عندما قرأ غونتر غراس رواية "قلم النجار" لمانويل ريفاس، صرّحَ بأنها عرّفتْه بالحرب الإسبانية أكثر من أيّ كتاب تاريخ قرأه. هذا الاستنتاج، لن يخرج به، على الأرجح، القارئ العادي بعد اطلاعه على هذه الرواية، إذ إنها لا تسهب في وصف أية أحداث سياسية أو حربية، ولا مكان فيها لأي سرد صحافي أو توثيقي، حتى الوقائع الضخمة في مسار حرب فرانكو والجمهوريين، لن نجد لها أثراً بين صفحاتها. كما أن البطل فيها، أو الشخصية المحورية، لن تتضمن حياته كسجين سياسي تلك التفاصيل المأسوية أو ذلك النضال الوجودي المدمغ عادة بالعجائب والإنتصار المطلق والتراجيديات المؤقتة والميلودراما، والذي بات اليوم يسم الكثير من الروايات العربية المعاصرة.
بهذا المعنى، فإن "قلم النجار" (دار بلومزبري، ترجمة صالح علماني)، لا تأخذنا رومانطيقياً إلى أي جبهة قتال كما في رواية يوري بونداريف مثلاً "الثلج الحار" التي تلتزم بتعريف الرواية الحربية، ولا تُحوّل إغتيال ديكتاتور ما (تروخيو) إلى سردية واقعية آسرة كما في "حفلة التيس" لماريو فارغاس يوسا، أو تصوغ أندرغرواند العائلة والمدرسة والمجتمع المصغّر وصراع الخوف والحكمة، كما في الرواية التي لم تترجم بعد إلى العربية "أيام قوس قزح" لأنطونيو سكارميتا، والتي نتعرّف فيها على تفاصيل الدعاية الإنتخابية التي مهدت لسقوط بينوشيه.
وبالنظر إلى ما قاله غراس الحائز على نوبل للآداب، نستطيع أن نخمن بأنه قرأ على الأقل كتابين إثنين في التاريخ الإسباني الحديث قبل أن يطلع على رواية "قلم النجار". ما يعني أن الرواية بحد ذاتها، قد لا تكون أضافت لما يعرفه غراس فيما يتعلق بالخفايا السياسية والأبعاد التي شجّعتْ الحرب الإسبانية. وما قاله غراس يتعلق بالركائز المعنوية التي يقوم عليها نص الرواية، كالحب والفنون والذاكرة، والتي يبيّن لنا ريفاس بأنها تنجو في نهاية المطاف. بل نحن أنفسنا لا نكون قد نجونا من الحرب إلا لأن الحب والفنون والذاكرة قد نجت. لذلك، نصبح أكثر التصاقاً بها. ونسمح لها فيما بعد، بأن تفضح الأبعاد النفسية التي دمغتنا في الحرب.
وهكذا، قد لا يكون رأي غراس في الرواية، أكثر من تحيّز مفهوم لقوة الأدب، أو بالأحرى، لمنطق الأدب في إعادة إنتاج الواقع -أو جزء منه- بصيغ إنسانية كثيفة ومقتضبة. ففي الرواية، نرى كيف أن مشاعر بدائية، كالكراهية والغيرة والحقد، يمكن أن تُوظّفَ سياسياً للنيل من خصم ما. فتحل هذه المشاعر، بوصفها دافعاً، بدلاً عن أية محاولة لتفنيد إيديولوجية ما أو رؤيا سياسية. تتحوّل الحرب إلى مسألة ذاتية، وتُنتِج بين الخصم والخصم مسافةً هائلة لا يمكن ردمها إلا بالموت.
بعد فوز الجبهة الشعبية في انتخابات عام 1936 في إسبانيا، يقوم رقيب في جيش فرانكو بجمع حفنة من المتعاونين. ويقول إن عليهم مراقبة مجموعة من داعمي الجمهورية. وبعد الاطلاع على لائحة بأسماء هؤلاء، يطلب هربال (حارس السجن)، أن يؤذن له بمراقبة الطبيب المعتقل دا باركا. إلحاحه يدفع الرقيب للقول بأن لا شيء شخصي في الأمر، وأن المسألة سياسية، وهربال يكذب. فهو يريد التجسس على الطبيب، بغية تحطيمه. وهو المتورط بإشكال إنساني من نوع آخر. لقد قتل الرسام، وغنم قلمه. لكن صوت الرسام بقي عائشاً بعناد في رأس هربال. حتى أنه يخرج أحياناً ويجلس على قلمه الذي وضعه هربال الآن وبتبجُّح على أذنه، كغنيمة حرب. حالة تحيلنا على الفيلم الألماني "حياة الآخرين" الذي يحكي قصة ضابط الـ"شتازي" قبيل سقوط جدار برلين، والتحولات التي تضرب شخصه بعد تجسسه لفترة على حياة كاتب وصديقته الممثلة.
السجن مكان أساسي ومتصل بكل الأحداث الكبيرة في الرواية. وقد عزله ريفاس عن إخباريات الحرب وضجيجها وويلاتها وفظائعها. فلا مكان للسرد الميكانيكي ولا للمطولات أو ابتزاز المشاعر بلغة تقريرية. بدلاً من ذلك، فإن حياة في السجن يمكن أن تعاش كاستعارة شعرية وأن تفرغ سجّان من حقده، في موقف فلسفي لريفاس. هي دلالة أيضاً على قوة الذاكرة، وصراع الإنسان بين نوازعه الشريرة وضوابطه الأخلاقية عبر مزج شخصيات واقعية بأخرى متوهّمة. أحد المحكومين بالإعدام، وهو في غاية النحول، سيصرخ وهو يساق إلى حتفه "إننا ذاهبون لاقتحام السماء وأنا يمكن أن أمر براحة من ثقب إبرة". "قلم النجار"، بهذا المعنى رواية أشبه بحل لأحجية تقول: كيف تقفل صندوقاً ثم تملأه، دون فتحه، بالشعر؟
لكن ريفاس وبمنحه مهمة الراوي لحارس السجن هربال (الشخصية الثانية في الرواية)، فإنه يدفع به شيئاً فشيئاً لإدانة نفسه. ريفاس لن يجرّد هربال إنسانياً. بل يمنحه الفرصة في أن يحبّ. لكن، أن يحب المرأة الخطأ. امرأة خصمه، بل وفي السجن. سيعهد بعد ذلك لهربال بمهمة أخرى أكثر قسوةً: أن يتذكّر ذلك الحب. وأن يمر بالتالي بكل التعقيدات التي رسمتْ علاقته بالسجين السياسي والطبيب الخصم دا باركا. ماريسا هي ببساطة ليست من حق حارس سجون فرانكو. كأنما يحيلنا على فكرة أن غاليسيا، موطن ريفاس وموضوع رواياته كلها وبعض قصصه القصيرة، ليست من حق إسبانيا في شيء. فيقول "في قوانين فرونتيرا غير المكتوبة، لم تكن هناك وصمة أسوأ من كون المرء خادماً لدى من هم على الجانب الآخر من النهر".
ريفاس إذن، لا ينال من هربال بتصويره مقتولاً جسدياً. كذلك لا يمنح الدكتور دا باركا مجالاً لأن ينتقم من هربال بعد انتهاء الحرب. رغم أن الطبيب لديه المسوغ والمبرر الكافي في الأعراف الحربية والثأرية. فهربال الآن مفصول من الخدمة العسكرية، وفرانكو رحل وإسبانيا تعيش مرحلة جديدة. مع ذلك يتمسك ريفاس بالمنحى الإنساني الأوسع للإدانة، عبر موضوعتي الذاكرة والغياب. موضوعتان سيتكئ ريفاس كثيراً عليهما. فيحضران أيضاً في رواياته عبر شخصيات ليست حربية بالضرورة، بل طفولية أحياناً وأكثر براءة وعفوية. في إحدى رواياته، يعثر أطفال منفيون عن غاليسيا على قصيدة من القرن التاسع عشر. فيبدأ البحث عن الذات وتُطرَح مجدداً أسئلة الإنتماء الكبيرة التي نشتبك معها كل يوم.