عاطف أبو سيف... هل نصدّق الكاتب أم الوزير؟

2019-05-13 16:00:00

عاطف أبو سيف... هل نصدّق الكاتب أم الوزير؟

وربما الآن أصبح يعرف أبو سيف قاع البئر الذي وضع نفسه فيه، ومع ذلك لا يستطيع أحد حتى لو كان ناشطاً لديه ملايين المتابعين، أن يسلب منه تاريخه وذاكرته وحبه لغزة، لا يستطيع ذلك سوى عاطف نفسه!

تجمعني صداقة طويلة مع الروائي عاطف أبو سيف تمتد إلى عقدين من الزمان، وقد كنت شاهدة على إصرار هذا الرجل على تلقي العلم خارج قطاع غزة، حيث يعود محملاً بالقصص المميزة، فهو قصاص جيد للحكايات كتابة وشفاهية، واستطاع أن ينهي درجة الماجستير في بريطانيا، أما الدكتوراه فقد حصل عليها في إيطاليا باجتهاد شخصي ودون فضل لأحد حتى السلطة ذاتها التي عينته الآن وزير ثقافة.

كما ألّف كتباً مهمة في السياسة وعن المجتمع المدني في فلسطين إلى جانب الروايات التي رُشّحت واحدة منها لجائزة البوكر عام 2015 وهي «حياة معلقة»، ويكتب القصة القصيرة والأبحاث وتُرجمت كثير منها للألمانية والإنجليزية.

واجتهد في الكتابة والقراءة وتطوير فكره وسط ألم شخصي بفقدان والدته، وما تمثله له من ذاكرة غنية، وفقدان شقيقه المناضل نعيم أبو سيف، ومن الصعب التشكيك في حب أبو سيف لغزة والمخيم بل حتى في حبه ليافا أيضاً مدينته الأصلية قبل اللجوء إلى جباليا، ويافا اسم ابنته الوحيدة وسط "كبشة" من الأبناء الذين يشبهونه.

عاطف ليس "دحيحاً" أو "حافظ مش فاهم" بل هو شخص ذكي مثقف؛ تلاحظ ذلك بمجرد سؤاله عن أمر سياسي أو أدبي، وهذا كان السبب في أنه بقي لسنوات طويلة يشرف على تدريبات الكتابة الإبداعية والأدبية في مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي حيث ساهم في إبراز أجيال من الأدباء والأديبات الشباب.

كنت أقول دوماً  لبعض الأصدقاء من حولنا إن عيب عاطف الوحيد هو أنه قيادي في حركة فتح، فليس المشكلة في كونه قيادياً حزبياً، فكثير من الأدباء هم كذلك أولهم غسان كنفاني، ولكني أتحدث عن حركة فتح بالذات وفي هذه المرحلة إذ تورطت في السلطة والقمع والفساد واعتقال الصحافيين، واتفاقيات السلام مع إسرائيل، لا بل أصبح مطلوباً منه أن يبرر أغلبية ذلك، بعد أن تم تعيينه في مرحلة ما متحدثاً باسم هذه الحركة، ولا يخفف من وقع ذلك كونه مقموعاً من سلطة ظالمة أخرى هي سلطة  حركة حماس.

وهكذا غرق في هوة السياسة اللحظية ورد الفعل الآني في معركة بين حركتين كبيرتين تبتلعان أي أديب أو مبدع وتفرغانه من مضمونه في حلقة مكررة من الحرب الكلامية المتبادلة، ومن هنا لا يبدو مقنعاً على الإطلاق حين تضع حركة فتح على صفحتها خبراً يقول " المتحدث باسم فتح عاطف أبو سيف يفوز بجائزة كتارا الأدبية" فهو لم يفز لأنه من حركة فتح، ولا حركة فتح عينته قيادياً فيها لأنه كان يسهر على ضوء الشموع حين تنقطع الكهرباء عن المخيم، يكتب رواياته، ليحدثنا ساخراً في اليوم التالي كيف كاد أن يشعل حريقاً في أوراقه ومنزل العائلة.

لم يكن هذا الكاتب المتميز بالحكاية الشخصية ويعتبرها حبكته وعضد رواياته حتى في مقالاته السياسية التي ينشرها في مختلف الصحف المحلية والعالمية، وكان بعضها الأكثر صدقاً في الدفاع عن مسيرات العودة في جريدة "النيويورك تايمز"، لم يكن في حاجة إلى أن يكون وزيراً أو مستشاراً للرئيس أو متحدثا باسم فتح، فهو صاحب موهبة فذة تكفيه ليكون أديباً بارزاً يُشار إليه بالبنان، إلا أنه وقع في فخ المناصب السياسية والتي يقع فيها الأدباء الكِبار، ولا أدري لماذا تبقى السياسة بالنسبة لهم حلماً مُشتهى كما نزار قباني وليلى سليماني وونستون تشرشل، ومثلهم بالطبع وزير الثقافة الفلسطيني الأسبق إيهاب بسيسو فقد خسرنا شاعراً وناقداً إعلامياً مهماً، على الرغم من حرصه على النشر لكن الأمر لا يتعلق بالنشر بمقدار ما يتعلق بحدود التعبير وقيود السياسة والحفاظ على طزاجة العقل.

يقول عاطف في مقابلة مع صحيفة ألمانية، نُشرت مؤخراً وأثارت ضجة، وهي بالمناسبة مقابلة جميلة "أنظري، لقد عاشت عائلتي في يافا لأكثر من ألف عام. وأنا أعرف جميع جدودي وأسلافي بأسمائهم. أنا مستعد لأن أقبل بأن تكون يافا جزءًا من إسرائيل طالما ظلت غزة والضفة الغربية لنا. ولكن حكومة نتنياهو ترفض ذلك. فماذا تتوقّعين مني؟ أن أتنازل عن أكثر من ذلك؟ لقد تنازلنا عن نحو ثمانين في المائة."

ومن الواضح أنه أراد أن يدلل في قوة تنازله واستعداده له تعنت نتنياهو لكن اللغة خانته وجاءت العبارة تقريرية وليست اشتراطية أو تعجيزية، ولا أدري هل السبب الضياع في الترجمة أم صياغة الصحافية، أم أنه فعلاً مستعدٌ لهذا التنازل، لكن في كل لأحوال هي عبارة جاءت كنتيجة لمتطلبات الوظيفة وتماشياً مع موقف الرئيس عباس وسلطته.

ومن الأجدر لو أن عاطف قام بتوضيح ذلك اللبس، بدل أن يتهم الصحيفة بتحريف كلامه، فما يميزه صدقه، وإذا بدأ يتعلم من القادة حوله الخوف من النقد لدرجة الكذب، كحلٍ أسهل فهذا يعني أن شخصيته وصدقه الأدبي سيكونان من الماضي،  خاصة بعد أن تمت مشاركة المقابلة في البداية على صفحته الجديدة كوزير الثقافة في "الفيسبوك" لكن سرعان ما تم حذفها بعد موجة النقد الكبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي.

ومن يقرأ روايات ومقالات أبو سيف ويستمع إليه يعرف ببساطة أن تلك الأقوال ليست قناعات عاطف اللاجئ والروائي، فتكاد لا تخلو رواية من رواياته الستّ من يافا وحكاياتها، إلا أنها شياطين السياسة، هذا لا يعني أنه معذور بل على العكس هذا يعني أنه مُضاعف الذنب، فكيف للمثقف صاحب الرؤية المبشّرة للسياسي وتقود طريقه، أن يصبح بهذه التبعية ويتخلى عن يافا؟!

هل ذلك "كرمال عيون أبو مازن" الذي لن يبقى في الحكم طويلاً، في حين عاطف الأربعيني سيبقى في عالميّ السياسة والأدب، وستكون كل تلك التبعية مجرد ضياع للفرص؛ بأن يطور رؤيته الثاقبة والناقدة، وأن نقرأ له مزيداً من المقالات والروايات، ويصبح لدينا وزيراً متميزاً للثقافة لا أن نترحم على من سبقوه.

لا أنكر أنني شعرت بالغيرة على صديق قديم حين رأيت هذا الكم من الشتائم بحقه ممن يجهلونه، خاصة من لا يعرف حبه لغزة، وكيف نقلها إلى العالم عبر كتاباته خالصاً وفخوراً ومفضلاً إياها على أوروبا التي يستطيع الاستقرار بها في أي وقت وقد نصحته بذلك كثيراً بعد التهديدات الأخيرة التي طالته، لكنه لا يجد مدينة يحبها كما غزة.

وأقر أن هذا ليس خطأ الناس وحدهم، بل خطأه أيضاً حين أراد أن يكون في الحدث السياسي المارق والعابر ويعلق عليه باسم حركة سياسية، ثم يصبح وزيراً بتزكية من هذه الحركة، ويستمر بالتصريحات المسطحة لأفكاره، وتتحول إلى مجرد ردود في حرب الكلام الفصائلية وتذهب قيمة الروايات والأدب الذي بقي عاطف عقوداً يتحدثه ويكتبه ويعلمه لآخرين، كيف لنا أن ننظر إلى الخلف الآن ونتساءل يا صديقي هل أنت نفس الرجل الذي قرأناه واستمعنا إلى حكاياته وتعلمنا منه الكثير؟ فمن نصدق الكاتب أم الوزير؟!

ويبدو عاطف سيء الحظ في أول مقابلة عالمية له تنتشر بعد أن أصبح وزيراً للثقافة، فكل ما أراد قوله لم يفهم منه سوى عكسه تماماً، ولكن كان هناك أرضاً خصبة لهذا اللبس مهّد لها عاطف نفسه في تصريحات سابقة له حين برر عقوبات الرئيس محمود عباس القاسية على قطاع غزة كقطع الرواتب ووقف التحويلات الطبية، ما يجعله يخسر الجماهير قبل أن يصبح نجماً سياسياً، وكنت أفضله كاتباً فخوراً بنفسه صامتاً، فالإشكالية الأخرى في المقابلة؛ حين قال أبو سيف " قد تكون غزة هي المكان الأسوأ والأوسخ والأكثر اكتظاظًا بالسكّان في العالم. مكان يحكمه الأصوليون. لكنه مكانٌ أجدُ فيه نفسي في بيتي".

ولم تتأخر وكالة أنباء محلية تجهل الإملاء والنحو بنشر الاقتباس مقتطعاً من سياقه وتركيبته اللغوية بغرض التضليل وأنقله هنا بأخطائه اللغوية "غزة قد تكون المكان الأوسخ والأسوء في العالم فهي مكان يحكمه الأصوليون وغزة محاصرة من حماس وإسرائيل معاً"، وتجاهلتْ عمداً أن العبارة استدراكية يتبعها "لكن"، والاستدراك في قواعد اللغة: رفع توهّم حصل من كلام سابق.

وربما الآن أصبح يعرف أبو سيف قاع البئر الذي وضع نفسه فيه، ومع ذلك لا يستطيع أحد حتى لو كان ناشطاً لديه ملايين المتابعين، أن يسلب منه تاريخه وذاكرته وحبه لغزة، لا يستطيع ذلك سوى عاطف نفسه!

كان من الممكن لهذا الصديق القديم الذي كان ناقدي الأول حين كتبت مجموعتي القصصية الأولى بداية الألفية أن يمثّل من قال عنهم المفكر الفرنسي جوليان بندا "جماعة صغيرة جداً من الملوك الفلاسفة الموهوبين المتفوقين الذين يتمتعون بالأخلاق العالية ويمثلون ضمير البشرية"، لكنه تخلى عن ذلك سريعاً ونسي أننا لسنا بحاجة لمزيد من السياسيين أو الأفكار العابرة والمشاعر الخفيفة والإبهار البصري ووسائل نشر بسرعة الطلقة، بل كنا نحتاج لأولئك الذين يحاربون من أجل العمق والأفكار والكتب ويخلصون لنهجهم.