينقطع إلاّ عندما طلب منه والدي أن يلقي بعض أشعاره علينا، فابتسم ابتسامة حييّة والتمعت عيناه خجلاً وسط عتمة الشارع وقال بصوت يسافر بين مخيّمي العائدين واليرموك ومخيّمات الأردن وحيفا:

"إسمي أحمد

وأبي من يغسلُ موتاكم

ويسحّركم في شهر الصومِ

التهمةُ جوّال !!

حسنٌ.. هذا لا يرضي مولاكم‏

ودفاعي أني لم أسلم عينيّ إلى سلطان النوم‏ِ

فصعدت إلى الشارع‏

عايشت خروج الخيط الأبيض من فلك الخيط الأسود‏

وعثرت على الولد الضائع"‏.

وبين تصفيق الحاضرين وفضول بعض العابرين ألقى الشابّ الوسيم الذي لم يكن سوى الشاعر أحمد دحبور المزيد من القصائد، ثمّ أهدى لوالدي ديواناً شعريّاً مشتركاً مع مجموعة من الشعراء الآخرين بعنوان "قصائد منقوشة على مسلّة الأشرفيّة"، صادر على ما أذكر عن الإعلام الموحّد في منظّمة التحرير الفلسطينيّة يوثّق فيه الشعراء المشاركون تجربتهم الشعريّة خلال حرب الأردن.

غادر ذلك الولد الفلسطينيّ السهرة في آخر الليل واختفى في حلكة الشارع ليضيئ في داخلي الكثير من الأسئلة المتوالدة الكبيرة على طفل مثلي عن الشعر وماهيّته وأنا الذي كنت أتهجّاه عن بعد من خلال قصائد ديوان الوطن المحتل التي أقرأها لجدّي الضرير، أمّا السؤال الأكبر فكان عن القدر الذي بعث شاعراً كبيراً وذو تجربة حياتيّة ونضاليّة غنيّة رغم صغر سنّه ليفتح عيوني مبكّراً على ما هو أبعد من هاجس القصيدة، وأعني الممارسة النضاليّة وصدق الشاعر مع نفسه ومحيطه الإجتماعي، الشاعر الدمث المتواضع حفيد جدّته الكفيفة، المتصالح مع طفولته المعدمة إلى حدّ العوز، إبن الشيخ خضر مسحّر مخيّم العائدين ومغسّل أمواته من اللاجئين الذين لم يعودوا، الولد الذي أرضعته أمّه تفرّد حيفا وبهاء كرملها منذ الصغر، كان أوّل الشعراء الذين حظيت بمقابلتهم والإستماع إليهم والتأثّر بهم، فأقبلت بنهمٍ لا ينضب على التهام قصائده في تلك المجموعة حتّى اهترأت أوراقها الصفراء بين يديّ، ثمّ حصلت على نسخة أخرى منها في شبابي من أحد الأصدقاء بقيت في بيتنا المدمّر في المخيّم.

أمّا أكثر القصائد التي أعجبتني وقتها ولم تزل فقد كانت قصيدة "جمل المحامل" التي يقول فيها:

فيا جمل المحامل: سرْ بنا، وبإذن حُبّ الأرض لن نشكو 

سيسقط بعضنا والشوك محتشدٌ، 

سيُحرق بعضنا والشمس حاميةٌ، 

سيُقتل بعضنا والموت رمح في عُباب الدرب منشكُّ 

أجل.. وبإذن حبّ الأرض لن نشكو 

ولكنّا.. متى حان الوصول وعرّشَتْ حيفا على الأجفانْ 

سنُحضر جوعنا الدهريّ للدمع الحبيس، 

ونُفلت الأحزانْ 

فيا جمل المحامل: سِرْ بنا.. 

ومتى وصلنا، قل لنا: ابكوا 

فللفرح الكبير دموعه.. والحزن بعض فواكه الفرحانْ.

وكان أكثر ما أثارني ولفت انتباهي فيها إستخدام الشاعر للأغنية الشعبيّة الفلسطينيّة وتوظيف الموروث الشفاهي في قصيدته الفصيحة مثل قوله:

بالهنا وأم الهنا يا هنيّة 

نادوا على وْلاد عمو تا ييجولو

بالطبول وبالزمور يسحجولو

والخيول المبرشمه يسرجولو

بالهنا وأم الهنا يا هنيه 

ولكن، يا هنيّهُ، ما لأبناء العمومة لم يطلّوا بعدْ؟ 

وما للخيل تُسرج والطبول تدقُّ لي عن بُعْدْ؟ 

أموت هنا.. ونخبي يشرب الركبانْ 

ألا لا برّأتْهم من دمي عمّانْ 

وغداً.. ماذا يقول الغدْ ؟ 

أما في الأرض.. 

من طرف المحيط إلى الخليجِ.. 

يدٌ.. ولو بتحية تمتدّْ ؟ 

وهذا ما جعلني أتبّع نفس الأسلوب عندما بدأت كتابة الشعر، وأذكر أنّني ضمّنت قصيدتي الأولى التي ألقيتها في أمسية شعريّة منذ حوالي ثلاثة عقود بعض أبيات العتابا، وكذلك فعلت في قصيدتي الأخيرة التي كتبتها قبل أشهرٍ فقط.

في موسم اللّوز ولد الشاعر الذي زرع عود اللّوز الأخضر في ديارنا، وفي موسم اللّوز غادر وادي النسناس الحيفاوي إلى مخيّم العائدين الحمصي لاجئاً، وفي موسم اللّوز أطلق شهقة الوداع في سماء رام الله وعادت روحه على جناحي طائر الوحدات إلى حيفا بعد أن وصلها جسده سابقاً. الولد الفلسطيني الذي حاول حماية عيون الأطفال من أنياب الضواري بكلّ ما أوتي من مفاتيح القصيد، والذي أتى بغير ما جاء به الآخرون خالطاً الليل والنهار بواحد وعشرين بحراً، جمل المحامل الذي أشهد العالم علينا وعلى بيروت بشهادته التي خطّها بالأصابع الخمس. النسرُ الذي رأيناه يسافرُ بعيداً، ناثراً ريشاته البيضاء على أحلام الأسرى المجمّعين في معسكر أنصار، يأبى أن يغادرنا قبل أن يمرّ على شوارع المخيّم التي تغصّ بالصور لكي يهدي وروده لجرحى الثورة ويزرع ما تبقّى منها لديه على أنقاض شاتيلا ساعة الفجر.

في ذكرى مجزرة دير ياسين، وفي ظلّ المجزرة السوريّة المتواصلة، رحل الشاعر الذي غنّى للنار والبارود، في زمن سقوط اليسار حمل أبو يسار مخيّمه فوق ظهره ونثره وروداً ومواويل شوق فوق مطلق الوطن المتاح وغير المتاح. راوية المخيّم وأفصح الشعراء وأقلّهم حظّاً وأكثرهم بعداً عن الأضواء، الفلسطيني السوري نديم ديك الجنّ، الحيفاوي الذي تتلمذ على يد العطّار الحمصي موريس قبق، حزم أربعاءاته كلّها في قصيدة فرحٍ تتدلّى منها خيوط الوجع فوق ليل غزّة التي كتبت له بائحةً بأسرارها كلّها، ورغم ذلك فقد غادرها عائداً إلى مخيّم العائدين، ومنه إلى رام الله ليموت هناك غريباً لاحقاً بزوجته الشجراويّة التي سبقته قبل عام.

وما يدمي القلب أنّ حياة الشاعر الحافلة الغنيّة شعراً وسياسة ونضالاً وإنسانيّة لم تُتح لجسده جنازة تليق به في الجزء المتاح من الوطن لتجعل من غصّة الفقد غصّات تجوب بلاد الله الضيّقة على الفقراء، بين مخيّم العائدين الحمصي ووادي النسناس الحيفاوي.