رابعاً، ثمة وجهة نظر تقول إن الحملة ضد الفيلم تعكس نظرة تقديسية وغير نقدية للذات الفلسطينية. هذا التقدير جزئيا صحيح ونحن نحتاج دوماً إلى تأمل نقدي للذات، بل وأحياناً نقد قاس. بيد أن لكل مسألة معطياتها الخاصة ولا يمكن جرّ هذا التوصيف وتطبيقه على كل المسائل والحالات من دون اعتبار لملابساتها.
فيلم "أميرة" الذي تدور قصته حول تهريب النطف عند الأسرى الفلسطينيين لزوجاتهم خارج السجن، يُختم بنهاية صادمة تمثلت في اكتشاف أن النطفة المهربة في حالة قصة الفيلم كانت لجندي إسرائيلي. النهاية الصادمة صدمت الكثيرين، وأغلبهم، وأنا منهم، لم يروا الفيلم، وتستدعي، النهايةُ، ومعها فكرة الفيلم، بعض الملاحظات.
أولاً، من حق أي مُخرج أو مُبدع أن ينتج ما يُريد فنياً، كتابياً، سينمائياً، وسواه. وفي المقابل من حق الجمهور والنقاد والناس، وخاصة من يرون أن العمل الفني المعني يتحدث عنهم على وجه التحديد، أن يرفعوا صوتهم تجاه ذلك العمل تأييداً أو نقداً أو شتماً. فور أن يصبح العمل الإبداعي، الكتاب، اللوحة، المسرحية، الفيلم، الأغنية، مطروحاً في الفضاء العام، فإن مؤلفه أو منتجه يموت مجازياً، بحسب المقولة المشتهرة للفرنسي رولان بارت "موت الكاتب". يعني ذلك أن العمل يصبح ملك المتلقين ومن حقهم أن يتعاملوا معه بالطريقة والمزاج الذي يرون وفي السياق المعني.
ثانياً، درامياً، وتبعاً لما نُشر عن قصة الفيلم ومن دون حصول فرصة لحضوره، ما من شك أن النهاية الصادمة وغير المتوقعة (twist) في استبدال النطفة، فيها إلماعة احترافية في صوغ الحبكة لو كان تطبيقها في سياق غير فلسطيني، أما فنياً فلا يستطيع المرء الحكم على الإخراج التنفيذي لهذه الفكرة الدرامية من دون حضور الفيلم.
ثالثاً، عطفاً على إقرار بما في الفكرة من ابتكار درامي، فإن جوهر النقاش حول قصة الفيلم ليس متعلقاً في الدراما أو الأبعاد الفنية، بل في السياق الفلسطيني الخاص جداً. قصته ليست حكاية سجناء عاديين في بلد عادي يهربون نطفهم لزوجاتهم، ويمكن للمخرج أن يتدخل ويقحم حبكة خيالية صادمة كتلك التي في فيلم "أميرة". هؤلاء أسرى حرب عادلة، وليسوا سجناء جنائيين، وهم "من تبقى لنا" من وهج قضية مقاومة احتلال استعماري ما زال يفرض بطشه وإرادته علينا منذ أكثر من قرن. هذه القضية وخاصة في الربع قرن الأخير، الأوسلوي، بهتت الكثير من جوانبها: ضاعت البوصلة، تشتت المشروع الوطني، قامت سلطة وعد أصحابها بأن تكون بوابة الاستقلال فصارت أداة أمنية بيد المستعمر، اختفت الفصائل، انشق الصف الوطني، تغطرس المحتل الصهيوني، تدحرجت أنظمة التطبيع العربي عند أقدام العدو وناصرتّه... وهكذا تطول قائمة الفشل والإحباط. مقابل كل هذا السواد، هناك بقعة مضيئة ساطعة، هناك شمس متوثبة في قلوب الناس، تصل حاضرهم المُحبط بماض قريب كان مُشتعلاً بالنضال والثورة والصمود والتضحية: هذه البقعة المضيئة هي الأسرى. هؤلاء ومعهم الشهداء هم أنقى من فينا، أطهرنا، أجملنا، هم مسطرة التضحية التي كلما نقيس أنفسنا بها وإزاءها نخجل من ذواتنا. الأسرى هم إشراقة البياض المُتعالية في واقع بشع، هم وعد الإصرار على الحرية. هؤلاء القديسون اجترحوا عبقرية تهريب النطف إلى زوجاتهم، إمعاناً في التشبث بالحرية. يحررون أرواحهم عبر إرادة بطولية مجنونة تمثلت في إنتاج أولاد يحملون دمغة الأب الذي كسر إرادة المحتل ولم ينكسر. الهبة المعارضة لفيلم "أميرة" يجب أن تُفهم في هذا السياق، سياق الحوم حول بقعة الضوء المُتبقية، كأن ثمة من يريد إطفاء الأمل ومنع ولادة الوليد الذي نهض رغم انف الواقع والمحتل.
رابعاً، ثمة وجهة نظر تقول إن الحملة ضد الفيلم تعكس نظرة تقديسية وغير نقدية للذات الفلسطينية. هذا التقدير جزئيا صحيح ونحن نحتاج دوماً إلى تأمل نقدي للذات، بل وأحياناً نقد قاس. بيد أن لكل مسألة معطياتها الخاصة ولا يمكن جرّ هذا التوصيف وتطبيقه على كل المسائل والحالات من دون اعتبار لملابساتها. قصة الفيلم الذي بين أيدينا والحملة ضده لا يندرجان في توصيف غياب نقد الذات لأكثر من سبب. أهمها، شبه الغياب التام لأي سردية سينمائية حول الأسرى الفلسطينيين تنقل درامياً قصصهم الأخرى التي تحايث في الكثير منها حدود المعجزات الإنسانية. لم نر أفلاماً تسرد لنا حيوات التنظيم الداخلي للأسرى، استكمالهم الشهادات الجامعية، تهريبهم للكتب والثقافة، تجاور الأب مع الإبن وأحياناً الحفيد في الزنزانة، الصمود ثلاثين وأربعين سنة في السجن، تتابع أجيال أبناء أو أحفاد الأسير، قصص الحب والانتظار، إلى غير ذلك، وصولاً إلى تهريب النطف وإبطال نفق حرية سجن جلبوع. لو كان عشر مُعشار هذه القصص المُعجزة حدثت وكان شخوصها إسرائيليين أو حتى في أي مكان آخر في العالم، لرأينا عشرات الأفلام تُنتج تخليداً للقصص الإنسانية المُذهلة. ولو كان الأمر كذلك وشهدنا أفلاماً عديدة تغطي سيرة وسردية الأسرى الفلسطينيين، ثم جاء فيلم "أميرة" اليوم ضمن مكتبة سينمائية كبيرة حول الأسرى لكان بالإمكان موضعته في إطار تنوع التغطية السردية. لكن في ضوء عدم التوازن الفادح في تمثيل هذه القضية درامياً وسينمائياً، لا يمكن قبول الفيلم ولا التسامح معه من منظور ضرورة قبول "النقد الذاتي".
خامساً، استطراداً في مسألة النقد الذاتي، علينا دوماً استحضار موقع الفاعلين وترف أو ضرورة النقد ذاته. هناك فرق كبير بين فيلم أمريكي أو إسرائيلي مثلاً ينتقد أمريكا أو إسرائيل في أي مسألة أمريكية أو إسرائيلية حساسة، وفيلم فلسطيني، جزئياً أم كلياَ، ينتقد فلسطين أو مسألة فلسطينية حساسة (مثل الأسرى والفيلم الحالي). الفرق يكمن في أن المُستعمِر يملك ترف الممارسة ومساحات في النقد الذاتي أوسع بكثير من تلك المُتاحة للمستعمَر. دول البطش والاستعمار، بما فيها إسرائيل، تستعرض على المغلوبين عبر الادعاء بتوظيف النقد الذاتي تاريخياً، بل وأحياناً "تصويب" جرائم الماضي التي اقترفت بحق الشعوب الأخرى. هذا "التصويب" الادعائي لا يؤثر في أرض الواقع ولا يبدّل المظالم. في حالة المغلوبين يأخذ الأمر وجهاً آخر، فمن يقع تحت الاستعمار تكون حساسيته أشد وأولوياته مختلفة، والنقد الأهوج أو "ادعاءات التصويب" قد تؤثر في الواقع الساخن الذي ما زال مُعاشاً.
فيلم "أميرة" لا يتحدث عن تاريخ ماض، بل عن واقع يحدث الآن، ويؤثر فيه ويشوهه. وهذا ينقلنا إلى النقطة الثانية وهي ترف أو ضرورة النقد ذاته. هناك ألف قضية وقضية تحتاج إلى نقد ذاتي داخلي فلسطينياً، ولو كان الفيلم حولها لما لقي هذه المعارضة الشديدة. في السياسة والسلطة، في الفصائل والانقسام، في العشائرية والتخلف المجتمعي، وفي مجالات عديدة نحتاج إلى نقد داخلي شديد ومستديم. هنا يصبح النقد ضرورة. أما أن يُترك ذلك كله ويتم التوجه إلى الإشراقة الوحيدة ومستودع الأمل والوجدان وهناك يُصار إلى ضرب أكثر الأوتار حساسية: الأسرى، ونسبهم، وأولادهم، وتحويل حكايات تهريب النطف المُعجزة إلى شبهة الاستبدال بنطف المُحتل، فإن ذلك يتجاوز "ترف النقد" ويشير إلى سوء تقدير وسطحية فهم أنتجت ما استحقّ أن يكون في موقع الاستهداف والاتهام.