الثورة التي لم ينزل بها إلى الشوارع أحد.. ونجحت!

2019-11-06 13:00:00

الثورة التي لم ينزل بها إلى الشوارع أحد.. ونجحت!
هبة اللبدي

هذه الثائرة الصغيرة هبة اللبدي استطاعت أن تحتل مكاناً بين ثورات العراق ولبنان والجزائر بقرارها، وألمها، وعطشها، وجوعها، لتكون ثورة الواحد الفادحة أمام ثورة الملايين، إلا أن صاحبة هذه القوة لا تزال تتملكها دهشة الأطفال أمام حقد المحقق وقسوته، والتعذيب النفسي.

هي الثورات الصامتة، التي يعزف صاحبها لحنه منفرداً، يضع منهجيته، يبدأ، يقاتل، يصبر، يناور، وحين يكاد يستسلم ينتصر.

هي ثورة العاديين الذين يصبحون فجأة غير عاديين، لا تقودهم سوى الصدف ليحدث كل ذلك، تختبرهم الحياة على حين غرة، اختبار قاسٍ وعلني، ويكتشفون أنفسهم قبل أن نكتشف قوتهم، هبة اللبدي واحدة منهم، وثورتها من تلك الثورات التي تبدأ داخلها وتنتهي في دواخلنا.

تصفها أمها بالبسيطة، تقول إن البيت "ما فيه حس" بعدها، وبأنها كانت تقضي يومها في حديقة المنزل تصور العصافير والأشجار، هل ستفعل هبة ذلك مجدداً وقد خرجت اليوم أم أن تجربة السجن قللت البراءة؟ هل ستراودها في المنام ذات الأحلام قبل السجن أم أن أحلامها تغيرت منذ عشرين أغسطس الماضي حين اعتقلتها قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال سفرها إلى الضفة الغربية؟

أسئلة كثيرة في رأسي وأنا أشاهد تينك العينين الطفلتين، وأسمع صوتها ينشد بصحبة والدها في السيارة، هي لم تفعل أكثر من أنشودة، وحلم أن تشاهد فلسطين!

 وتكتشف معها أن للسجن أحياناً بعض الإيجابيات الإجبارية، كما فعل المتهم موروسو برواية "الغريب" لألبير كامو، فاكتشف تفاصيل الأشياء حوله لأول مرة بعد أن كان يراها طوال عمره! أما هبة فقد تمكنت من لمح فلسطين المحتلة، بلادها التي لم ترها من قبل.

 تقول في يومياتها الرهيفة، وقد تم نقلها إلى الخارج عبر محاميتها: "منذ مساء يوم الأحد 20-10-2019 أصبح عندي صعوبة ببلع الماء وأوجاع معدة شديدة ولذلك يوم 21-10 أي صبيحة اليوم التالي تم نقلي لمستشفى بني تسيون بحيفا، وأول ما دخلت القسم رأيت البحر فصرت أصيح ما أحلى فلسطين فقالت السجانة هذه إسرائيل فقلت لها لا هذه فلسطين."

وكانت هبة أعلنت الإضراب المفتوح عن الطعام في تاريخ 24-9-2019 حين تم تسليمها أمر الاعتقال الإداري لمدة خمسة شهور، وسط محاولات من إدارة وضباط مخابرات سجن الدامون إقناعها بالعدول عن ذلك، فرفضت، وقالت لهم: "مأساة الاعتقال الإداري يجب أن تنتهي، وأنا ذاهبة للنهاية فإما النصر وإما الموت، وإذا مت فاشبعوا باعتقال جثتي إدارياً كما شئتم."

ربما يبدو هذا الكلام لنا نحن في الخارج شعارات، لكنه في ذاك الوقت وذاك المكان يكون في سياق الألم والتجربة المضاعفة، فالشعار الوطني لم تخلقه سوى تجربة ألم ومأساة تفوقه خيالاً.

وهبة لم تخطط لأن تكون بطلة، إلا أن هذا ما حدث؛ فقد قادت ثورة لوحدها، لم يخرج بها أحد، ولم يهتف بها أحد سواها، ولم يخفق بها قلب أحد أيضاً، سوى قلبها، فكانت ثورة النفس والقضية والبطولة غير العلنية.

صبرت هبة على تعذيب المحتل، وألاعيب الجواسيس من الأسيرات "العصافير" وأدوار الكذب بين المحققين، وإذلال أنوثتها وصدمتها الأولى بقسوة الإنسان على الإنسان ولو كان إسرائيلياً؛ فهي لم تتوقع أن تشهد في حياتها حقداً كهذا.
 

هبة اللبدي


تقول في شهادتها "في البداية أغلقوا الباب علي وبقيت مجندة تحرسني، وخلال هذه المدة تم تفتيشي تفتيشاً شبه عار حيث رفضت إنزال ملابسي الداخلية أربع مرات على يد نفس المجندة، بعدها تم تعصيب عيني وتقييد يدي بقيود بلاستيكية وقدمي بقيود حديدية ونقلوني لقاعدة عسكرية تبعد حوالي ربع ساعة، أنزلوني وأبقوني تحت الشمس حوالي نصف ساعة، ومن ثم جاءت مجموعة مجندات واقتادوني لغرفة فسألوني عن وضعي الصحي وتم تفتيشي مرة أخرى. أخبرت المجندة بأنني بحاجة لتبديل الفوطة الصحية لأنني في الدورة الشهرية فوافقت بشرط أن تدخل معي المرحاض؛ كان المرحاض ضيقاً جداً بالكاد يتسع لشخص، فدخلت معي بسلاحها وكانت تنظر إلي وأنا أبدل الفوطة الصحية فتملكتني الصدمة وشعرت بالحرج والإذلال وانتهاك صارخ لخصوصيتي ولحقوق الإنسان."

وهذا كله حدث مع هبة في اليوم الأول حين تم نقلها إلى شرطة المسكوبية في القدس المحتلة، ومن هناك أبقوها تنتظر ثلاث ساعات قبل نقلها إلى معتقل "بيتاح تكفا" بالقرب من تل أبيب.

وتضيف: "وصلت بيتاح تكفا حوالي الساعة الثامنة مساء؛ كنت مرهقة كثيراً بسبب سفري من الأردن منذ ساعات الصباح الباكر وبسبب الدورة الشهرية وكل المعاملة القاسية، أنزلوني درجاً وممرات ضيقة وكانت زنازين تحت الأرض على ما يبدو، فيما كانت المجندة المرافقة لي تدفعني دفعاً وتتعامل بفظاظة وعدوانية، بقيت في الزنزانة حوالي نصف ساعة وبعدها أخذوني للتحقيق لغاية ساعات الفجر من اليوم التالي."

وأكثر ما يثير الاستغراب حين يقرأ أحدهم هذه الشهادة الصادمة أن الإعلام المحلي قام باختيار ما يريد من تصريحاتها وأغفل البقية، ونادرة هي المواقع التي نشرت الشهادة كاملة، فقد فضلت الصحافة المحلية نشر المعتاد من تصريحات الأسيرات والأسرى أي المتشابه في المعاناة والإجراءات، وما اعتدنا جميعاً على سماعه.

وبسهولة تكتشف أن هذه الانتقائية في نشر شهادات الأسرى هي ما تحوّل الأسير لـ"كلاشيه" مكرر، وبمجرد ذكره نشيح بوجهنا فنحن "حافظين الموشح"، ولا يخطر على بال أحد هؤلاء الصحافيين الجهابذة! أن الحكاية الخالدة والعابرة للحدود كامنة في التفاصيل الشخصية والشخصية جداً كـ"الفوطة الصحية" لأسيرة، وأن شعبنا بحاجة لأن تدخل الحكاية تحت جلده وتؤلمه كي يشارك الثورات المنفردة التي يصرخها كل أسير وحده بصمت.

 وهذا يذكرني بقوة بشهادة الأسيرة المحررة هناء الشلبي التي قابلتها في غزة، وقد ركز الإعلام عليها كبطلة، ولكن نسي المرأة المحطمة التي خرجت من السجن، فهو لا يريد أن يرى ألمها أو ينقل معاناتها العميقة.

 قالت لي هناء يومها أنه بمجرد وصولها من المعتقل إلى القطاع تجمع الآلاف حولها لالتقاط الصور والأحاديث الصحفية ولكن سرعان ما انفض عنها الجميع حين بدأت تأسيس حياة وتزوجت، فهناك واجهت التحديات التي قد يعتبرها الآخرون الحياة العادية إلا أنها كانت شديدة الصعوبة عليها!

وكانت شلبي خاضت إضراباً شهيراً عن الطعام في سجون الاحتلال، وتم الإفراج عنها شريطة إبعادها إلى القطاع في 2012، لكن هذه الإرادة لا تعني أنها امرأة خارقة فقد عانت من التوتر الشديد وفقدان الثقة، تقول "فقدت جنيني وأنا حامل في الشهر السابع، وقال لي الطبيب إن السبب هو عصبيتي وتوتري الدائمين".

ربما الإشكالية لا تكمن في الإعلام بل المتلقي، أي الجماهير، فنحن عَطُوبين إزاء قصص الشهداء، ومتمالكين حين نسمع عن الأحياء خلف الزنازين، ربما لأننا نُفتن بالموت، تأخذ الشهادة ألبابنا وتحيرنا، في حين يبقى الأسير في خانة المألوف، أو هكذا قدمناه لأنفسنا وللعالم.

هذه الثائرة الصغيرة هبة اللبدي استطاعت أن تحتل مكاناً بين ثورات العراق ولبنان والجزائر بقرارها، وألمها، وعطشها، وجوعها، لتكون ثورة الواحد الفادحة أمام ثورة الملايين، إلا أن صاحبة هذه القوة لا تزال تتملكها دهشة الأطفال أمام حقد المحقق وقسوته، والتعذيب النفسي.

تقول: "كنت أشعر أنني في مَحددة كلها أبواب وأقفال حديدية وكذلك قلوبهم من حديد. لقد فقدت الإحساس بوجودي كإنسانة فهم لا يعرفون الإنسانية، وقد أخبرت المحقق أن التعذيب النفسي عندهم أشد وأعظم من الجسدي فقال لي إنه يعلم ذلك."

وتتابع في شهادتها التي ستبقى حية بألمها وتفاصيلها "واصلوا الاستفزاز ولم يتورعوا عن البصاق نحوي ويرمونني بأقذر الشتائم ويسبوني، وبعض ما قالوه لي بأنني "سافلة"، "فاشلة"، "حشرة"، "حيوانة"، "بشعة جدا"، "انصرفي"، علاوة على التهديد كالقول: "راح تعفني بالزنازين"، كلام قاس جداً أول مرة سمعته في حياتي، قالوا لي أنت متطرفة وسبوا الدين الإسلامي والمسيحي وقالوا لي كلاماً عنصرياً بذيئاً كالقول: احنا اليهود جوهرة وأنتم ديانات متطرفة، أنتم زبالة."

بعد 25 يوماً من إضراب هبة عن الطعام، تثبت الروح أنها أبقى من الجسد، إلا أنها محكومة إليه وملزمة به، فقد بدأ الأخير بالتداعي؛ وخزات وأوجاع حادة بالقلب، إرهاق ودوخة مستمرة وشعور بالإغماء، وآلام في المعدة.

بعد 40 يوماً من الإضراب أصبحت تعاني من صعوبة في بلع الماء، وأوجاعاً شديدة بالمعدة وجفافاً حاداً، وانخفاض في نسبة السكر بالدم، وخسرت من وزنها أكثر من 10 كيلوغرامات، واقترب قلبها من التوقف..

لحظتها وقبل فوات الأوان.. أعلن وزير الخارجية الأردني عبر تغريدة على "تويتر" أن هبة والأسير الأردني الآخر عبد الرحمن مرعي، سيخرجان نهاية الأسبوع الحالي.

وانتصرت ثورة هبة اللبدي، الثورة التي لم ينزل بها إلى الشوارع أحد!

فهل ستصوّر العصافير من جديد في حديقة منزلها؟ أم ستبقى تردد الأغنية التي كانت تواسيها بالسجن: "بالحراب ذللي كل الصعاب.. لا تهابي، أنا أهديك شبابي.. لعلاك يا بلادي.. أنت أمي وأبي الغالي وعمي، أنت همي أنا أفديك بدمي من عداك يا بلادي"؟!

 

هبة اللبدي وقد نالت حريتها

 

مراجع 

-  مقالة في جريدة القدس العربي بعنوان " شهادة مروعة للأسيرة هبة اللبدي..".

-  مقالة في موقع المونيتور لصاحبة هذا المقال بعنوان "الجانب المظلم من حياة الأسرى المحررين".

- صفحة التضامن مع الأسيرة هبة اللبدي على الفيسبوك.