كتب وأحلام

2018-12-12 00:00:00

كتب وأحلام
Marwan Kassab Bachi, Untitled, 114 x 162 cm, Oil on canvas, 2009

شولوخوف اليوم أقرب إلينا من تولستوي، ومن دوستويفسكي أيضاً. يشبهنا أبطاله أكثر مما يشبهنا أبطالهما. هذه الثورات أشبه بالحرب الأهلية الروسية منها بمغامرات الحرب والسلم ووجودية الإخوة كارمازوف وأسئلتهم الفلسفية عن الله والعبث ومعنى الحياة. 

ما الذي يبقى في الذاكرة مما قرأنا، بعد عقد أو عقدين من الزمن؟

بعض الانطباعات الغامضة، وأثر حسي يظهر فجأة في الأحلام، وفي الجولات الطويلة التي نعاند فيها الوحدة (أو نحتضنها)، وفي المواقف المحرجة.

لا يبقى الكثير من كل هذه الروايات والأشعار والقصص القصيرة والمسرحيات والأساطير والحجج الفلسفية والفكرية التي نحشو بها رؤوسنا لأسباب غير معلومة.

مع ذلك، يقرأ البعض باستمرار، دون توقّف.

(1)

كتب خوليو كورتاثار أنه تأثر بشدة بأحد مشاهد رواية "نقطة على نقطة" لألدوس هكسلي. في هذا المشهد، يستمع أحد أبطال الرواية اليساريين البرجوازيين (الذي نسيت اسمه) لإحدى سيمفونيات بيتهوفين (لا أذكر أية سيمفونية بالضبط) بهدوء، منتظراً مجيء الفاشيين. بالفعل، يأتي الفاشيون، يدقون الباب، فيفتح لهم، ويقتلونه (لا أذكر كيف)، فيما موسيقا بيتهوفن تنساب كجزء من المشهد، وليس كخلفية (لا أعلم إن كان هذا الوصف لكورتاثار أم لي أم لهكسلي).

كان يعلم أن القتلة قادمون؛ ولم يكن بطلاً. لا أذكر إن كان هذا ما أثّر بكورتاثار.

الآن، لا أتذكر شيئاً من الرواية تقريباً، ولا أتذكر في أي سياق ذكرها كورتاثار. 

ولكنني أتذكر هذا المشهد بوضوح، كأنه جرى أمامي فعلاً. 

استيقظت متأخراً هذا الصباح. تذكرت أنني كنت أحلم بكورتاثار. قرأت قصصه أول مرة في إسطنبول سنة 2005. كنا نتمشى على البوسفور، أنا وهو، وبيدي إحدى مجموعاته القصصية بالعربية. لا أذكر أية مجموعة، ربما "كل النيران". أذكر غلافها الأصفر جيّداً. في الحلم، كان كورتاثار متعباً، ومبتسماً. قال لي، "الفاشيون يقتلون أحدهم الآن. في سوريا أو في الأرجنتين أو في مكان آخر. يتشابه الفاشيون كثيراً يا فتى. تذكر هكسلي."

تخلص الأرجنتينيون من الديكتاتور الفاشي، بعد نضال مرير.

أمامنا يمتد بحر البوسفور الذي يجمع، أو يفصل، قارتين: بينهما تستقر نظرة الرجل الضخم المنفي، المتعبة، السمحة، من قارة ثالثة.

(2)

بعض الأحلام تتسم ببساطة مفزعة. منها ذلك الحلم أنني أقرأ مرسيل بروست في غرفتي في دمشق مساءً. تدخل أختي لتثرثر وتنم، وأمي تسأل إن كنت سأعود مبكراً أم أنني سأقضي الليل في الخارج. 

أستيقظ مذعوراً. تمضي بضع دقائق قبل أن أتعرّف على المكان.

أجلس أمام النافذة متأملاً المطر الغاضب بحزن، في منفاي الهادئ في الريف الإنكليزي.

لا كابوس يؤذيني كهذا الحلم البسيط.

ألم يفتتح بروست روايته بمشهد مماثل؟

(3)

في أحد المشاهد الأكثر عنفاً في رواية "الدون الهادئ"، يروي شولوخوف كيف كان بطله يراقب أفراد مجموعته العسكرية "الحمراء" يتناوبون على اغتصاب فتاة تنتمي إلى "البيض". لم يستطع البطل حتى الاعتراض على هذا الفعل الهمجي. تابع مسيرته معهم، فيما استمرت الحرب والاغتصاب والتعذيب تعصف بالبلاد، واستمر أبطال الرواية يبحثون عن حب مستحيل. 

في نهاية الملحمة، يبقى شيء من هذا الحب في ذاكرة القارئ، والكثير من الأمل بمكان أكثر عدلاً لمن بقي من الأحياء. 

تذكرت هذا المشهد في ليلة طويلة شاركني فيها الأرق سريري، مستعرضاً صور المجازر الدامية بالسلاح الأبيض في كرم الزيتون في ريف حمص.

شولوخوف اليوم أقرب إلينا من تولستوي، ومن دوستويفسكي أيضاً. يشبهنا أبطاله أكثر مما يشبهنا أبطالهما. هذه الثورات أشبه بالحرب الأهلية الروسية منها بمغامرات الحرب والسلم ووجودية الإخوة كارمازوف وأسئلتهم الفلسفية عن الله والعبث ومعنى الحياة. 

الأهم من ذلك، نستذكر مع شولوخوف أن هذا العنف المنفلت ليس أبدياً، وليس قدرياً.

يبقى للرواية هذا الأثر الشفاف تقريباً: نور صغير لأنسنة ممكنة في أكثر الظروف قتامة.

علينا أن نتمسك بهذا النور.
بعض من الميتافيزيقيا، والأدب والفلسفة، تساعد في إضاءة هذا النور في ساعات العتمة.

(4)

لا يبقى الكثير في الذاكرة من مئات الكتب التي نقرؤها ليل نهار.

لا عزاء في هذا.

مع ذلك، يقرأ البعض باستمرار. 

 

نُشر هذا النص في كتاب "أما بعد... شهادات فنانين وفاعلين ثقافيين" الصادر مؤخراً عن دار ممدوح عدوان واتجاهات-ثقافة مستقلة.