عادل منّاع يؤنسن قصص الفلسطينيين الباقين في البلاد

2023-02-07 11:00:00

عادل منّاع يؤنسن قصص الفلسطينيين الباقين في البلاد

تحليلٌ استند فيه صاحب «المجتمع العربي في إسرائيل: السكان، والمجتمع، والاقتصاد»، إلى التاريخ المحلّي بمنظور مجهري للوقائع. وهو يرى في ذلك تعزيزاً للرواية التاريخية للنكبة التي غالباً ما تم تناولها من منظور سياسي عام. وفي هذا الإطار، يستحضر المؤلف الأبعاد الإنسانية – التي غابت عن المشهد العام للنكبة.

اختار المؤرّخ الفلسطيني عادل منّاع في كتابه «نكبة وبقاء: حكاية فلسطينيين ظلّوا في حيفا والجليل، 1948-1956» (2016)، الصادر بنسخته الإنكليزية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية (بيروت ـ رام الله 2022)، معالجة النكبة من وجهة نظر مختلفة عما عهدناه في البحوث والدراسات الفلسطينية، حيث عالجها من خلال قصص الفلسطينيين الذين بقوا في البلاد بعد عام النكبة 1948، بعضهم هُجر إلى لبنان ثم عاد للبلاد "متسللاً"، وبعضهم هُجر من قريته الأصلية إلى قرية مجاورة. وكان منّاع وعائلته من أولئك الذين لجئوا إلى لبنان ثم عاد في قارب صيد سيرسو عند شواطئ نهاريا عام 1951.

في هذا الكتاب، الذي صدر باللغة العربية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية سنة 2016، وفي نفس الوقت بالعبرية عن "معهد فان لير"، يؤكّد المؤرّخ الفلسطيني بأنّ دراسته هذه هي محاولة لسرد رواية الفلسطينيين الذين بقوا في قراهم ومدنهم في الجليل ومناطق أُخرى داخل إسرائيل بعد النكبة، وهم الفلسطينيون الذين بقوا خارج السرد التاريخي في الروايتين الإسرائيلية والعربية. وهو ما دفع به ليكتب مجدداً تاريخ النكبة، فبعد سنوات طويلة حاول منّاع أن يحكي قصة المجازر الفظيعة التي حدثت في الجليل حينها، وكان يسمعها همساً على ألسنة الكبار، دون أن يفعل ذلك في ظلّ واقع مركب في الداخل، فحاول - كما يقول – "الهروب" نحو الحقبة العثمانية والتي كتب فيها الكثير من الكتب والأبحاث المميّزة حول تاريخ فلسطين العثماني.

ويشير إلى أنه بدأ العمل على كتابه منذ عام 2008، وكان تركيزه منصبّاً على أن الفلسطينيين هم وكلاء التاريخ، موثقاً نماذج من 170 قرية. وتأتي أهمية الكتاب (480 صفحة من القطع المتوسط)، من كونه دراسة موزعة على سبع فصول، عن حقبة تأسيسية في تاريخ الشعب الفلسطيني، وهو رحلة شاقة ومؤثّرة مع العائلات الفلسطينية في الجليل والتي واجهت مصيرها وحدها، وحاولت أن تجتهد لكي تصنع حياتها ولكي تبقى هنا.

ووفقاً للناشر، فإنّ الكتاب يحمل في طياته تجديدات متعدّدة: نظرية ومنهجية، وفي مصادر المعرفة ومراجعها. وينفض الغبار عن أسباب وحيثيات البقاء في فلسطين بعد سنة 1948 والتي ظلّت ضبابية قلما سلّط المؤرّخون الأضواء عليها. وفي ثنايا صفحات الكتاب يفرد صاحب «الفلسطينيون في القرن العشرين»، حيزاً كبيراً لمناقشة الدور الذي أداه "الحزب الشيوعي الإسرائيلي"، أو (ماكي) كما سُمي بحسب اختصار اسمه العبري، وتحديداً النقاش بشأن الشيوعيين الفلسطينيين ودورهم - مثلما يدّعي الكاتب - في تمكين وحتى دعم المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي في الخمسينيات والستينيات.

وهذا النقاش الذي يبرز مناهضة منّاع إيديولوجياً للحزب الشيوعي الإسرائيلي وبخاصة الشيوعيين الفلسطينيين، وهو ما يقوّض، بحسب قراءات متعددة، بعض مساهماته المهمة، وتُبعده عن هدفه السامي وهو كتابة تاريخ الفلسطينيين الباقين.

توثيق صراع البقاء وحيثياته

يروي منّاع في مقدّمة الكتاب حكاية طفولته عندما طُرِد من قريته مجد الكروم ليعيش مع عائلته لمدة أكثر من عامين في مخيم عين الحلوة في لبنان، قبل أن تعود العائلة بحراً في قارب صيد تهريباً. كانت القرية تعرّضت لغزوات ومذابح على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي وطرد المئات من أهلها خارج الحدود. ظلّت حكاية النكبة في مجد الكروم "سراً لا يذاع بحسب توصيات الوالد".

ويعتبر المؤلف أنّ الكتاب ليس تأريخاً للنكبة، بل هو ربط لما جرى في حرب 1948 مع قضية البقاء، لافتاً إلى أنّ هذه الفكرة شغلته منذ الطفولة، حين كان يسمع والده يتحدث عن رحلة اللجوء إلى وادي عارة ونابلس وشرق الأردن، ثم إلى مخيم عين الحلوة في لبنان، وكيف عادت العائلة من ميناء صيدا إلى قرية المكر، ومشياً على الأقدام إلى قرية مجد الكروم؛ مسقط رأسه، إذ أثّرت هذه الحادثة عليه وأصبحت جزءاً من ذاكرته الإنسانية وذاكرة المؤرّخ، بحسب قوله.
 


ويسرد المؤلّف في فصول الكتاب حكايات إنسانية وشخصية، مسلّطاً الضوء على بعض حالات «عدم الطرد» من مدينة وأغلبية قرى ناحيتها، والقرى الدرزية وغيرها. ويشمل حكايات من لم يطردوا، وآخرين طردوا ثم عادوا إلى وطنهم. موثّقاً كذلك، صراع البقاء وحيثياته منذ النكبة حتى حرب السويس ومجزرة كفر قاسم اعتماداً على منشورات ومخطوطات، مبرزاً في البحث الوثيقة الشفوية من خلال مقابلات أجريت مع من عايشوا الأحداث وكانوا شهود عيان عليها. أخذاً على عاتقه مهمة تسجيل شهادات عديدة لفلسطينيين وإسرائيليين أجراها على مدار سنوات في حيفا والجليل. كان لهذه الشهادات أهميتها في إثراء الرواية التي رسمتها بعض الوثائق والمراجع وكتب المذكرات التي تناولت طرد الفلسطينيين. وبحكم موقعه كباحث فلسطيني يعيش بين مَن بقوا في وطنهم، راجع ما نُشِر في دولة الاحتلال من صحافة عربية وعبرية خلال فترة خمسينيات القرن العشرين. وقام بتحليل نقدي لأعمال أكاديميين ودارسين إسرائيليين وفلسطينيين.

تحليلٌ استند فيه صاحب «المجتمع العربي في إسرائيل: السكان، والمجتمع، والاقتصاد»، إلى التاريخ المحلّي بمنظور مجهري للوقائع. وهو يرى في ذلك تعزيزاً للرواية التاريخية للنكبة التي غالباً ما تم تناولها من منظور سياسي عام. وفي هذا الإطار، يستحضر المؤلف الأبعاد الإنسانية – التي غابت عن المشهد العام للنكبة.

كما يحلّل منّاع في سياق دراسته، العوامل التي دفعت بدولة الاحتلال، بعد انتهاء الحرب، الموافقة على عودة آلاف المهجرين إلى خارج البلاد تقدّرها المصادر الإسرائيلية بحوالي عشرين ألفاً إرضاء لاعتبارات قبلية ودينية ودولية. إذ سهلّت الطبيعة الجغرافية العبور لسنوات في القرى الحدودية بين فلسطين ولبنان، بينما أقامت مناطق عازلة كما حدث في قرى الجليل الشرقي المحاذية لهضبة الجولان السورية، وتهجير معظم سكانها. أما بالنسبة لِقُرى المُثلّث فقد جرى ضمها إلى الكيان الإسرائيلي الناشئ رسمياً في ربيع عام 1949 بعد توقيع الأردن على اتفاقيات الهدنة وفق الحدود الموسعة التي تجاوزت حدود قرار التقسيم. ومع أنّ الاتفاق كان برعاية دولية يضمن بقاء حوالي ثلاثين ألفاً من السكان، إلّا أنّ إسرائيل واصلت السعي إلى التخلّص منهم بعدوانها المتكرّر على القرى الحدودية وارتكاب جرائم عديدة في مطلع الخمسينيات في قرى كفر قاسم وقبية والسموع، فيما سُمِّي بـ "حرب الحدود".

أما اتفاق الهدنة مع مصر فلم يوقِف عمليات التهجير من سكان النقب وسكان مدينة مجدل عسقلان إلى قطاع غزة بعد سنوات من انتهاء الحرب. وهو ما حدث أيضاً بالنسبة لسكان قرى الحولة الذين هُجِّروا إلى الداخل السوري في مطلع الخمسينيات.

والدراسة -بحسب الباحثين المختصّين- تشكّل مرجعاً للتأريخ السياسي والاجتماعي للفلسطينيين في شمال فلسطين، وتركّز على أحداث وقضايا وشهادات الضحايا، ويمكن القول إنّ منّاع أنسن خطاب ضحايا النكبة، ويسجل له نقده وسجاله الأكاديمي البارع للمؤرّخين الإسرائيليين الجدد وخصوصاً المؤرخ الإسرائيلي "بني موريس" الذي لا يرى في عمليات التهجير الجماعية إبان النكبة بأنها سياسية رسمية والدليل على ذلك عدم وجود أوامر مكتوبة في الأرشيف الصهيوني، وبمنهجية منّاع التي تعتمد روايات الضحايا أثبت عدم منهجية "موريس" واستنتاجاته الأيديولوجية.

وهذا الكتاب من الكتب القليلة التي يمكن إيجاده على رفوف المكتبات الإسرائيلية وتحمل كلمة "نكبة". رغم أنّ مؤلّفه عمل على إلقاء الضوء على معلومات جديدة حول المجازر التي ارتُكِبَتْ على يد جيش الاحتلال وعصابات الإرهاب في طبريا وحيفا وعدد من البلدات والقرى مثل ترشيحا، عيلبون، الطنطورة، بلد الشيخ، شعب، الطنطورة، ومجد الكروم، وبعضها لا يزال مجهولاً أو نُشِر بجهود فردية وبكثير من الحذر.

إنّ مساهمة صاحب «أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني (1800 – 1918)»، الهامة في كتابه هذا، تأتي من خلال اعتماده على 120 مقابلة شفوية، علاوة على المذكرات وكتب التاريخ المحلّية التي كتبها مؤرّخون هواة، الأمر الذي يشكّك في السردية الإسرائيلية المزيفة التي تقلّل من فداحة النكبة، ومن الدور الذي أدته دولة إسرائيل فيها، كما يدحض، في الوقت نفسه، السردية القومية الفلسطينية المطلقة، من خلال "أنسنة القضية الفلسطينية" وعرض شهادات الفئات الشعبية ليضيف "نكهة إنسانية وشخصية" إلى السردية التي نعرفها عن النكبة.

يُشار إلى أنّ المؤرّخ الفلسطيني عادل منّاع، متخصّص بتاريخ فلسطين في العهد العثماني، وباحث في الدراسات الإسرائيلية، وخصوصاً ما يتعلق منها بتاريخ الفلسطينيين الذين بقوا بعد نكبة 1948. يعمل منذ عدة عقود أستاذاً للتاريخ في جامعات فلسطينية وإسرائيلية، منها "جامعة بيرزيت" و"الجامعة العبرية". وكانت مؤسسة الدراسات الفلسطينية قد أصدرت له ثلاثة كتب عن لواء القدس وفلسطين عموماً في العهد العثماني. كما نُشرت له منذ التسعينيات عدة كتب ودراسات أخرى عن النكبة والفلسطينيين في القرن العشرين باللغات العربية والعبرية والإنكليزية.