محمد داود العلي: إنصاف ضحايا مجزرة تل الزعتر يقتضي قول الحقيقة كاملة

2023-03-02 01:00:00

محمد داود العلي: إنصاف ضحايا مجزرة تل الزعتر يقتضي قول الحقيقة كاملة

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن "سلسلة ذاكرة فلسطين" كتاب «مخيم تل الزعتر: وقائع المجزرة المنسية» (463 صفحة)، للكاتب الفلسطيني محمد داود العلي. يوثّق الكتاب الحوادث التي قادت إلى مجزرة تل الزعتر في آب (أغسطس) 1976، في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية، حرب السنتين، محاولاً تأريخ المجزرة بأبعادها السياسية والعسكرية والإنسانية، ومسلطاً الضوء على السياقات القانونية والاجتماعية والاقتصادية للاجئين الفلسطينيين في مخيمات اللجوء في لبنان. ويقدّم خلفية تاريخية عن العلاقات السورية - اللبنانية - الفلسطينية وتحوّلاتها خلال الفترة التي يغطيها. عارضاً الوضع الإنساني لـ 30 ألف نسمة في المخيم والأحياء القريبة منه، في جسر الباشا والنبعة والكرنتينا، خلال فترة الحصار التمويني، ويتتبّع مشكلات نقص المياه، وانقطاع الكهرباء، وضعف الخدمات الطبية، وحوادث قتل المدنيين في الملاجئ، وحتى صعوبة العثور على مدافن للضحايا.

لمزيد من التفاصيل حول الكتاب، كان لـ "رمان الثقافية" هذا الحوار مع مؤلّفه.
 

لماذا كتاب «مخيم تل الزعتر.. وقائع المجزرة المنسية» الآن؟

لا دلالة خاصّة لتوقيت صدور الكتاب في هذه السنة، ولا علاقة لسنة الصدور، بالقضية التي يطمح لإحيائها. فبمجرد انتهاء العمل عليه، اُرسل إلى الناشر، وهنالك خضع للتحكيم، ثم روجعت النصوص، والتعديلات، والهوامش، والمصادر، من قبل محرّري برنامج "ذاكرة فلسطين" في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، واستغرقت هذه العملية وحدها نحو عامين.

حدّثنا عن رحلتك مع هذا الكتاب منذ ولادة الفكرة وحتى صدوره حديثاً، وأنت تسعى لسبر أغوار مجزرة تل الزعتر محاولاً الإجابة على بعض الأسئلة الكبرى حول ما حدث يوم المجزرة في 12 آب/أغسطس 1976، والتي لم تجد جواباً حتى الآن؟

هنالك جانب شخصي في فكرة الكتاب. ففي نهاية عام 2013 حضرت إلى مخيم مار الياس للاجئين الفلسطينيين جنوبي بيروت، فتاة فرنسية تدعى مارلين للبحث عن أسرتها التي كانت تقيم في مخيم تل الزعتر بعدما تيقنت من أنها نقلت جريحة من المخيم المحاصر قبيل سقوطه بيد الميليشيات، ثم جرى علاجها في جونية، ثم ترتيب عملية تبنيها في فرنسا من قبل عائلة مسيحية لبنانية. علم شقيقي محمود بقصة مارلين، فبادر للتواصل معها علّها تكون فادية الابنة الصغرى لشقيقتي فاطمة التي فقدت أثارها مع أطفالها الأربعة (أكبرهم في العاشرة وأصغرهم في الثانية) يوم سقوط مخيم تل الزعتر في 12 آب (أغسطس) 1976. بنتيجة فحص DNA مع أقرب أفراد العائلة المحتملين، لم يثبت وجود صلة دم مع مارلين. لكن ظهور هذه الفتاة أنعش الآمال لأوّل مرّة منذ أربعين عاماً باحتمال وجود أحياء بين الذين فقدت آثارهم يوم سقوط تل الزعتر. هذا ما دفعني بعدها كصحافي للإلقاء مزيدٍ من الضوء على قصة تل الزعتر انطلاقاً من واقعة مارلين فطلبت من مراسل "الجزيرة نت" في باريس أن يجري مقابلة معها. فسافر إلى تولوز خصيصاً واستمع منها إلى تفاصيل روايتها التي كانت محور ملف نشر على موقع "الجزيرة نت" عام 2014 بعنوان «مارلين الفرنسية.. ابنة تل الزعتر».

كان ملف "الجزيرة نت" نواة لفكرة الكتاب. ففي سياق العمل عليه اكتشفت أنّ زميل دراسة، كان يسبقني بعامين في كلية الصحافة في جامعة صوفيا، كان هو القائد العسكري الأخير الذي أدار معركة صمود المخيم. وخلال مراسلاتي معه عبر الإيميل، وقعت على معلومات مذهلة عن ملابسات حصار تل الزعتر، يصعب توظيفها في ملف إخباري. وبعد فترة وجيزة تواصلت مع صديقي موسى البيك المقيم في ثعلبايا في البقاع اللبناني، فوعدني بأن يوصلني إلى بلال حسن مسؤول تنظيم الصاعقة في تل الزعتر الذي تحمله كافة المرويات المتداولة، مسؤولية سقوط المخيم بيد ميليشيات اليمين المسيحي. وما شجعني أكثر أنّ بلال أقرن موافقته على الحديث بالقول "أنا الصندوق الأسود لتل الزعتر".  بدأت العمل فعلياً على الكتاب مطلع عام 2015 واستمر لستة أعوام أي لغاية مطلع 2021. يمكنني القول إنّ الكتاب تضمن إجابات على غالبية أسئلة معركة تل الزعتر، لأنه ببساطة اعتمد على البحث في المصادر المكتوبة التي تناولت الحرب الأهلية اللبنانية ومعركة تل الزعتر، إلى جانب مقابلات أجريتها أو اطلعت عليها، مع شخصيات فلسطينية ولبنانية واكبت المعركة سياسياً وميدانياً ومقابلات بحث ميداني أجريتها مع نساء ورجال من سكان المخيم كتبت لهم النجاة.

قال محمود درويش ذات يوم: "أيّها النسيان: إنّك تليق بكلّ الأسماء ولكنّك لن تكون تل الزعتر". لكن رغم ذلك هناك أجيال من الفلسطينيين لا يعرفون حقيقة ما جرى لأبناء مخيم تل الزعتر عام 1976 خلال الحرب الأهلية اللبنانية، مع غياب الحديث عن المجزرة لأكثر من أربعة عقود. فما الذي جرى ولماذا برأيك كل هذا القتل والترويع حينها؟

غُيّب موضوع تل الزعتر عن الإعلام والتناول جراء إعادة تطبيع العلاقات بين القيادتين السورية والفلسطينية إثر انتهاء ما يعرف في لبنان بحرب السنتين، وتبدل الموقف الإقليمي بعد زيارة أنور السادات إلى القدس. وكان الأكثر إيلاماً أنّ التغييب طال مصير ضحايا المجزرة التي وقعت يوم 12 آب (أغسطس). لكن الصمت لم يلف جميع المعنيين بقضية تل الزعتر. فكتب الدكتور يوسف عراقي كتابه «يوميّات طبيب في تل الزعتر» عام 1977. وأصدرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كتاباً بعنوان «تل الزعتر الرمز والأسطورة» بتوقيع عدنان عقلة المعروف باسم (أبو أحمد الزعتر). وكذا فعلت الجبهة الديمقراطية التي أصدرت كتاباً جمعه وحرّره علي حسين خلف. وفي الذكرى الأربعين للمجزرة أصدر الدكتور عبد العزيز اللبدي كتابه «قصتي مع تل الزعتر». مع أهمية ما صدر لم يتطرّق أياً منها إلى الملابسات السياسية والميدانية التي سهلت وقوع المجزرة ـ كما لم تتطرّق صراحة إلى دور القيادة السورية وقدرتها على منع وقوعها. لفهم ما جرى من قتل وانتهاكات في تل الزعتر والدوافع الكامنة وراءها، يتوجب متابعة مجريات السنتين الأوّلين من حرب لبنان، لأنً معركة تل الزعتر كانت جزءاً منها.

ما الجديد الذي جاء به كتابك عما جاء في كتاب «يوميّات طبيب في تل الزعتر»، للطبيب في مستشفى تل الزعتر، يوسف عراقي، الذي صدر أوّل مرّة عام 1977؟

كتاب الدكتور عراقي وبعده الدكتور اللبدي يوثّق تجربتهما الشخصية في العمل الإنساني في المخيم خلال حصاره، وكذلك نجاتهما من موت مؤكّد يوم سقوط المخيم. كتابي ينقسم إلى قسمين الأوّل عبارة عن دراسة تاريخية تثبت أنّ إسقاط تل الزعتر أو إنقاذه كان جزءً من صراع إرادات بين حافظ الأسد من جهة وياسر عرفات وكمال جنبلاط من الجهة الثانية، في خضم الأحداث المتشابكة لحرب السنتين. وفي قسمه الثاني يحدّد الكتاب لأوّل مرّة كميل شمعون وزير الداخلية الأسبق بوصفه صاحب قرار الهجوم على تل الزعتر، ويتناول تفاصيل الهجوم بلسان الأحياء من قادة الميليشيات المسيحية لغاية سقوط المخيم. ويتناول كذلك الأحداث التي تبعت سقوط تل الزعتر، وفرار المقاتلين عبر الجبال وموت غالبيتهم هناك، وكذلك المجزرة المتنقلة التي وقعت في الدكوانة وجسر الباشا وكان ضحاياها من المدنيين. وكذلك ملابسات إسكان أهالي تل الزعتر في بلدة الدامور المهجرة.

في رسالته لك، قال الطبيب يوسف عراقي: "الحقيقة هي الضحية الأولى في زمن الحروب وذلك بسبب الدعاية والأجندات السياسية والخطاب التعبوي من جهة أو إخفاؤها بسبب الخوف من الإفصاح عن بعض جوانبها من جهة أخرى". سؤالي هو: كيف تعاملت مع توثيق مجريات الأحداث لكشف ملابسات ما حدث وتحميل مسؤولية هذه المجزرة المروعة لمرتكبيها دون تردّد أو خوف؟ وهل رأيت أنه من الضروري أن تبقى معلومات ما مغيبة خشية من جهة معينة مورطة في ارتكاب المجزرة أو التواطؤ مع فاعليها؟

لم أهمل أية معلومة ذات صلة بتل الزعتر، بما فيها تلك التي تكتم عليها قادة الفصائل الفلسطينية. لست مؤرخاً لكن إنصاف الضحايا يقتضي قول الحقيقة كاملة. كل المعلومات التي وردتني أخذت مكانها في سياق السرد. والمعلومات التي لم تجد مكانها الملائم، أفردت لها خمس ملاحق. الأوّل يتناول وصول القيادي العسكري في فتح (م. ن) من خارج المخيم. ويتناول الثاني رواية بلال حسن عن مشاهدته للقوات السورية التي شاركت في حصار المخيم. وتفاصيل فراره مع مقاتلي تنظيم الصاعقة إلى الجانب الآخر من خطوط القتال قبل يوم من سقوط المخيم. وهنالك ملحق لشهادة إمام حسينية تل الزعتر الشيخ عبد الأمير شمس الدين عن مشاهداته لفصول المجزرة، وكذلك ملحق يتناول رواية القائد العسكري للحزب الشيوعي اللبناني نسيم أسعد عن رحلة الانسحاب عبر الجبال إلى حين وصول مجموعته إلى مواقع القوات المشتركة. والملحق الأخير يتضمن التعريف بقصة مارلين الفرنسية.

هل ترى أنّ ما صدر عن المجزرة من مقالات وأفلام وثائقية وكتب - حتى الآن - أرّخ ووثّق هذا الحدث الجلل في تاريخ الشعب الفلسطيني بما يُكمل ويكشف الصورة الحقيقة بكل جوانبها لما جرى على أرض الواقع يوم المجزرة وما سبقه من أيام الحصار الجائر الذي ضُرب على المخيم؟

معركة تل الزعتر وحصاره ومجزرته كانت خليطاً من أحداث سياسية وعسكرية وإنسانية وقع أغلبها في الغرف المغلقة لكبار الساسة اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين. وهنالك جزء يتصل بالفلسطينيين المقيمين داخل المخيم وتفاصيل صمودهم. كما أنّ المعركة منذ بدايتها ولغاية انتهائها كانت جزءً مما يعرف في لبنان بحرب السنتين. وهي أبشع مراحل حرب لبنان لأنها شهدت قتل على الهوية وتهجيراً قسرياً حسب الديانة وفرزاً ديمغرافياً. واللبنانيون أنفسهم يتجنبون الحديث عن تفاصيلها لغاية اليوم. أزعم أنّ كتابي تناول القصة من كافة جوانبها. يكفيني ما قاله الدكتور يوسف عراقي بالنصّ في رسالته "في الختام لك مني كل الاحترام والمودة على ما قمت به من أجل إلقاء الضوء على مساحة كبيرة لما حدث في مخيم تل الزعتر وخاصّة الجانب الإنساني منها".

ما هي دقة مقتل نحو 4280 فلسطينياً عام 1976 في مجزرة تل الزعتر وباقي مخيمات اللجوء بلبنان، على يد القوات الانعزالية (حزب الكتائب اللبناني، وجيش لبنان الجنوبي، والجيش الإسرائيلي)؟

أثناء العمل على الكتاب تواصلت مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي في جنيف للحصول على تفاصيل مهمة مندوبها إلى تل الزعتر جان هوفلغر، لكني لم أعثر على ما توقعته رغم تزويدهم لي ببعض الروابط والتقارير. أتفهم تحفظهم وتأجيلهم عرض مضمون مهمة هوفلغر للباحثين إلى ما بعد عام 2035. لذا فقد تضمن الكتاب الأرقام المتداولة من قبل الفصائل والمراجع الفلسطينية الأخرى عن عدد القتلى. أقربها إلى الدقة الرقم الذي أورده الباحث يزيد صايغ في كتابه «الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949-1993». بتصوري أنّ العدد الدقيق لقتلى تل الزعتر من الفلسطينيين واللبنانيين الذين كانوا يقيمون فيه لم يتحدّد بدقة بعد.