لا نملك إلا الوقت

2021-04-27 03:00:00

لا نملك إلا الوقت
Hosni Radwan, Jerusalem #1, 2018, acrylic on canvas, 102 × 113 cm

يزداد حمل العاملين في الحقل الثقافي/الفني لصناعة المعجزة بعد تعثر المشاريع الجمعية الأخرى لتخيل المستقبل، وتلتبس الأولويات بعد اختلاط غير متجانس لمستقبلات عديدة شكلها الغرور هنا وهناك.

 اليوم نحن أقرب إلى الخلاص أكثر من ما مضى، قد تزول لعنة كوڤيد-19 قريباً، بل وقريب جداً لدرجة أن الجديد قد حلّ ونعيش هذه الأيام بعضاً من سمات مرحلة قادمة لمحنا منها تطبيعاً أشد خطورة من تطبيع مدن السراب، تطبيع العالم كاملاً تحت رحمة رأس المال غير المشروط. سيستفيق أصحاب المصالح الصغيرة والمبادرات الهشة على مخالب غيلان جديدة مغروسة في ظهورهم.

بعدها ببطء، سنمحى جميعاً ويعاد تلويننا تدريجياً لنلائم تسلّط متشددي اليمين ورأس المال ومريدي الحكم. 

ذلك ممكن.

لم أعتد بعد مرور ثلاثة عشر شهراً على عشوائية التوقف والمسير، ولا أجد مخرجاً منطقياً لهيمنة القرارات الشمولية على كافة مناحي الحياة. فهمْنا جدوى الإغلاق مرّات قليلة وبلعناه مرغمين مرّات كثيرة أخرى، إغلاق فحياة عادية، إغلاق فحياة بشروط، إغلاق فإغلاق.

قال أحد الحكماء عن العبث، هو كالنار في الصيف وكالمراوح في الشتاء؛ هي هكذا الانظمة المثقلة بالفساد، لا جدوى من عتابها أو التعويل على قيادتها الراجحة وقت الأزمات. هل حقاً كنّا ننتظر سيناريو آخر لما ستنقلب إليه الأمور؟ 

زمن المعجزات ولّى، وتلاشت الفرصة الضيقة لترميم أدوات العمل الجماعي. 

ذلك ممكن.

الاحتلال الإسرائيلي، السلطة الفلسطينية، الانتخابات هنا، الانتخابات هناك، رؤوس الأموال، مشايخ المرحلة، كل صاحب قوة حقيقية أو رمزية راقب وتحين الفرصة لقول شيء ما خدمة لمشروعه الخاص. فبين صراخ أجهزة السلطة الأمنية على حواجز المحبة لتقول لنا، أنا هنا، وفرض الإسلام السياسي لنسخته من الشريعة في غزة، اقتحم الاحتلال الإسرائيلي ليلاً وبشكل روتيني بيوت الجميع ليقول لهم دون أن يقول، ما زلت هنا. 

طوال هذه الفترة لازمتنا الشائعات كما لازمت النظارة الشمسية وجه المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية، ولاحقتنا حالة غريبة من التشكيك وعدم الثقة؛ لا نصدق الأشياء رغم خسارة بعض الأصدقاء لعزيز أو لأكثر، كيف للموت أن يمرّ هكذا؟ كيف خلط الخوف كل الأشياء؟ 

تشابك حال البلاد أكثر، 

لتتسلى الأحزاب بلعبة الانتخابات على طولها، فترى رجال أعمال يدعمون قوائم انتخابية تليق بمشاريعهم العالمية، وتستشعر تفاني زعران القوى التقليدية في تجيش قوائم انتخابية قبلية، وتسمع خُطب مشايخ الدين عن ضرورة محاربة اتفاقية سيداو في ميدان مجلس سلطة أوسلو التشريعي القادم، وأمام أبوابه، وفوقه، ومن وراءه. بينما في الانتخابات الإسرائيلية، على المرشحين الفلسطينيين في مسلسل الكنيست تغيير حالة علاقتهم مع أذرع اليمين الأخطبوطي الإسرائيلي المتطرف إلى (It’s complicated) مرة أخرى، بعد أخرى.

نحن وهؤلاء، هؤلاء نحن، نركض في متاهة فئران كُشفت بعض معالمها في الأشهر القليلة الماضية، لا برامج مستقبلية سياسية واقعية أو حتى وطنية حالمة. أهو العمل الثقافي ملجأنا الأخير لصيانة الهويات الفلسطينية؟ أهي الحراكات الشبابية، والعمالية، والنسائية، والجندرية الوليدة هنا وهناك؟ 

ما الذي سيختلف الآن على صعيد العمل الثقافي/الفني، سواء كان مؤسساتياً أو جماعياً أو فردياً؟ هل تغيرت خطط العمل والمشاريع المقترحة، أم ما زالت مرهونة لتأويل التسلط كيفما كان، والتمويل كيفما أتى؟ ما شكل العلاقات المستحدثة لمناورة الأزمة، هل ما زلنا ننتظر زوالها مدججين بمعتقدات بالية؟ هل يمكننا الوقوف أمام الرجعية وجهاً لوجه دون إصدار حكم موتنا؟ هل يمكننا الوقوف أصلاّ؟

درسٌ مستفاد بعد مرور عام

أذكر في بدايات مسلسل الإغلاق هبتنا الجماعية لاحتلال الفضاء الاجتماعي الرقمي، تسابقنا لإثبات مواقف عبر غزوات لاحتلاله، الذي حسب ظني وبعد انقضاء هذه المدة لم يزد معرفتنا ثراء وعمقاً إلا القليل. لم تشكل مساهماتنا هناك إلا كسور أرقام  ضاعفت حسابات أغنياء وادي السيلكون في كاليفورنيا، الذين صقلوا بذكاء أدوات امتصت محاولات تغيير جادة واستغلتها للكسب المادي فقط ليس إلا. 

الفضاء الاجتماعي الرقمي بشكله الحالي مسخرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وانتظار حدوث تغيير عبره يشابه انتظار دابة المعصرة الوصول إلى مكان بعيد عنها؛ لن تأخذنا خوارزميات ذلك الفضاء الدعائية إلى أي مكان أبعد من معصرتها. علينا إدراك أن السعي إلى التغيير يتطلب فهماً أوسع لماهية الأدوات المستخدمة في تكوين المعرفة اللازمة لإحقاقه، لا أدعو إلى هجران الانترنت أو التنكر لاحتمالاته اللانهائية، ولكن أدعو إلى الانتباه إلى أدواته وارتباطها المتشابك بعجلة الاقتصاد العالمي، ودور مالكي منافذها في عنونة جهود التغيير المبذولة على نطاق واسع وتحويرها.

لا نملك إلا الوقت.

تلك الدقائق الثمينة نحتاجها كي نصغي إلى العالم، كي نقف أمام استبداد عقولنا بنا وأمام استنتاجاتنا القاصرة دوماً، نحتاجها كي نقف بصمت أمام الروح لنتأمل محيطنا المعقد. ربما كان في هروبنا إلى الفضاء الاجتماعي الرقمي ردٌ صبياني على قساوة الحياة، لا أعلم، ولكن ما أعلمه هو أن إنكار الحقائق أشد وقعاً على مريدي المعرفة من هذه القساوة، التي وبحكمة امتلاك الوقت سنكتشف صوراً مقابلة لها، تتجاوز المعتقدات الساكنة إلى فهم أوسع للحياة وخصوصية تراكب مفاهيمها المتعددة.

حاولت المؤسسات الثقافية وحاول الناشطون في المشهد تجاوز الأزمة، وأنتج عدد ضخم من الفعاليات على الورق وصفحات الإنترنت طوال الفترة الماضية؛ أعانتنا بعضها على الانشغال والتفكر، ومرت بعضها كما أتت دون تأثير يذكر، كما ساهمت بعضها دون شك على إعانة مدمني ثقافة "الثقافة" صناعة وتناولاً. 

يزداد حمل العاملين في الحقل الثقافي/الفني لصناعة المعجزة بعد تعثر المشاريع الجمعية الأخرى لتخيل المستقبل، وتلتبس الأولويات بعد اختلاط غير متجانس لمستقبلات عديدة شكلها الغرور هنا وهناك.

جهد الكثيرون في الأشهر المنصرمة كي يبقوا رؤوسهم فوق المياه خوف الغرق، يستشعرون صعوبة المرحلة، ويردونها عنهم بمبادرات عابرة لجغرافيا الحوائط، يحفزون أنفسهم وأقرانهم لمضاعفة جهود صناعة معرفة تعين على التحرر من التبعية كيفما كانت، ينتظرون المساهمة في عرض أدائي جريء، ونقاش بعد جولة في معرض فني، وتحري برنامج عروض أفلام قصيرة، وتنظيم ندوة إطلاق كتاب آخر.

ينتظرون حضور نشاط ثقافي/فني يسبق الواقع لا يلحقه.

لا وقت للهراء، فلا فائدة ترجى من نار الصيف ولا من مراوح الشتاء.