يختتم الفيلم بمشهد مُحذر من مستقبل الاحتلال والسيطرة وتطورهما، فينتقل القمع إلى مرحلة مخبريّة جديدة من الأنبوب إلى الحاسوب. بدأت الحكومة برقمنة الاحتلال من خلال عملية "الذئب الأزرق" التي تفرض على الفلسطينيّين في منطقة H2 الوقوف أمام كاميرات جنود جيش الاحتلال.
في الدقيقة ٨٤ يجلس جنود إسرائيليون بلباسهم العسكري، في غرفة ما في مكان ما ويتبادلون الحديث. يجلس أحدهم بكل استرخاء وهو يحمل كتابًا في يديه:
- لا أصدق ما حصل هنا.
- الغرب المتوحش.
- أطلقتم النار باتجاه سيارة أجرة؟ هكذا بلا سبب؟
- نعم. مرت ضمن نطاق إطلاق النار، سألت الضابط فأعطاني تصريحًا.
- كل شيء مظلم هناك، مواطنون أبرياء، ٥٠ عائلة تحطمت اليوم.
تدور كل هذه المحادثة في جو غارق بنشوة النصر! فبعد الانتفاضة الثانية رد الاحتلال على المقاومة بفرق القناصة تلتها المدفعية الثقيلة تجاه السيارات والبيوت وكل ما يتحرك. ولا يزال حي أبو سنينه وبيوته شاهدين على ذلك!
في فيلمهما المثير Occupation lab H2 (٢٠٢٢) يعالج الإسرائيليان الصحافيّ نوعام شيزاف والمخرجة عيديت أڤرهامي سيرورة احتلال البلدة القديمة في مدينة الخليل، والاستيلاء على مبانيها وشوارعها، وإفراغها من الفلسطينيّين شيئًا فشيئًا وتحويلها إلى مرتع لأطماع المستوطنين المتزايدة. يرويان في فيلم مدته 105 دقائق بتسلسل زمنيّ معزّز بمقاطع أرشيفية هامّة تواكب أحداثًا تاريخيّة وراهنة، قصة حياة منهوبة بفعل قِصَر نظر القيادة الفلسطينيّة المحلية آنذاك والخطوات السياسية والعسكريّة الخبيثة التي اتُّخذت لتحوّل ٣ مستوطنين إلى ٨٠٠ تخصص لهم الحكومات المتعاقبة العتاد والحماية والمُرافقة ما لشيء إلّا لممارسة شعائر الاستفزاز التي تزيد امكانيات سلب الأرض وما عليها بذريعة الإرث الديني المنسوب لإبراهيم الخليل.
ليس غريبًا أن تحاول بعض الجهات الإسرائيليّة منع عرض الفيلم، فهو يشرح بتروٍ ودقّة كيفية تكوّن المنطقة المسماة H2، وهي جزء من البلدة القديمة في مدينة الخليل تمتد على طول شارع الشهداء وصولًا للحرم الابراهيمي، وكيف خضعت للسيطرة العسكريّة الإسرائيلية كونها مسكن ٨٠٠ مستوطن استمدوا الشرعيّة لأعمالهم الإجراميّة من قرارات المحاكم العسكريّة وصمت الحكومات.
يصل تعداد المدينة الأكبر في الضفة الغربيّة إلى ٢٥٠ ألف إنسان، ونرى على امتداد شارع الشهداء ومحيطه -تل الرميدة مثلًا- الحضور المكثّف لجيش الاحتلال ومَظاهره المتمثلة بالأعلام والرموز الدينيّة. بين فترة وأخرى تعود محاولات تعقيم المنطقة من التواجد الفلسطينيّ.
قسّم الفيلم؛ الذي تتصاعد حدّة موسيقاه لتتناسب مع تزايد ممارسات الاستحواذ؛ مراحل حياة الكائن المسمّى H2 وفق محطات زمنيّة، نشهد في كل منها التجربة المخبريّة وعرّابيها ومنفذيها. لقد أُخضع هذا الجزء من المدينة العريقة إلى تجارب صغيرة أدى تراكمها بمرور السنوات إلى إغلاق شريان الخليل المركزيّ – شارع الشهداء. أخلى الاحتلال أكثر من ١٠٠٠ بيت، وأَفقَر الباقين، وهوّد المكان بمنحه تسميات عبريّة.
يستنطق الفيلم شخصيات عايشت مراحل التمدّد الاحتلالي، منذ العام ١٩٦٧ حتى اليوم. جزءٌ منهم كان شريكًا في اتخاذ القرارات، وتشكّل شهادته توثيقًا مهمًا يجب إدراجه في المخزن المعرفيّ الفلسطينيّ، وبحث تفاصيله لتشكيل تصوّر مستقبليّ لما يمكن أن يشكله هذا النموذج من خطر على مناطق فلسطينيّة أخرى. فعندما يعرض الفيلم مقاطع أرشيفية لاحتلال المدينة عام ٦٧ وصور الجنود محمّلين بالسلاح على مقربة من منبر المسجد يولد لدى المشاهد شعورًا يحاكي ذاك الذي نختبره عند رؤية المستوطنين في باحات الحرم القدسيّ!
يستعرض الفيلم دور بعض القيادات الفلسطينيّة التي ترنّحت ما بين الخنوع والسذاجة، ففيما كان محمد علي الجعبري يترأس بلدية الخليل (١٩٣٩-١٩٧٦) كان التعامل مع المحتل الجديد وديًا! عزا الحاكم العسكري ذلك إلى أن الجعبري كان قائدًا عمليًا، لكن الواقع يوضّح أن ذلك التوجه الفرديّ عاد بالخراب على المدينة، فقد سعى وزير الأمن آنذاك موشيه ديان إلى تصميم الاحتلال بصورة تجعل الفلسطينيّين متكيّفين – متعايشين معه!
بعد استشعار نبض المدينة الخافت في العام ١٩٦٨ وصلت أول مجموعة مستوطنين الى الخليل وسط تقاعس الجعبري وكتمه لمحاولة التمرد على الواقع الجديد. بعد شهر من وصولهم أقيمت البؤرة الاستيطانية الأولى في الخليل- كريات أربع.
في العام ١٩٧٦ أقر الاحتلال ضرورة إجراء انتخابات "ديمقراطية" لرئاسة البلدية، دفع العمى والأنانية؛ وربما قلّة حيلة؛ رئيس البلدية إلى الاستنجاد بالاحتلال للحفاظ على مكانته كقائد اجتماعي ودينيّ، فكانت النتيجة طرد منافسي الجعبري، حمزة النتشة والشيوعيين الذين كانوا يعون المخاطر وضرورة التمرد على الاحتلال. فاز فهد القواسمي بالانتخابات وكان يمارس لغة التحضّر العمرانيّ. لم تخبو شرارة المقاومة بعد انتخابه، لكن عملياتها أدت إلى تضييق الخناق على الفلسطينيّين وطرد رئيس البلدية المنتخب خارج فلسطين، وتجديد الاستيطان.
يوضح لنا الفيلم من خلال استعراض خريطة محوسبة عمليات التوّسع الاستيطاني وعلاقته بالزمن. تعكس الخريطة مواقع إسكان بيوت مهجورة داخل المدينة بالمستوطنين، مع الحفاظ على مساحات بينها تتيح التوسّع وربط المناطق اليهودية ببعضها وإفراغها من العرب بالقوة. فنرى مثالًا لذلك "بيت هداسا" الذي استولت على طابقه العلويّ مجموعة نساء وأطفالهن! بدأ هؤلاء بحفر الارضية حتى وجد الفلسطينيّون في الطابق السفلي أنفسهم بلا سقف. كانت الاستفزازات وسيلة لتنغيص العيش حد الإنهاك.
تعترف القيادات العسكريّة الإسرائيلية بأن الهدوء الذي كان يطفو على سطح المدينة كان يغطي بركانًا من الغضب الذي تفجّر في الانتفاضتين. مما دفع الجيش الاسرائيلي إلى استخدام سلاح المدفعية ضد الأحياء السكنية بعد استيقاظ سلاح المقاومة. أتت مجزرة الحرم الابراهيمي لتشكل علامة فارقة في وضع الخليل، ومحركًا للحكومة الإسرائيلية لإخلاء المستوطنين، لكن مخططات رابين بقيت في الجوارير المغلقة. واتخذ القرار بسجن الفلسطينيّين داخل البيوت.
يوضح الفيلم الحالة الكارثية التي خلّفتها اتفاقية أوسلو، سواء تقسيم المدينة وخلق منطقة H2، أو التخاذل الذي ميّز تصريحات بعض الشخصيات القيادية، ففي مشهد مثير للغثيان نرى قائد الشرطة الفلسطينيّة في الخليل عبد الفتّاح جايدة وهو يصافح القائد العسكري لجبال الخليل ويصرّح للإعلام: نريد تعايش سلمي بين المواطنين والمستوطنين!
تعاظم الخطر الوجودي ليصل اليوم إلى ٢٠ حاجزًا، و١٠٠ نقطة تفتيش في مساحة لا تتعدى كيلو متر واحد! يواكب الفيلم كيف يعيش الفلسطينيّون في بيوت مطوّقة بكاميرات المراقبة والشبك الحديدي، يعرض مفارقات مؤلمة لجنديّ اسرائيليّ يواسي أمًا فلسطينيّة وقد جاء لاعتقال ابنها! وجنديًا عربيًا في جيش الاحتلال يهدد امرأة بسحبها للشارع إذا ما تابعت ممارسة حقها في التمرّد على الحاجز.
يؤكد ممثلو جيش الاحتلال من خلال شهاداتهم طوال الفيلم أن الأبرياء دفعوا الثمن! لكن أيًا منهم لم يحرك ساكنًا حتى العام ٢٠٠٤ وولادة منظمة "كسر الصمت" التي أخرجت جزءًا من الحقيقة للناس بسبب تمّكن أعضائها من الجنود تصوير الانتهاكات التي مورست خلال أدائهم خدمتهم.
إن خصوصية هذا الفيلم وتميّزه ليس في استنطاقه مجموعة من العسكريين، والسياسيين، والصحافيين، والناشطين وثقل شهاداتهم؛ بل بسينخورينيّة الاحتلال، وإشارته الواضحة إلى مخاطر السيطرة وتفاقم وضع الفلسطينيّين في منطقة H2 من المدينة. فبعد استعراض التاريخ وكل الأيدي التي مدّت لتخنق المدينة بما فيها تلك الأيدي الفلسطينيّة المتخاذلة، أو المتقاعسة أو الضعيفة؛ يقدم الفيلم فرصة للتعرّف على المؤسسات الإسرائيلية الفاعلة ضد الاحتلال، فيستخدم صورًا مصدرها "بتسيلم" و"كسر الصمت"، ويواكب فصلًا صغيرًا مؤلمًا وآنيًا من حياة الناس المحرومين من حريّة الحركة، وتجسّد الأبرتهايد، وتهديد الحياة والأمن الشخصيّ لمصوّر الأفراح عماد أبو شمسيّة الذي تحوّلت حياته إلى جحيم متعاظم بعد توثيقه عملية اعدام الشهيد عبد الفتاح الشريف على يد الجندي إليؤور أزاريا الذي أسقطت عنه المحاكم العسكريّة تهم القتل وخرج محتفلًا مع أشباهه من المتطرفين الذي يزورون منزل أبو شمسيّة المحاط بالشبك الحديدي مرددين على مسامعه: عماد أنت مسجون وإليؤور حُر!
يختتم الفيلم بمشهد مُحذر من مستقبل الاحتلال والسيطرة وتطورهما، فينتقل القمع إلى مرحلة مخبريّة جديدة من الأنبوب إلى الحاسوب. بدأت الحكومة برقمنة الاحتلال من خلال عملية "الذئب الأزرق" التي تفرض على الفلسطينيّين في منطقة H2 الوقوف أمام كاميرات جنود جيش الاحتلال.
إن مشاهدة هذا الفيلم عمليّة صعبة، فهو لا يكتفي بالتحدث عن ممارسات الاحتلال بل يصورّها، ويثير فينا شعورًا بالقهر لمعرفتنا أن هذا هو واقع مئات العائلات في الخليل، وأنه على بعد اصبعين هناك جزء المدينة الآخر الخاضع لسيطرة السلطة الفلسطينيّة يحمل اسم H1 وتدب فيه الحياة والتطور العمرانيّ ويشكل عصب فلسطين الحالية التجاريّ.
هذا العمل السينمائي الوثائقيّ ممتاز في محتواه، وفي سيرورة سرده، وفي لغته البصريّة، وموسيقاه التي تدفعنا للتوتّر وتُنذر بالسوء. لكنه محبط حينما نقارنه بقدرتنا السينمائية المحدودة في إدانة المحتل من فمه، وفي تكاتف جهات إسرائيليّة -بعضها مموّل حكوميّا- لدعم عمل وثائقي يزعزع مفهوم الضحيّة الذي تلّوح به دولة الاحتلال في كل محفل!