«نصف ابتسامة» لعدي الزعبي... شبكة قصصية عن سوريا قبل ٢٠١١

2022-11-14 14:00:00

«نصف ابتسامة» لعدي الزعبي... شبكة قصصية عن سوريا قبل ٢٠١١

بعض القصص كُتِبت بضمير الـ "أنا"، ويحضر فيها الراوي كمشارك في الحدث أو شاهد عليه، وفي قصص أخرى يستخدم عدي الزعبي ضمير الـ "هو"، في تنويع تقني يناسب تنوع الأشخاص والأحداث المحكي عنها.

لا تترتب الأحداث بشكل تصاعدي متعاقب في المجموعة القصصية الأحدث للكاتب السوري عدي الزعبي المعنونة بـ "نصف ابتسامة" والصادرة في ٢٠٢٢ عن دار "ممدوح عدوان"، ولكن هذا لا يمنع أبدا من أن نطلق عليها "متتالية قصصية"، لأن قصص "نصف ابتسامة" وإن كانت لا تتراسل على مستوى الدراما والحبكة والحدث، إلا أنها تتراسل بشكل محكم على مستوى "المزاج العام"، وبالمثل على مستوى حضور بعض الشخصيات.

غلالة من الشجن

في "نصف ابتسامة"، يسعى عدى الزعبي إلى كتابة قصص، لا تشتغل على التجريب مثلا، أو تحاول التسامي على الواقع إلى آفاق فانتازية، وإنما حاول القاص أن ينتزع ثمالة متبقية في قعر الذاكرة المضببة، عن سوريا قبل ثورة ٢٠١١، سوريا الأولى، التي تقع على بعد ١٢ عاماً تقريباً من تاريخ اليوم. هي محاولة لاستعادة تلك الحياة العادية في الشام، بمنظور محايد، عبر شخصيات عادية، دون التطرف يميناً أو يساراً، لا تهويل في الحزن ومناحات ولطميات، وبالمثل لا ادعاء أو مزاعم حول حياة وردية.

يستدعي الزعبي عبر هؤلاء العاديين، البسطاء، الهم اليومي، الهم الإنساني الذي يعني السوري ويعني كل إنسان آخر من جنسية أخرى: الحب، الخيانة، الخوف من أصحاب النفوذ، هموم المسؤولية والسعي إلى كسب القوت، قيود المجتمع على الحرية الفردية، الشقاقات بين الأهل والأصحاب، أو حتى المحبة بين الاهل والأصحاب.. إنها قصص عن المفردات الإنسانية الشائعة، ولكن بوجهها السوري ولونها الشامي.

كُتِبت القصص من منظور استرجاعي، هناك غلالة من ضباب الذكريات تسود في الأجواء، وهذا يصنع بشكل تلقائي حالة شجنية تغلف أغلب القصص حتى وإن كان موضوعها لا يتماس مع الحزن بشكل مباشر.

ومع حقن هذه الحالة الشجنية المبنية على الذكريات في عروق القصص، يصبح هذا اللون الكابي، هو الملمح الرئيسي الأول في قصص المجموعة، والخيط الممتد بين حبات العقد من القصة الأولى وحتى القصة الأخيرة. ومع هذه الاشتغال على "المزاج العام"، يتراجع اهتمام عدي الزعبي ببعض الملامح الحداثية للقصة القصيرة، ربما على رأسها فكرة "التكثيف" و "الحذف"، إذ يبدو الزعبي هنا غير معنيٍ بهذا الشكل من القصة القصيرة، قدر اهتمامه ببث وضخ تلك الغلالة الشجنية على امتداد قصص "نصف ابتسامة".

ومع تكرار حضور الراوي بوضوح، لا سيما في القصص التي حُكيت بضمير الـ "أنا"، يصبح من البديهي أن يستنتج القارئ أن هذه القصص بنيت على ذاكرة فردية، تخص شخصاً بعينه، ويترتب على ذلك تكرار حضور بعض الشخصيات والأسماء في قصص مختلفة، على اعتبار أن الراوي هنا هو مركز تلك الدائرة الاجتماعية، وإن كان كونه مركز لتلك الدائرة، لم يجعله مركزا للقص، وإنما، وفي أحيان كثيرة، يشبه دوره دور عدسة الكاميرا، التي ترصد، أو دور مصباح معلق في سقف الحجرة، يكشف الأحداث دون أن يكون طرفا فيها.

بعض الشخصيات التي تلعب دوراً رئيساً في بعض قصص "نصف ابتسامة"، نجدها في قصص أخرى حاضرة في الهامش، كلون باهت بعيد في الخلفية، فيدرك القارئ هنا أنه إزاء "شبكة قصصية" بخيوط ممتدة ومتباعدة، إلا أن تلك الخيوط في مجملها منسوجة في قماشة واحدة. هي سوريا في تلك السنوات البعيدة، بشخوصها وشوارعها وأحيائها وحوادثها الشهيرة التي كانت لفترات "حديث المدينة"، مثل قضية فساد وزير ما، أو أعرافها السائدة وغير الموثقة مثل حقيقة أن الكثير من المشاكل والمصالح كانت تنجز عن طريقة دفع الرشى.

التقنية واللغة في خدمة "المزاج العام"

هذا الاشتغال على العادي من منظور استرجاعي، جعل فكرة الاشتغال على "التجريب" هماً ثانوياً في "نصف ابتسامة"، فالسرد كلاسيكي في أغلب القصص، وربما لا نرصد محاولات طليعية في المجموعة إلا في مواقع قليلة يداول في عدي الزعبي السرد بين مقاطع سردية، تليها مقاطع شعرية، لا تساهم في تطوير الحدث، بقدر مساهمتها في ترسيخ ذلك المزاج العام الذي يغلف قصص المجموعة. فنرصد أبياتاً شعرية لأبي العلاء المعري، ألكسندر بلوك، أو حتى اقتباسات من الهايكو الياباني.

نرصد في مواضع أخرى، حقنا للأحلام، في روح الواقع التي تغرف قصص المجموعة منها، ما يحيل القصص ذات البعد الحلمي إلى لون مختلف قليلا عن بقية قصص المجموعة، مثل قصة "شيء لا يشبه الحزن"، التي وإن انطلقت من جذر واقعي، إلا أنها أثمرت في نهايتها حلماً أو كابوساً يكلل ذلك الواقع بتاج من خيال.

قصة "ليل ميسون" تختلف نسبيا أيضا في بنائها عن بقية قصص "نصف ابتسامة"، فهي القصة الوحيدة التي يطغى فيها الحوار على السرد بفارق واضح، لكن المدهش هنا، أن الحوار يكاد يكون في اتجاه واحد، ميسون تحكي، وعدي يستمع فقط ويعطي ردودا مقتضبة، وكأنما يفتح عدي الباب لميسون لتكشف نفسها، إنه يتعرف على قريبته أثناء تلك النزهة في وقت متأخر من ليل الشام، ثم يعيد التعرف عليها من خلال استعادة ذلك الحوار بينهما.

بعض القصص كُتِبت بضمير الـ "أنا"، ويحضر فيها الراوي كمشارك في الحدث أو شاهد عليه، وفي قصص أخرى يستخدم عدي الزعبي ضمير الـ "هو"، في تنويع تقني يناسب تنوع الأشخاص والأحداث المحكي عنها.

اختار المؤلف أن يكتب قصصه بلغة محايدة، دون اشتغال على جماليات مجانية. لغة على مقاس الحكي عن أشخاص عاديين في سياقات واقعية، مبنية على أبعاد الحياة اليومية في سوريا ما قبل ٢٠١١. هكذا جاء السرد بسيطا يعتمد لغة واضحة، تتخللها على مسافات بعيدة مفردات عامية أو أقرب للعامية حرص الكاتب على تنصيصها. مقابل حوار يعتمد الدارجة السورية، لغة منطقية لأنها لغة زمانها، دون تفاصح أو إغراق في المفردات شديدة المحلية التي قد يصعب على قارئ غير سوري فهمها.