في ذلك شكل استشراقي بحت، وكأن الفلسطيني لا يملك خياراً إلا بأن يكون صدى لصوت الجلاد في الحالات كلها

"صالون هدى" والوقوع في فخ العُري

2022-03-14 11:00:00

يصعد الفيلم إلى هاوية كبيرة، متجاهلًا حقيقة الدور الاحتلالي العميق الذي يمارسه المحتل لصناعة حلفاء له، والّذي يسير في مسارات متعددة وملتوية وكثيرة يتداخل فيها المعيشي بالاقتصادي بالذاتي وبالمورث الثقافي، والانزلاق إلى هذه الهاوية، هو انزلاق يضع الاحتلال في الظل، ويختصر الكثير من الحقائق المتعلقة به وبأدواره العميقة التي يمارسها بصورة ممنهجة ويومية تجاه الفلسطيني المطحون وسط دوامات كثيرة يحركها الأحتلال أولًا سواء أدركنا ذلك أو لم ندركه. 

مُؤخرًا وبصورةٍ واضحة، تُحرك صناعة الأفلام بالعموم والفلسطينيّة منها، حراكًا واسعًا في الفضاءات الرقميّة ومساحات الميديا المتنوّعة، ثمة استقطاب وموجات واسعة من وجهاتِ النظر المُتباينة تعقب نتاجات هذه الصناعة فيما يجعلها محور الحديث في العالم الأزرق بينَ الفترةِ والأخرى، ومؤخرًا شاهدنا بوضوح ما أحدثهُ فيلم "أميرة" من جلبةٍ واسعة وصولاً إلى فيلم "أصحاب ولا أعز" وانتهاءً بفيلم "صالون هدى"، وجميعها أفلامٌ أحدثت ثورات عاجلة، سرعان ما تتداعي وتنخمد تدريجيًا، تاركة خلفها انقسامات واصطفافات للرأي العام، الّذي تُحرك هذه الأفلام حالة السكون التي تُسيطرُ عليه، وهذا مما لا شكَ فيه، يَخدِمُ أولاً وبصورةٍ خاصةٍ صناعة السينما نفسها، التي يُوفِرُ لها هذا الاستقطاب مجالًا للرواج والنمو ويعززُ قدرتها على الاتصال والفعل والتأثير عمومًا، بمعزلٍ عن النظر في منطلقاتِها وموضوعاتِها وما تحاولُ قوله أو فعله.

وتبقى القيمةُ التي لا بدَ من التأكيدِ عليها قبلَ وبعد هذا كلَّهُ، هي قيمة حرية الفعل متمثلةً في صناعةِ السينما نفسها وموضوعها وطريقة عملها وحرية المُنشغلين بها من كتّاب ومخرجين ومُمثلين، بعيدًا عن الإقصاء ولغة الاتهام والتخوين والإسادة، في مقابل التأكيد كذلك على حريةِ رد الفعل المتجسدة في الرفض أو القبول أو التساؤل ومحاولات الفهم والشك وإعادة صياغته بعيدًا عن هينمة المؤسسة الرسمية ومكيناتها، وفي فضاءٍ مُستقل حرّ قادر على أن يكون متسعًا لكلِّ هذه الأصوات. وانطلاقًا من حضور هذه القيمة وما تَكَفلَهُ يُمكِنُ الحديث انطلاقًا من الحق في أن ينظرَ المشاهدُ بعينٍ ناقدة وعقلٍ يُمكنُ أن يحللَ ويركب ويربط ويلاحظ ما تحاول الصناعة الآخذة بالنمو والرواج السريعين قوله، خاصة  المُشاهد في السياق الفلسطيني والّذي هو سياق مركب ومعقدة في آن، وبالتركيز على محتوى الفيلم وانطلاقاً من حوارته ومشاهدهُ وبعيدًا عن تهويل نظريات المؤامرة والاستناد إلى ما هو ذاتي والالتصاق قدر المستطاع بالموضوعيّة، يُمكن لنا قراءة فيلم "صالون هدى" بالوقوف على المحطات التالية من الفيلم نفسه. 

العُري الذي ضلل الفكرة وشوشها

يَستهلُ الفيلم الفلسطيني وعلى غيرِ العادة المشاهد الأولى منه بمّا يُشبِهُ الصاعقة بالنسبةِ للعين الفلسطينيّة التي لم تعتد أن ترى جسدًا فلسطينيًا عاريًا بصورةٍ تامة وبطريقةٍ فجة، على غرار أفلام "+18" الغربيّة، فيما يُدخل المشاهد من حيث كون الفيلم فلسطينًيا لا من حيث كون المشاهد فلسطيني في حالةٍ من التوّجس والريبة، لأن هذا المشاهد ذاته يمكن أن يرى ذات المشهد في أي سينما أخرى دون أن يشكّل له مصدرًا للقلق، المشاهد الأولى من الفيلم كانت بمثابِةِ الفخ الّذي وقعَ فيهِ الكثيرون، مشهد العُريّ الصارخ والمفاجئ الّذي لم نعتد رؤيته هو المصيدة التي أرادَ مخرج الفيلم أن يورطَ المُشاهد بها كما أظن، لكن موضوع الفيلم ليس في هذا المشهد على الإطلاق، وأقصدُ بالمشهد حالة العُريّ الكاملة الجديدة إلى حد بعيد على صناعة السينما الفلسطينيّة، والتي كان من الممكن جدًا أن تكون أقل فجاجة مما تبدو عليه في الفيلم، لكن المُخرج أرادَ لها أن تكون بهذا الشكل الواضح تمامًا، وبعيدًا عن النقاش في حريةِ ممارسة ذلك، وهل لهذا ضرورة فنية أم لا؟

وبعيدًا أيضًا عن كل كليشيهات الجسد الفلسطيني المقدس أو غير المقدس، بعيدًا عن هذا كلَّهُ، السؤال المطروح هنا: هل تَعَمَدَ مخرج الفيلم وجود هذا المشهد؛ لتدعيم الفكرة الأساسيّة للفيلم والمرتكزة بصورةٍ واضحةٍ على سلطوية المجتمع الذكوري؟ كما سنرى ذلك بوضوح لاحقًا؟ هل أراد أبو أسعد الاستفادة من حالةِ الرفض التي تَحركتْ من نظرةٍ ذكوريّة فلسطينيّة رفضت رؤية جسد الأنثى عاريًا، فيما لم يكن هناك رفضًا بذاتِ القدر لرؤية جسد الرجل عاري في المشهد ذاته؟ هل أرادَ أن يستفيد من موجةِ الإنتقاد المُتوقعة في التأسيس لفرضية الفيلم الاستشراقيّة المبالغ فيها؟ 

نظرة استشراقية ومنمطة للواقع الفلسطيني

ما يحاولُ الفيلم قوله والمؤذي والخطير فعًلا، هو الشكل الّذي تَظهرُ فيه "المقاومة الفلسطينة" الوعي الّذي يحاولُ الفيلم خلقهُ تجاهَ الطريقة والأسلوب اللذين تستخدمهما المقاومة الفلسطينة، والتي تَظهرُ في الفليم على بصورةِ مجموعة من المُتربصين الذين تحركهم ذكوريتهم أولاً للاتهام والسيطرة وفرض السلطة واصدار الأحكام وتنفيذها بطريقةِ المحاكم العسكريّة الأحاديّة القاسية والسريعة، والتي لا تتحرى الدقة أو تحاولُ الفهم، وهنا يبدو موضوع الخيانة والعمالة والإسقاط هامشيًا في مقابل موضوع الذكورية والسطوة المُمارَسة على الضحية المؤنثة التي لا حولَ لها ولا قوة أمام مجتمع الذكور المُهيمن، ما هو تجسيد استشراقي تنميطي لمجموعة من النساء ضحايا المجتمع الذكوري السلطوي، اللواتي أجبرتهم هذه الذكوريّة على الوقوع في شباكِ العَمالة، النساء اللواتي يتعرضنَّ للقمع الذكوري والإهمال العاطفي يَسهُل وقوعَهنَّ في شركِ العمالة، وكأنّ الاحتلال لم يُسقِط بذاتِ الطريقة الكثير من الرجال في وحلِ العمالة أيضاً. 

يُصعّد الفيلم الصوت الأساسي في قضيتهِ تجاهَ المجتمع الذكوري السلطوي والقمعي، فيما ينخفضُ صوتُ الاحتلال المسؤول عن هذا كلَّهُ، حيثُ لا يحضرُ الاحتلال ومحاولاته المُستمرة والتي لا تُفرِّقُ في رغبةِ صناعةِ العُملاء بينَ الذكور والأناث، إلا في مشاهد محدودة جدًا في نهاية الفيلم، هذا على اعتبار أننا نسلّم وفقًا لهذا التنميط الاستشراقي تجاه ذكوريّة المجتمع الفلسطيني بهذا الصورة، التي يتخلى فيها زوج ريم في الفيلم عنها ويُغلق عليها الباب ويأخذ منها ابنتها لمجرّدِ أنهُ عرف بما حدث لها، ثم لننظر في حدث الزاوية -إن صحَّ التعبير- وهو حدث التحقيق بين هدى صاحبة الصالون، والمقاوم الفلسطيني، الحوار والنقاش الدائر والّذي يؤسس لمنطق العمالة، والّذي تُحركَهُ كذلك فكرة الاضطهاد الّذي تتعرض له الضحية في مجتمع ذكوري، الحوار الذي يقول إن هدى هي ضحيتكَ أنت أيّها الذكوري السلطوي، وأنت أيضًا ضحية أُخرى للاحتلال كلانا متورطٌ فيما هو فيه الآن على طرفي الخط، أنا كخائنة وأنتَ كمقاوم.

في ذلك شكلٌ استشراقي بحت، وكأن الفلسطيني لا يملك خياراً إلا بأن يكون صدى لصوت الجلاد في الحالات كلّها، ونحن فقط مجرد ضحايا متورطين بارتدادات الضحية المسؤولة عن ممارساتنا وسلوكنا، ولا نملك خيار أن نكون بُعداً ثالثًا، بُعدًا مستقلًا ومحايدًا يُمكِنَهُ أن يقررَ مصيره بعيدًا عن فكرة العنف الممارس عليه، بأن يكون مقاومًا دون أن يُمارس عليه عنف الاحتلال، أو بأن لا يكون خائنًا حتى وإن مارس مجتمع الذكور الهينمة عليه، هذا أيضًا مجدد إذا سلّمنا بحقيقة فرضية الفيلم، لكن الأبشع من هذا كلّهُ، كيف يتحوّل الاحتلال في النهاية إلى مُنقذ، ضابط المخابرات موسى الّذي تلجأ إليه ريم في النهاية؛ لينقذها من مطاردة المقاومة، المقاومين المتوحشين، الراغبين فقط في قتلها دون معرفة حقيقة ما حدث، المقاومين الذكور في مجتمع ذكوري يتخلى عنها كما فعل الزوج، مجتمع غير معني في معرفة الحقيقة بقدر ما يعنيه الإمعان في التنكيل بالضحية.

يصعد الفيلم إلى هاوية كبيرة، متجاهلًا حقيقة الدور الاحتلالي العميق الذي يمارسه المحتل لصناعة حلفاء له، والّذي يسير في مسارات متعددة وملتوية وكثيرة يتداخل فيها المعيشي بالاقتصادي بالذاتي وبالمورث الثقافي، والانزلاق إلى هذه الهاوية، هو انزلاق يضع الاحتلال في الظل، ويختصر الكثير من الحقائق المتعلقة به وبأدواره العميقة التي يمارسها بصورة ممنهجة ويومية تجاه الفلسطيني المطحون وسط دوامات كثيرة يحركها الأحتلال أولًا سواء أدركنا ذلك أو لم ندركه.