لماذا تركت "الفيس بوك"؟

2019-06-14 13:00:00

لماذا تركت
Untitled, Tayseer Barakat Acrylic on canvas, 42 x 48 cm, 2018

إن فعل الفرجة على "الفيس بوك" يعلمك الكثير، لذلك أنا الآن أعيش حالة تفهم واحترام للصامتين على "الفيس بوك" أكثر من الناشطين الذي مهما حاولوا جذب الانتباه فإن أهم قصة تبقى دورتها الحياتية هناك أقل من 24 ساعة، لذلك طوبى لمن ترك "الفيس بوك"، ولا أستطيع القول الشيء ذاته عن الماركسية!

قد يذكركم هذا العنوان بالكتاب الشهير لمصطفى محمود "لماذا رفضت الماركسية؟" والذي أرى الآن بعد أكثر من عقد ونصف على قراءته أن عنوانه كان يمهد لمرحلة مهمة، بالتأكيد أهم من محتواه؛ فهناك بعض الكتب عناوينها تمثل فلسفة مفصلية في التاريخ ولكن محتواها لا يفعل التأثير ذاته.

"الفيس بوك" ليس أقل من عقيدة لها طقوسها، وإذا ما كان محمود أعلن التوبة عن الماركسية ليعود للإسلام، فقد كنت أعلنت التوبة عن "الفيس بوك" لأعود إلى الواقع وحياتي في فرنسا التي لم أعشها حقيقة طوال وجودي منذ 2016، فقد كنت أقضي أغلب وقتي في الشارع الأزرق "الفيس بوك"، وبين أحداث المدينة التي اخترت إحداثياتها لتكون عنواني عليه، ألا وهي غزة وليس غيرها وليس أبعد منها، وبالتأكيد ليست فرنسا!

لقد كلفني ذلك كثيراً ولا أدرى إذا ما كانت صراحتي هذه ستذهب هباء أم أنني سأمس بها تجارب آخرين وأخريات، ولكني سأفعل على أية حال؛ لطالما رفضت الاندماج بأي مجتمع آخر طوال حياتي وقد جربت العيش في الإمارات ومصر، لكني كنت دوماً أرجع رافعة راية الاستسلام إلى غزة .

اليوم اختار للمرة الثالثة مجتمعاً آخر لي ولعائلتي هنا في هذه المدينة الساحرة "تولوز" لكن وجدت نفسي أرفضه كما فعلت من قبل، وقد عاونني "الفيس بوك" أن لا أعيش به إلا بالتماس السطحي مع المجتمع هنا؛ تعلمت أقل القليل من لغته، لم أندمج مع الطبيعة الجميلة فقد شعرت أنها لا تخصني، ولم أشعر أن منزلي يستحق التعب من أجله؛ حتى الجدران لم أجدد بياضها، إنني أتطلع إلى جدران أخرى أحبها.. جدران ليست في فرنسا على الإطلاق ولن يحبها أحد مثلي.

أتطلع للعودة لجدران منزلي في غزة، ولم أعتبر عيشي هنا في فرنسا سوى مؤقت، عابر، سيمرّ، وغزة هي حياتي اليومية عبر "الفيس بوك" أتواصل مع أهلها وأكتب عن قضاياها، لم أنتبه للتغيرات التي يشهدها أولادي في مكان جديد، فهم يندمجون وأنا أقف عند اللحظة التي وصلت بها إلى فرنسا.

أرقب غزة، كأنني أنتظر اللحظة التي سيتحسن بها كل شيء وأرجع إلى حياتي وعملي، وهناك كثيرون ممن هاجروا غزة ينتظرون مثلي هذه اللحظة للعودة، لكن هذا لم يحدث، لا بل أسوأ من ذلك فالأزمات تتكرر، والجميع يعيش على عذابات الناس من قادة ومعارضة.

لا أحد يسمع، لا شيء يتغير، العالم يمر وأنا وغزة على حالنا، "الفيس بوك" يجعلني وثيقة الصلة بها، أطور نفسي ببطء في الأماكن الجديدة، أغطس بالوحدة وربما الاكتئاب، ضيق تنفس أصبح يصيبني من التكرار الذي أشهده في الشارع الأزرق لمآسي مدينتي المنكوبة، ومناشدات لا أستطيع أن ألبيها.

وكان يجب أن أفعل شيئاً وحداً وأقرر قراراً واحداً حاسماً يشبه قراري قبل عام حين تركت التدخين ثم دخلت عالم النباتيين، قراراً واحدا آخر يضاف إلى لعبة الإرادة مع الذات، هذه الذات التي جعلتني الغربة في مواجهتها تماماً بل يتداخل وجهي بوجهها وقلبي بقلبها وعيناي بعينيها لأكتشف مزيداً من أناي المكسرة، وعيوبي البائسة وجزءاً كبير من هذه العلل كان سببها مرآة "الفيس بوك" وتأثيرها الكبير في رؤيتي لذاتي.

بدأ كل شيء كنتُ قد تمسكت به قديماً بالتساقط، كان هشاً وأنا الذي اعتقدته قوياً، فقد نسيت أن كل شيء نما في مدينة غير عادية كغزة، والآن في مدينة عادية بدت أن كل تلك الخيارات والنهايات خاطئة، لذلك كان يجب أن أنسحب، شعرت أني عشت سنوات طويلة ممتلئة بالغضب دون أن أشعر.

وهنا كان يجب أن أتخذ خطوة للخلف، وإلا جلدت ذاتي كل يوم على كل حرف وكلمة وخطوة فعلتها يوماً ما وشجعت الآخرين عليها، كان من المهم أن أفصل حياتي الحالية عن السابقة، وأن أعيش أقل في هذا الفضاء الأزرق بعد 12 عاماً متواصلة.

ولم أكن لأعرف ذاتي جيداً وأقارن هذه المقارنات لولا أنني أغلقت حسابي هناك، وعشت أكثر حاضري وجغرافيتي، أتطلع بشغف لتغير الاهتمامات لدى ابني وابنتي، أتعلم اللغة الفرنسية برغبة حقيقية، لا أكلم أحداً لأني مضطرة لذلك أو محرجة كما أفعل كل يوم حين أرى عشرات الرسائل في بريد الوارد بـ"الفيس بوك"، والأهم أني أستيقظ مبكراً، دون الحاجة إلى النيكوتين، أقابل الناس وأودعهم لأني أريد ذلك وليس بسبب مواقفهم على "السوشيال ميديا"، ومدى موافقة أفكارهم مع أفكاري فهذا أيضاً مجرد وهم آخر، مثله مثل الخوف على اسمك وصورتك وكل "الباكيج" الذي يأتي مع هذه العلنية.

تخليت أو حاولت أن أتخلى عن كثير من هذه الأوهام التي طبعها داخلي "الفيس بوك"، وقد تكون بالتعظيم أو التحقير، وخضتُ رحلة في تقييم الذات بعيداً عن علامات الإعجاب وتعليقات الغرباء والأصدقاء وعدد المتابعين والمشاركات والإعلانات، فهذا كله يعطينا وهماً بأهميتنا، والحقيقة أنه لا يغير شيئاً، بل قد يمثل ضغطاً كبيراً لتقديم قرابين التميز على الدوام.

وغالباً يتجاوز النظرة للذات ويصل إلى علاقاتنا وصداقاتنا والأسس والمعايير التي تجعلنا نتقبل الناس هناك، ومن ثم نسعى لنقابلهم في الواقع، وقد نكتشف فوراً أننا وقعنا في الفخ أو بعد سنين، وأن هذه المرآة الزرقاء ساهمت في خياراتنا الخاطئة أبعد مما نتوقع.

وهو ما حدث تماماً حين صدمتنا نهاية الربيع العربي الذي آمنا به وأحببناه، فلم تكن هذه المقدمات التي أعطانا إياها "الفيس بوك" في 2010 و 2011 وغذّاها مراراً وتكراراً.

أفسد حياتنا وجعلنا نبتعد عن خيارات حقيقية وواقعية وبسيطة، أبسط كثيراً من أن نحكم على أصحابنا من تعليق أو صورة، ففي الحياة كي تجدي صديقة (أو صديقاً) جيدة لن يهم كثيراً رأيها في دور الثقافة، وكي تجدي حبيباً (أو حبيبةً) مخلصاً ومتفهماً فلن تكفي آرائه بالحرية والنسوية. الواقع دائماً أكثر قوة وأثراً وهناك حاجة لنعود لنتعرف على الناس بالطرق التقليدية.

الأمور نسبية بالتأكيد، خاصة أن الفضاء الأزرق يبقى المجتمع العصري البديل، ولولا "الفيس بوك" لما كنتم  تقرأون -غالباً- هذه المقالة الآن، ما جعلني أعود إليه بعد خمسة شهور من ابتعادي عنه، وقد تحسن كل شيء، وأصبح لكل المدن ذات المقدار في قلبي وليس غزة تحديداً، وانغمست في حياتي بفرنسا، كأنني سأعيشها أبداً.

أتعامل مع "الفيس بوك" بتورط أقل؛ فلست ملزمة بالتعليق على جميع الأحداث، ولن أقع تحت ضغط المتابعين وكأنني حزب سياسي، فهذه ليست حياة أحد سواي، وأنا لا أمثل سوى نفسي غير الكاملة، وغير المحايدة.

ولا أنكر شعوري بالحياة من جديد حين عدت إلى "الفيسبوك" خاصة بعد توثيق حسابي، كما أنني غيرت عنواني على صفحته منذ يومين إلى مدينة "تولوز"، فأنا يا سادة لم أعد أعيش في غزة، لقد قضيت فيها 35 عاماً، وكان هذا كافياً.

إن فعل الفرجة على "الفيس بوك" يعلمك الكثير، لذلك أنا الآن أعيش حالة تفهم واحترام للصامتين على "الفيس بوك" أكثر من الناشطين الذي مهما حاولوا جذب الانتباه فإن أهم قصة تبقى دورتها الحياتية هناك أقل من 24 ساعة، لذلك طوبى لمن ترك "الفيس بوك"، ولا أستطيع القول الشيء ذاته عن الماركسية!